أثناء الاحتفال بعيد الشرطة في 24 كانون الثاني/ يناير الماضي، تحدث
السيسي عن تزايد حالات
الطلاق، فاقترح اقتراحا "فقهيا" عن منع الطلاق الشفهي وحصْر الطلاق في الحالات الموثقة فقط، ثم توجه باقتراحه ذلك إلى شيخ
الأزهر على الهواء، ثم قال له: "تعبتني يا فضيلة الإمام"، فما الذي أتعبه من فضيلة الإمام؟.
منصب شيخ الأزهر في مصر يحظى بمكانة مرموقة بين أغلب المصريين، وهو يستمد مكانته من تعاقب أهل الفضل عليه كمحمد عبده وسليم البشري والمراغي وشلتوت وعبد الحليم محمود وجاد الحق، مع حفظ الألقاب للجميع، وجاء شيخ الأزهر الحالي "أحمد الطيب" ليتولى المشيخة عقب سلفه المرحوم محمد طنطاوي الذي أثار جدلا كبيرا بمواقفه، وأيضا في فترة اتسمت بسيولة كبيرة في الشأن العام بدءا بثورة يناير مرورا بانقلاب يوليو وظهور جماعات كـ"
داعش" وأنصارها، مما ألقى على الأزهر عبئا كبيرا لرغبة أطراف عديدة في جره لاتخاذ مواقف تدعمه، والحق أن الأزهر في الجانب السياسي انجرف أحيانا أثناء ولاية الشيخ الطيب، لكنه بشكل عام أخذ موقفا من الانخراط في الشأن السياسي إلا في وقائع محددة نلوم عليه ونختلف معه في تدخله فيها بتلك الصورة، ولكن يبقى للشيخ الطيب أنه لم يحول الأزهر لمؤسسة متملقة للحاكم أو مفرقة للأمة كما يفعل وزير الأوقاف أو المفتيان الحالي والأسبق أو مستشار الرئيس للشؤون الدينية.
النقد العلني من السيسي للإمام الأكبر تكرر من قبل عندما قال له في احتفالية المولد النبوي الشريف 8 تشرين الثاني/ ديسمبر 2016 "أنت بتعذبني"، وعندما قال في احتفالية المولد النبوي الشريف أيضا 13 كانون الثاني/ يناير 2015: "إنهم والدعاة مسؤولون أمام الله عن تجديد الخطاب الديني وتصحيح صورة الإسلام، وسوف أحاججكم به أمام الله" وهو الخطاب الشهير الذي تحدث فيه عن أنه لا يمكن لمليار وربع المليار أن يتغلبوا على ستة مليارات، وهذا التكرار للنقد العلني ربما يشير إلى خلاف بين رأس السلطة التنفيذية، وبين رأس الإدارة الدينية في البلاد، وهو خلاف بدت ملامحه في عدة محطات منها ما تعلّق بداعش، التي خرجت دعوات لتكفيرها أكثر من مرة وكان الأزهر يرفض ذلك بوضوح بقول رموزه: "أننا لا نكفّر أحدا من أهل القبلة أقر بالشهادتين"، مع تأكيدهم على وجوب محاربتهم، وأيضا أثناء اعتراض الشيخ على مجزرة فض رابعة العدوية وذهابه لبلدته في صعيد مصر احتجاجا على إراقة الدماء، وبيانات الأزهر لا نجدها كبيانات غيره من المؤسسات الدينية التي تذكر بعض الأطراف السياسية بالاسم، وكذلك بيانه عما جرى في جروزني من إخراج التيار السلفي من أهل السنة والجماعة رغم الخلاف الكبير بين المدرستين، وأخيرا في قضية الطلاق الشفهي التي رفضها الأزهر منذ سبعة أشهر تقريبا فأراد السيسي نقل الضغوط للعلن.
هذه المواقف يقدرها كثيرون للأزهر ولشيخه، مع الاحتفاظ بالخلاف في بعض المواقف السياسية الأخرى كما سبقت الإشارة، ولا يجد المرء في ظل الحملة الإعلامية على شيخ الأزهر -المتملقة لرأس النظام- سوى الشد من عضده دعما وتأييدا لموقفه من الحفاظ على
التراث الفقهي الذي لا نجد في الشيخ تنازلا عنه، وهذه الحملة بلغت حد التهديد من أحد الكتاب الذي طالبه بالاستقالة قائلا: "افعلها يا شيخ الأزهر وأنت في سعة من قرارك وحريتك، بدلا من أن تفعلها بعد أن تضيق عليك الأرض بما رحبت".
يمكن رصد بضع محطات مرّ بها الشيخ الطيب، فهو منذ أن أصبح شيخا للأزهر استقال من عضوية الحزب الوطني المنحل حتى لا تتعارض عضويته به مع عمله في المؤسسة الدينية الرسمية، وعقب قيام الثورة شدد على حقوق الشعب المشروعة ثم أفتى بحرمة التظاهر عقب تعيين عمر سليمان نائبا للرئيس وإعلان مبارك نيته عدم الترشح لفترة أخرى، وعلل الشيخ ذلك بأن النظام انتهى، وعقب نجاح الثورة برز وجه شيخ الأزهر بعيدا عن الضغوط السياسية فأصدر الأزهر خمس وثائق تجسد حقوق الشعوب في الحريات السياسية والاجتماعية والفنية، ورعى الأزهر الحوارات الوطنية بين القوى السياسية وحاول احتواء الاقتتال بين الفرقاء السياسيين، وهو دور الأزهر المطلوب الذي ظهر في أيام عافية الثورة وعافية الأزهر، ولما انتكست الحريات أُحضر الشيخ في طائرة بشكل عاجل من منزله بصعيد مصر ليحضر مشهد الانقلاب، في واحدة من أكبر أخطاء فضيلته، لكنه سعى لتخفيف ذلك بإبداء سخطه العلني على قتل المصريين، ثم بوضعه مساحة بين الأزهر وبين ذلك الصراع السياسي، والشيخ فضلا عن كل ذلك لا يتقاضى راتبه من المشيخة -كما يُنقل عنه- بل تعفف عن التكسّب من مال الدعوة.
شيخ الأزهر بشر يصيب ويخطئ، وجلالة قدر منصبه هي التي تحول اللمم إلى كبائر، كما تحول مواقفه البسيطة إلى منارات للاهتداء بسلوكها، والشيخ الطيب ننصحه بحب وود فيما قد نراه خطئا، وندعمه بصلابة إذا وجهت إليه حملات المتملقين للسلطة، حرصا على منصبه وقدره ومحبة كذلك "للطيب".