انشغل
جيلي؛ جيل الثمانينيات، بمسألة العلاقة بين السنة والشيعة، مع حرب
لبنان الثانية
في تموز/ يوليو عام 2006، وخرجت القضية إلى حيز النقاش العام عندما انخرط شباب
الحركات السياسية بمن فيهم طلاب الإخوان المسلمين، في تظاهرات داعمة للبنان، ولحزب
الله الذي قاد معركة صد العدوان، بشكل مباشر. وأذكر جيدا أن أحد ملصقات الإخوان
المسلمين في الشوارع المصرية والتظاهرات، جمَعَ صورا للسادة حسن البنا وأحمد ياسين
وإسماعيل الرنتيسي وخالد مشعل وحسن نصر الله معا، وكان علم
حزب الله مرفوعا في
تظاهرة الإخوان في الشارع، وبعد النصر اللبناني، شكر السيد حسن نصر الله المرشدَ
العام للإخوان المسلمين وقتها، الراحل الكبير الأستاذ محمد مهدي عاكف.
وقف
الإخوان داعمين لحزب الله بكل قوة، دون وجود نقاش حول أي اختلاف مذهبي، في الوقت
الذي كان السلفيون يحذرون فيه من الإعجاب بالحزب والدفاع عنه ومناصرته، باعتبار أن
الشيعة "أخطر على المسلمين من اليهود والنصارى". وبالطبع تعززت المقولات
السلفية بعد اندلاع الثورة السورية، ومشاركة الحزب في صف نظام الأسد، وارتباك
الوضع الإقليمي في اليمن ومن قبله العراق، وارتفاع صوت الخلافات المذهبية واستغلال
المذهب لتحقيق الطموحات السياسية للأطراف المختلفة، فانقسمت الساحة السنية الشيعية
انقساما ما كان أحد يظن له رتقا.
جاءت
"طوفان الأقصى" منذ عام تقريبا، لتذيب الخلافات المذهبية في أتون
الحرائق الصهيونية، وصهرَتْها لتخرج الأمة كتلة واحدة من هذا الأتون كسيف واحد
يحمي فلسطين، ويوجه إلى صدور أعدائها فقط، فامتزجت دماء حزب الله مع حماس والجهاد
وغيرهما من الفصائل الفلسطينية، ودماء حركة أمل مع دماء الجماعة الإسلامية بلبنان،
وأريقت دماء هنية في طهران، وصلى عليه أكبر مرجع شيعي في العالم، وهنية ابن أكبر
جماعة سياسية سنية في العالم، وقائد الحركة التي أذلت دولة الاحتلال.
امتزجت
الدماء والأرواح، وامتزجت الأهداف بل والمصائر، فمصير
غزة مرهون بجبهة لبنان أكثر
من أي جبهة أخرى، ومصير لبنان مرهون بالانفصال عن غزة، وهو ما رفضه حزب الله،
وأعلنه بكل وضوح أمينه العام في خطابه عن "مجزرتي الثلاثاء والأربعاء"،
وصار خطاب السيد نصر الله يومها بردا وسلاما على قلوب الهاوية أفئدتهم إلى غزة
وفلسطين.
انكسرت
إرادة نتنياهو في غزة، وغرق فيها رغم تدمير المدينة تقريبا، فلم يبق حجر على حجر،
ولم يترك مبنى سواء كان سكنيّا أو تعليميّا أو صحيّا أو حتى أمميّا إلا ودمَّره، وفعل
ذلك ليطعن
المقاومة في خاصرتها؛ الحاضنة الشعبية، مشيرا إلى عاقبة احتضان المقاومة
بكل دموية. لكنه رغم ذلك لم يستطع السيطرة على القطاع عسكريّا، ولا تستطيع قواته
التجول فيه بحريَّة، ولم يستطع منع السيطرة المدنية لحماس داخل القطاع، ولم يستطيع
تحرير أسراه، فقرر الاتجاه نحو الشمال ليوهم شعبه بانتصار زائف.
يكرر
نتنياهو نفس الممارسة باستهداف المدنيين، سواء في قصفه العنيف الذي بدأه أمس
الاثنين وارتقى فيه أكثر من 492 شخصا من بينهم 35 طفلا و58 سيدة، وإصابة 1645
بجروح، بحسب آخر بيان لوزارة الصحة اللبنانية وقت كتابة السطور، ويكرر الاحتلال
أكاذيبه مثلما فعل في قطاع غزة الذي زعم مئات المرات أنه فكَّك الكتائب المقاومة فيه،
وما يلبث أن يعود مرة تلو الأخرى مُطْلقا عملية في المكان، وكذلك في لبنان، حيت يقول
إنه قضى على ما بناه حزب الله في 20 عاما بتلك الغارات، فأي عقل يصدِّق ذلك!
يذهب
نتنياهو إلى لبنان بمنطق "التصعيد لوقف التصعيد"، بينما يصر الحزب على
منطق "الاشتباك لوقف القتال في غزة"، ورغم القوة الجوية الهائلة
والتكنولوجية للاحتلال، فإنه لا يستطيع السيطرة البرية على شبر جديد من الأراضي
اللبنانية في مواجهة حزب الله. وتجربة غزة دليل واضح على الضعف البري لجيش
الاحتلال، ما يجعل ذهابه إلى لبنان محاولة شديدة الصعوبة لعملية تصعيد محسوبة،
صحيح أن الحزب لا يزال يركز قصفه على أهداف عسكرية، في محاولة أخيرة لضبط الأمور
قبل إفلاتها، لكن تجاوزات نتنياهو الذي يوقن بأنه سيتلقى الدعم الغربي الكامل في
هذه المواجهة، قد تذهب بالأمور إلى حرب سيتضرر منها الاحتلال مثلما سيتضرر منها
لبنان.
يدفع
حزب الله اليوم فاتورة كبيرة نتيجة وقفته مع القضية الفلسطينية، وكذا دفعت جماعة
أنصار الله في اليمن، في القصف الذي استهدف الحديدة، ودفعت إيران ثمنا بخسارتها
لبعض قادتها العسكريين في فيلق القدس أو الحرس الثوري، وهذه كلها أطراف شيعية تقف
خلف جماعة سُنيَّة، وتقول إن قرارها معقود بموافقة الجماعة السنية على وقف القتال،
دون الحاجة إلى اتفاق منفرد معها لوقف هجماتها ضد الاحتلال، ما يؤكد معنى وَحدة
الساحات بالفعل لا مجرد القول.
إن
وقت المعركة الحالي يستدعي المضي فوق مرارات الماضي، وتقديم الدعم لكل من يقف بوجه
عدو الأمة الرئيسي، وهذا الموقف لا يعني تقديس الطرف المقاوِم للعدوان الصهيوني
على أي أرض من أراضينا، بل هو موقف الدعم أولا، ثم البناء على مكتسبات هذا الموقف
الوحدوي، لترميم الشبكات الاجتماعية على طول المنطقة وعرضها، التي تمزقت بفعل التقسيم
السياسي والمذهبي، ولإيقاف المتطرفين على الجانبين عن بث خطابات التفريق، وإدراك
أن وَحدة الساحات أو وَحدة الأمة لا تعني ذوبان الاختلافات بين الأطراف،
فالاختلافات موجودة وستظل، وإدارتها في ظل التعايش وأحيانا التجاذب أمر طبيعي، أما
إدارتها على وقع البنادق والقصف العسكري واللفظي فلن يؤدي إلى انتصار أحد الطرفين،
بل سيؤدي إلى انتصار العدو المتربص بنا جميعا.