الظنّ السائد هو أن أغلب الناس يلتفّون في زمن الحروب والفتن حول الخطاب العنصري الذي يحرك الغرائز ويعزز الانقسامات، بينما الحقيقة هي عكس ذلك تماما. فإن دوامة القتل وما فوقه أو دونه ومشاهد الرعب المذهلة تجعل الناس ينفضون من حولها سريعا، حتى أولئك المؤيدين صوتيا لهذا الفريق أو ذاك، فإن أعدادهم تتناقص بعد أن يعيدوا حساباتهم الشخصية والأُسَرية والحياتية، فيميلون بالفطرة إلى تمنّي نعمة الأمن وإعادة حصر الصراع بمنابر السياسة والإعلام.
ليس أصدق من التجربة اللبنانية في الحروب الأهلية السابقة للدلالة على هذه الحقيقة. فقد اعتاد معظم اللبنانيين على الالتفاف حول زعماء طوائفهم في السرّاء وتمجيد رمزيتهم في حماية حِمى الطائفة من كيد الطوائف الأخرى. وعندما يبدأ فتيل الحرب بالاشتعال، كان معظمهم يتخلى بسرعة عن الخطاب الطائفي ليتغنى نفاقا بوطنيته المزمنة وبتأييده للجيش اللبناني، عسى أن يضرب هذا الجيش بيد من حديد كل الميليشيات والعصابات المتقاتلة.
فالحرب التي يطلقها أمراؤها ومن وراءَهم بشعارات عاطفية دينية ووطنية، سرعان ما تصبح من فصلَين، فصل في مواجهة "العدو" تذهب إليه نخبة المحاربين فيَقتلون ويُقتلون، وفصل آخر يُمارَس ضد البيئة الحاضنة نفسها لإخضاعها وإلغاء التعددية فيها، وتبرز في هذا الفصل حثالة الطائفة من الميليشيويين العاطلين عن العلم والعمل يمارسون كل أنواع "البلطجة" و"التشبيح" ضد ناسهم بِاسم "الشهداء" السابقين واللاحقين. وهنا تبدأ ما تسمّى بالأغلبية الصامتة العابرة للطوائف بالتشكُّل، يجمع بينها الإيمان بضرورة نهاية هيمنة الميليشيات لصالح حكم القانون ولو بحدوده الدنيا، وانتهاء نفوذ زعمائها الذين يتم اكتشافهم فجأة أنهم متاجرون بالطائفة والوطن، مع أن معرفة هذه الحقيقة لم تكن تستلزم حربا أهلية. وغالبا ما تترسخ هذه القناعة بعد فوات الأوان، أي بعد أن يصبح أمراء الحرب قادة الدولة فينشئون دويلات موازية قاصرة في قلب دولة عاجزة.
لعل دوائر الحروب العبثية الراهنة في المنطقة العربية تُكرر التجربة اللبنانية بهذا المفهوم، حيث تتحول الدولة إلى ميليشيا يحكمها شبيحة حرب، وتتحول الميليشيا إلى دويلة صُدفة تحكُم الناس ببنادق الأمراء وأمزجتهم. وفي هذه الحالة تذبل هوية المواطن فيصبح ناقما على الدولة والدويلة معا، وتتبخر حكمة محمود درويش، فيُمسي الوطنُ حقيبة وسكانُه مسافرين باحثين عن لقمة أمان خلف الحدود يسدون فيها جوع أرواحهم الدفين إلى صمت أبدي لا يسمعون فيه هدير الموت وهم على قيد الحياة وقيودِها.
فوجئتُ مؤخرا أثناء متابعتي نِسب المشاهدات لفيديوهات في وسائل التواصل الإجتماعي مقتطعة من برنامج تلفزيوني أُقدّمه، أن الرقم القياسي بين هذه المقاطع حصده فيديو رويتُ فيه قصة من الأدب الشعبي الصيني عن التسامح مع الآخر المختلف.
وتقول القصة إن سيدة مُسنة كانت تملأ الماء كل يوم من نهر القرية، بإناءَين مربوطين بعصا على كتفَيها، أحدُهما مشروخ يتسرب منه الماء على الطريق، ويصل إلى المنزل بنصف الحمولة. وبعد سنتين من التسريب نطق الإناء المشروخ وقال لسيدته، أنا خَجِلٌ من هدر تعبك في نقل الماء، فابتسمت العجوز وقالت للإناء، ألم تلاحظ الزهور التي فرشَت الطريقَ من ناحيتك فقط. لقد غرَست البذورَ على طول مسارك، وهذه الزهور التي تُزين في منزِلي، أنت تسقيها وأنا أقطفها.. فلو لم تكن مشروخا، لما كان منزلي جميلا..
القصة التي تهدف إلى الحث على تقبّل الإختلاف مع من نعيش معهم، تفوقت بالتداول والإعجاب على قصص كثيرة أخرى مُبكية أو مُضحكة، لأن الناس في أعماقها تحتاج أولا إلى السلام، وخصوصاً في زمن الحروب...