انشغل كثيرون بالسخرية من موقف سلطة الانقلاب العسكري في مصر بسحب مشروع قرار الاستيطان، وإدانته، وانشغلت أنا بمراقبة موقف الناصريين من هذا التصرف، الذي ازداد هوانا بتقديم مشروع القرار من أربع دول، وافقت عليه أربع عشرة دولة من بينها مصر!
أعلم أن الفصيل الثوري في التيار الناصري في "حيص بيص"، فقد ارتبط بعبد الفتاح السيسي، بحثا عن عرض قريب وسفر قاصد، وإذ شعرت القوى اليسارية الأخرى، بخيبة الأمل، إلا أن الناصريين لا يزالون على موقفهم المنحاز، وإن كانوا في القضايا التي تمس جوهر الناصرية، يختبئون عن الأعين ويلوذون بالصمت، فلا يساورهم الشك في أن سيأتي اليوم الذي ينظر إليهم عبد الفتاح السيسي بعين الرضا، ويستدعيهم لمهمة الاستخدام السياسي، لهذا فإن بعض كتاب هذا الفصيل، لا يتوقفون عن إبداء النصح للحاكم، من أجل أن تعود له جماهيريته، ورغم أنه لا أمل فإنهم لا يفقدون الأمل في الاستجابة، ولو في مرحلة الغرغرة!
يسخر الشيوعيون من الخفة الثقافية والفكرية للفرد الناصري، فلكي تكون ناصريا، فإن هذا لا يستدعي إطلاعا أو بحثا، فيكفي أن يقول المرء إنه منحاز للفقراء، وضد إسرائيل حتى يكون ناصريا. ومحمد حسنين هيكل كان يقول بأنه يوجد ناصريون ولا توجد ناصرية، فالناصرية عند المؤمنين بوجودها هى في الدفاع عن حقوق الفقراء، وفي النظر لإسرائيل على أنها عدو، أو بمعنى أوسع هو رفض الهيمنة الغربية وتبعية القرار الوطني!
وعندما وقع الانقلاب العسكري في مصر، بما يمثله من ردة على الثورة وإعادة للنظام البائد، فقد كنت أعلم أنه لا توجد مشكلة بالنسبة للناصريين في الانحياز له، فالفصيل الثوري الناصري، كان في معركته ضد مبارك ينطلق في ثوريته من فكرة عدم الاستفادة الشخصية من هذا العهد، وبعضهم ظهر على السطح بعد أن انفض المولد، والاكتفاء بمن حضر سواء بالنسبة للدول التي كان يطلق عليها دول الصمود والتصدي، أو من النظام المصري الذي قرب منه طلائع اليسار بكل تنويعاته، والذين بالغوا في تقديم نظام مبارك على أنه يمثل الوطنية، بعد مرحلة التبعية في عهد الرئيس السادات، وقد تعرض بعضهم للهجوم من التيار الثوري الوليد الذي كان يعمل من أجل إثبات نفسه، فكان عبد الحليم قنديل مثلا ينام ويستيقظ وهو يهاجم رفعت السعيد؛ لأنه أحد الأذرع السياسية لنظام مبارك، لكن عندما وجد الفرصة لأن يكون في مكانه لم يبددها، وهرول مؤيدا لترشيح عبد الفتاح السيسي لنفسه رئيسا، وتنكر لصديق عمره وزعيمه الروحي حمدين صباحي، الذي وصفه قنديل بما يحط من قدره فهو عنده "الزعيم الموسمي" وهناك كتابات لعبد الحليم قنديل يصف فيها صباحي بأنه "المهاتما غاندي". فالفرصة سانحة وأراد قنديل أن يقتنصها فالدنيا فرصة، وحشد بعض العناصر الناصرية في حركة "كفاية" في لقاء مع المرشح الرئاسي، مع أنهم طالما هتفوا بسقوط حكم العسكر!
ليس لدى الكائن الناصري أزمة مع حكم العسكر، فزعيمهم عبد الناصر جاء للحكم بانقلاب عسكري، سمي في البداية "انقلاب ضباط الجيش" و"الحركة المباركة"، ثم "حركة ضباط الجيش"، قبل أن يقترح أحد الكتاب في "وصلة نفاق" إطلاق وصف "الثورة" على ما جرى، وقد حكم عبد الناصر ببدلته العسكرية، وكان الحكم عبر ما سمي بمجلس قيادة الثورة، الذي تم تشكيله من العسكريين!
