مرت بمصر خلال بضعة أيام عدة مشاهد كلها تتعلق بأمن مصر بشكل مباشر أو غير مباشر، لكن النظام الانقلابي الذي لا يؤتمن على أمن مصر الوجودي أو أمنها القومي، ظل يتلاعب بهذا الأمن وبأسسه وبجوهر ثوابته، حتى يمكنه أن يحصن مصالحه في تأمين سلطانه ومحاولة إضفاء شرعنة على نظامه.
قضية كبرى تحتاج منا إلى كثير من التأمل وإلى بعض التعقل والتفحص في محاولة للربط بين تلك الأحداث جميعا وتلك المشاهد، حيث يتضح لنا من خلالها حجم العبث والتلاعب من تلك المنظومة الانقلابية في أمر شديد الخطورة والذي يتعلق بأمن مصر وأمانها.
المشهد الأول يرتبط بتلك التسريبات التي سمح بنشرها على إحدى الفضائيات من قبل واحد من إعلاميي وسدنة الانقلاب حيث حوت تلك التسريبات عدة مكالمات للسياسي محمد البرادعي وبعض الشخصيات المصرية من بينها مكالمة بين البرادعي وبين رئيس أركان الجيش المصري حينذاك، والذي كان يعد الرجل الثاني في منظومة الحكم في مصر في ذلك الوقت، أراد من سرب أن يعلن انتقامه من الشخصين في آن واحد، أما البرادعي فلأنه قرر أن يتحدث في سلسلة من الأحاديث يقوم بها على إحدى الفضائيات ومن المنتظر أن يكشف عن أمور أو يقرر موقف.
الأمر الحقيقي أن هذا النظام الغادر الفاجر لازال يتخوف من الرواية الثانية، الرواية الأولى احتكرها وأذاعها وهي تمتلك من أركان الإفك الكثير، وتعاني من سردية الزيف بشكل خطير، يعبر ذلك عن تهافت ذلك النظام الانقلابي ووهن أسسه، وعدم قدرته على مواجهة الحقائق الكبرى التي يمكن أن تخرج من لسان شهود يشهدون على بعض تزويره وعلى كثير من فجره وعلى مزيد من تلفيقه، يعبر في ذلك عن مدى خفة روايته التي اعتمدها رغم أنه دبجها بأذرع إعلامية وصحفية وأذرع أمنية وحقوقية، وأذرع كثيرة أخرى أراد أن يمكن بها لتلك الرواية الجهنمية، إذ بانقلابه استطاع أن يُفهم البعض بل والكثير أنه قام بثورة وهو في الحقيقة مارس غدرا وارتكب خيانة، غدر بالمسار الديمقراطي وخيانة لثورة حقيقية هي ثورة يناير.
أما عن رئيس الأركان السابق فإنه بالنسبة إلى متزعم الانقلاب منافس محتمل هم بأن يترشح في انتخابات رئاسية هزلية سابقة، إلا أنه بشكل أو بآخر آثر الابتعاد عن المشهد لمصلحة المنقلب والنظام الذي كان يدعمه ويسنده، وأخطر ما في الأمر أنه ما يزال يحتفظ بملامح رواية أخرى، حاول المنقلب الذي كان يشغل منصب مدير المخابرات الحربية والذي تلاعب بخيوط كثيرة في محاولة لتشويه ثورة يناير والتمكين لثورة مضادة، أيا كان ذلك التسريب الذي يعلن عن تلك المخافة الكبرى فإن أخطر ما في الأمر أن يسجل للشخص الثاني في منظومة الحكم آنذاك وأن يسرب ذلك وقت اللزوم وفي قناة فضائية، مستخدما ذلك الأسلوب الرخيص.
المشهد الثاني فإنه يتعلق بعملية استباحة كبرى لسيناء في حدث جلل يضاف إلى أحداث أخرى تعبر في حقيقة الأمر عن قمة الفشل، إنه منذ البداية يتحدث عن إرهاب محتمل، وتحدث عن إرهاب في سيناء، ووعد بأنها ما هي إلا أوقات قصيرة ويقضي عليها قضاء مبرما، إلا أن الأمر يتفاقم ويزداد سوءا وتتكرر الأحداث ويموت جنودنا البسطاء في كمين المطافي على أرض سيناء ولا يعرف من الذي زج بهم في تلك المعركة، ويغضب المنقلب الأكبر حينما يقول أحد أن ذلك يعبر عن تقصير أمني وعدم القدرة على تحديد المعركة لا أوقاتا ولا ميدانا.
