في غياب أي فعالية رسمية أو علمائية أو أهلية، صوتية أو حتى ضوئية، في السعودية؛ للاعتراض على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقل سفارة بلاده إلى مدينة
القدس المحتلة والاعتراف بها عاصمةً لإسرائيل، كان لافتاً توجيه حليف السعودية - حتى الأمس القريب - رئيس الحكومة
اللبنانية سعد
الحريري؛ الهيئات والمؤسسات الدينية والرسمية المعنية في بيروت، بإنارة مسجد محمد الأمين بصورة المسجد الأقصى، وكاتدرائية مار جرجس المارونية بصورة كنيسة القيامة، والسرايا الحكومي بصورتي المسجد والكنيسة، وصخرة الروشة بصورة العلم الفلسطيني، "تضامناً مع الشعب الفلسطيني الشقيق، ورفضاً للقرار الأميركي بالاعتراف بالقدس عاصمة لكيان العدو الإسرائيلي"، وفق ما جاء في خبر وزعه تيار المستقبل الذي يتزعمه الحريري.
ومع أن تيار المستقبل ليس ذا اختصاص في توزيع أخبار رئيس الحكومة بالنيابة عن مكتبه الإعلامي الرسمي، لكن الحريري أراد بهذه الخطوة، حتى من حيث الشكل، إرسال رسالة للجميع بأن تياره السياسي ما زال على طبعته القديمة "العروبية"، طبعة المؤسس رفيق الحريري الذي نشأ في بيئة حركة القوميين العرب في مدينة صيدا، وبأن مبادرته التضامنية مع القدس تعبر عن توجه سياسي شخصي يسبق الموقف الحكومي.
على بساطتها، إلا أن هذه الإضاءة المقدسية لمعالم بيروت ستضيء لمرحلة مقبلة من التوجه السياسي لتيار المستقبل؛ الذي عاش على مدى السنوات الاثنتي عشرة الماضية في دائرة المقاومة السياسية السلمية لحلف الممانعة، المتهم إعلامياً و"دولياً" باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وبالسعي للهيمنة على قرار بيروت كواحدة من عواصم النفوذ "الفارسي" الجديد.
لقد تبين للحريري، كما لآخرين، أن محور الاإعتدال العربي فشل مؤخراً في الحفاظ على تماسكه، بعد اختصاره خليجياً بلجنة تنسيق سعودية إماراتية أُعلن عن تأسيسها يوم الثلاثاء الماضي، في نفس يوم قمة الكويت الخليجية التي أفشلتها الرياض وأبو ظبي، في الوقت الذي تلتفت فيه كل من مصر والأردن والمغرب إلى تحصين أوضاعها الداخلية وممارسة ما أمكن من سياسة النأي بالنفس، في ضوء اضطراب المنطقة التي بلغت طبول الحرب فيها إيقاعاً صاخباً متقدماً. وأبلغ تعبير عن هذا المنحى سجله الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، برفضه العلني أي تدخل عسكري ضد
حزب الله في لبنان.
إذا كان محور الممانعة قد قتل رفيق الحريري، وفق قناعة أولياء الدم، فإن الحلف نفسه، بواجهته السورية، متهم أيضاً باغتيال الزعيم الدرزي كمال جنبلاط قبل أربعين سنة؛ قضى نجله ووريثه في الزعامة وليد جنبلاط أكثر من نصفها حليفاً لهذا المحور، فيما يقضي نصفها الآخر على مسافةٍ آمنة مع إيران. وقد أوصى نجله تيمور، قبل نحو تسعة شهور، خلال إلباسه عباءة الزعامة الجنبلاطية، بالتزام محور المقاومة، فقال له: "يا تيمور سر رافع الرأس، واحمل تراث جدك الكبير كمال جنبلاط، وأشهر عالياً كوفية فلسطين العربية المحتلة، كوفية لبنان التقدمية، كوفية الأحرار والثوار، كوفية المقاومين لإسرائيل أيا كانوا".
وهذا الخطاب في ذكرى اغتيال المؤسس كمال، التي رفع لها جنبلاط شعار "ادفنوا موتاكم وانهضوا"، أتى بعد تسع سنوات على معارك دامية شهدها جبل لبنان، بين حزب جنبلاط "التقدمي الاشتراكي" ومقاتلي حزب الله، سقط خلالها العديد من القتلى في صفوف الطرفين. واختتم "وليد بيك" خطابه آنذاك بإلباس "تيمور بيك" الكوفية الفلسطينية.
ليس من المبالغة بشيء اعتبار خطوة الرئيس سعد الحريري ليلة الجمعة الأولى التي تلي الإحتلال الرسمي الجديد للقدس؛ بمثابة ارتدائه الكوفية الفلسطينية في رسالة واضحة إلى حلفاء الأمس في الداخل والخارج، بأنه لن يُعدم وسيلة في إيجاد عناوين وقواسم مشتركة تجمعه مع حزب الله. فالقدس أكبر منا جميعاً، ورسالتها فوق الجميع.