هل يتنافى حفظ الخصوصية الدينية مع احترام التعايش بين الطوائف؟ سؤال لم يحصل أن تمت الإجابة عليه بجدية في لبنان، مع أنه يحتاج إلى ورش عمل ومؤتمرات ربما تؤسس لتشريعات جديدة تواكب التغيرات الثقافية التي استجدت خلال العقود الأخيرة، وتحديداً بعد ما عُرف بالصحوة الدينية في البيئتين السنية والشيعية. فهل منعُ بيع الخمور وتعاطيها في الأماكن العامة في بلدة لبنانية مسلمة يعتبر عملاً منافياً للقانون وإجراءً قامعاً للحريات، وقبل ذلك إثارة للنعرات الطائفية وتمييزاً بين المواطنين؟
تتعدد الإجابات وتتنوع تنوعَ البيئة اللبنانية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لكن الحقيقة التي لم يعد من الذكاء تجاهلها أن شريحةً كبيرة من الذين ينظرون إلى منع تداول الخمور على أنه عملٌ طيّب وواجب شرعي عند الإقتدار، باتوا اليوم يملكون القدرة في الواقع اللبناني على ما هو أكبر بكثير من منع الخمور، خصوصاً أن المنع المطروح في المرحلة الراهنة في بعض مناطق نفوذ حزب الله وحركة أمل، هو محدود في نطاقه الجغرافي.
القضية أعيد طرحها على الرأي العام مع بروز عريضة موقّعة من نحو ألفين وخمسمئة من أبناء بلدة كفررمان ذات الأغلبية الشيعية التي يبلغ عدد سُكانها نحو ثمانية عشر ألف نسمة. العريضة التي وافق عليها رئيس البلدية تُطالب بإقفال أربعة متاجر صغيرة تبيع الكحول في البلدة، وتستند إلى قانونٍ عثماني ينص على عدم جواز فتح محالّ خمور في الأماكن الإسلامية الشاملة أي التي تتكون الأغلبية الساحقة من سكانها من المسلمين.
العريضة المؤيَّدة من البلدية والمدعومة ضمناً من محافظ المنطقة (الممثل الرسمي لوزارة الداخلية) نأى وزير الداخلية نهاد المشنوق (تيار المستقبل) بنفسه عن معالجاتها، تاركاً الأمور كما قال "لمعالجة ودّية"... في المقابل هناك سيل من الاعتراضات على القرار من قبل بعض أهالي البلدة والتيار اليساري إضافة إلى جو عام في لبنان ينشأ في مثل هذه الحالات باستدعاء واستنفار من بعض وسائل الإعلام التي تعتبر مثل هذه الإجراءات ضرباً للحريات العامة وتهديداً لصيغة العيش المشترك ومحاولة لأسلمة لبنان القائم ميثاقاً بجناحيه المسلم والمسيحي.
مؤيدو منع الخمور في المناطق الشيعية لا يرون في ذلك تعدياً على الآخرين ولا مسّاً بصيغة الوحدة الوطنية، بل هو نوع من الخصوصية المتمّمة لممارسة العبادات يجب أن تُحترم انطلاقاً من الميثاق الوطني. ولا يفكر أحد في تعميم هذا التوجه على مناطق الطوائف الأخرى، فلِمَ الهلع؟.
قد يتساءل القاريء الآن عن المناطق ذات الأغلبية السنية، وهل تتجه بلدياتها إلى تبنّي عرائض مماثلة لمنع تداول الخمور؟. بالتأكيد لا لأن الأمور ستأخذ أبعاداً أخرى لو طُرحت في المناطق السنية، ليس اقلها اتهامها ب "الداعشية". ولن تترك وزارة الداخلية حينها الأمور "لمعاجة ودية" فالأمر لا ينتظر وهو سيهدد كينونة لبنان وسيرورته وصيرورته، ولا بدّ من وأد الفتنة في مهدها. عدا عن أن التيارات الإسلامية في المناطق السنية أصلاً ضعيفة الحضور لصالح تيارات العائلات السياسية. بخلاف المناطق الشيعية التي باتت معقودة اللواء للتيار الديني على غرار العراق الذي منع برلمانه مؤخرا الخمور في البلاد بضغط من الكتل البرلمانية الدينية الشيعية.
قضية الخمور وغيرها تشكل عناوين ستتجمع يوما أمام المشرّع اللبناني، ولن يجد لبنان لحلّها أفضل من الفيدرالية كصيغة تحفظ التنوع في إطار الوحدة.. فيدراليةٌ تعاطى معها كثير من الأطراف على أنها نوع من الإنقلاب والخيانة لمجرد أن من كان يطرحها كعلاج لمشكلات اللبنانيين الثقافية المجتمعية هو حزب الكتائب المسيحي. لكن لا يمنع أن تطرحها أحزاب وطوائف أخرى هذه المرة، ولا سيما عندما تميل المنطقة نحو الإستقرار وتبدأ عملية إعادة صياغة المجتمعات الجديدة في ضوء نتائج الحروب ومآلاتها، هذا إذا ابتعد عن لبنان مِبضع المستعمر الجديد.