رغم أنه اتخذ من كل التدابير التي تتعلق بجعل سيناء منطقة مغلقة على قوات أمنه، وبتنسيق أمني مع العدو الصهيوني، وبإجراءات وتدابير وصلت إلى حد تفجير المساكن وتهجير السكان وإخلاء الشريط الحدودي بمسافة تتجاوز عددا من الكيلومترات، رغم كل ذلك يتكرر المشهد ويزداد الاستهداف وصارت سيناء منطقة مستباحة بأفعاله ونكل بأهلها وفشل في مواجهة إرهاب وتطرف تحدث عنه وجعله مناط شرعيته، وبدد مفهوم الأمن القومي مرة بعد مرة، وفي الوقت نفسه لم يقدم الحماية لسيناء، وقد أعلن من كل طريق لجعل أمن إسرائيل جزءا من أمن مصر القومي، وتحت هذه الدعوة قام بتنسيق منقطع النظير مع العدو في كل شأن يتعلق بسيناء، ومع ذلك فإن جنود مصر مازالوا يتساقطون وأمن مصر القومي وعلى رأسه أمن سيناء لا يزال محل عبث وموضع خطر.
أما المشهد الثالث فإنه يتعلق بتلاعبه الخطير بكل أمر يتعلق بدستور أو بأرض الوطن فيجعلها في مجال المساومة والمقايضة والتنازل والهبة، يتعامل مع أرض الوطن بالبيع والشراء جزيرتي تيران وصنافير الاستراتيجيتين، وكأنه يملكهما أو أنها من بقية ميراثه، حتى حينما استند في ذلك لم يستند إلى قواعد أو دستور أو أرض وطن مقدسة مصونة لا تمس، ولكنه استند إلى مقولة "أمه" حينما كانت تخبره "ألا يأخذ شيئا هو للأخرين فيه حق"، كلمة زيف وفعل خيانة، وبيع للأرض، وتفريط في الوطن، وقسم اعتاد على الغدر به، وعهد في كل مرة يخونه من غير حياء أو ضمير وطني، فقد انقلب وغدر، وهو الآن يهدر أرض الوطن ويبيعها رغم القسم ـ الذي غدر به ـ بأنه سيحافظ على سلامة أراضيه.
أما المشهد الرابع فعلى هامشيته فإنه يدل على شأن خطير، في مباراة ودية بين منتخبي مصر وتونس (بلدان شهدتا ثورتين متعاقبتين) في استاد القاهرة ظهر في مدرجات الملعب ولديّ المخلوع، ويا للمشهد الخطير سمحت قوات الأمن لبعض الناس من بسطاء سذج ليأخذوا لقطات مصورة معهما بعد المباراة، إلا أنه في جانب المشهد نجد عددا من الشباب هتف "لساها ثورة يناير" وينددون بوجود ولديّ المخلوع اللذين كانا من المتهمين في قضايا عدة حيث كانت "الأسرة المباركية" في فسادها المقيم وفي حلم التوريث الذي عصفت به ثورة يناير وجعلته هباء منثورا، قوات الأمن التي لم تتحرك في مشهد عودة الثورة المضادة والصور الملتقطة وقد يكون قد تواطأت فيه، في المقابل تحركت بشراسة في مواجهة مشهد ثورة يناير حتى في الشعارات والهتافات وقٌبض على عشرين من الشباب ووصمتهم باتهامات بارتكاب جنحة.
ما شأن هذا المشهد الأخير بأمن مصر القومي، إن الأمر الآن يتكشف وعلى لسان المنقلب الذي تحدث عن أثار ثورة يناير، مؤكدا خطورتها، وعلى سيولة الأمور في الدولة المصرية، وعلى النيل من هيبتها وعلى مساعدة حال الثورة في حالة فوضى يجب التنبه إليها، هكذا رأى المنقلب الفاشي أن ثورة يناير لم تكن إلا حدثا سلبيا في آثاره، وإن حاول بشكل أو بآخر أن يمالئ هذه الثورة إلى حين، وكان من أهم معاول هدمها، والتخطيط لتشويهها وتعويقها وكان النيل من هذه الثورة في حقيقة الأمر في عرف هذا المنقلب وتمكين الثورة المضادة ليس إلا إعادة للأمور في نصابها، وأحكم المشهد في عملية تزوير كبرى استطاع فيها أن يجعل لانقلابه غطاء شعبيا منخدعا ومزيفا، لتتضح أصل المعركة بين ثورة حقيقية وثورة.
الأمر في هذه المشاهد إنما يعني استباحة الثورة واستباحة الدولة، واستباحة مفهوم الأمن في مصر وتزييف جوهر أمنها القومي، فصار في خطابه يتحدث عن أمر الأمن يوسعه ويضيقه ما شاء وجعله وفق المزاج ما يقع في نطاق الأمن كما يراه أو ما يخرج عنه، ويستبعد ما هو من جوهره وأصله وفقا لمصالحه الدنيئة في تثبيت انقلابه وشرعنة نظامه والحفظ على كرسيه، فاختزل أمر أمن مصر في أمر أمن كرسيه، إنها عملية استباحة كبرى وتزوير خطير في كل ما يتعلق بالوطن وأمنه وأمانه.