ولا يؤرق وجدان الكائن الناصري أن يكون الحكم مستبدا فالناصرية قامت على حكم الفرد، وبواسطة الرئيس الملهم المفروض بقوة السلاح، فلم يكن عبد الناصر رئيسا بانتخابات جادة، ولم يكن العسكر في مواقعهم بإرادة الجماهير، وتم تغييب السياسة، وحل الأحزاب، وتخليق كيانات سياسية مصطنعة من الاتحاد القومي إلي منظمة الشباب إلي الاتحاد الاشتراكي، وإنشاء القضاء الموازي، وارتكاب مذبحة القضاء، وتأميم الصحف، ومنع المواطن من اللجوء إلى قاضيه الطبيعي، فلجان إدارية تشكلت، تم النص على أن قراراتها نهائية ولا يجوز الطعن فيها، وهي اللجان التي وصفت في أحكام القضاء بأنها لجان قضائية ذات اختصاص قضائي، وهي في مجملها مشكلة من غير القضاة، فقد تكتفي بعنصر قضائي واحد أو بدونه!
وكل شعارات هذا الفصيل التي رفعت ضد استبداد نظام مبارك، والهجوم على ديكتاتوريته والمطالبة بإسقاط حكم العسكر، كانت تماشيا مع روح العصر، وليس عن إيمان، ولهذا فعندما التحق هؤلاء بركب الانقلاب العسكري بعد 3 يوليو 2013، وتم وصف السيسي بأنه عبد الناصر، لم أهتم بتذكيرهم بأنهم خرجوا على استبداد مبارك، أو عسكرية حكمه، وإنما كان التأكيد أن السيسي ليس عبد الناصر من حيث الانحيازات التي عرفت بالناصرية بالضرورة، فانقلابه حصل على التأييد الإسرائيلي والغربي، فضلا عن أنه انقلاب الرأسمالية، ممثلة في المجلس العسكري، حيث سبق لعبد الحليم قنديل القول: "إن عشرة جنرالات في العسكري يملكون ثروات تزيد عن ثروة أحمد عز"!
وقد تحالفت الرأسمالية العسكرية، مع رجال أعمال مبارك، الذين كونوا ثرواتهم بالامتيازات التي منحها لهم هذا العهد ومثلت أحد عناوين الفساد العريضة. ولا يمكن لانقلاب ترعاه "الرأسمالية الطفيلية" أن ينحاز للفقراء!
لقد كذب القوم حتى صدقوا أنفسهم، ومنهم من تطوع في حملة الدعاية له، وزميلتنا الناصرية نور الهدى زكي، التي طالما هتفت بسقوط حكم العسكر، وضد إسرائيل، سافرت للمحافظات للمشاركة في مؤتمرات الدعاية التي لم يشارك فيها المرشح المختار، وهي تعلق صورته عبر سلسلة في عنقها، كأنها تميمة تمنع العين، وترد الغائب، وتجلب الحبيب!
لقد فاز السيسي في انتخابات تشبه الانتخابات، وفي منافسة لم يشارك فيها أحد، وكانت قراراته موجهة ضد الفقراء الذين اكتووا بنار رفع الأسعار مع رفع الدعم، في وقت تنازلت فيه الدولة عن ضرائب بالمليارات مستحقة لأحد رجال الأعمال، ثم تعويم الجنيه؛ فيحقق هذا مكسبا دون تعب لرجال الأعمال هؤلاء، وتم رهن مصر لصندوق النقد الدولي وللمؤسسات المالية العالمية، دون أن يعلن الناصريون رحليهم من معسكر السيسي كما فعل غيرهم من ليبراليين ويساريين. وأعتقد أنه قد آن الأوان لإعادة النظر في انتماء الناصرية لمعسكر اليسار، فهي في تقديري خارج التصنيف السياسي باعتبارها عشوائية سياسية وتوجه انتهازي في الأصل!
وعندما سحبت مصر مشروع قرار إدانة الاستيطان، استجابة لاتصالات من "ترامب" و"بنيامين نتنياهو"، بدا الناصريون كما لو كانوا ماتوا في حادث جماعي، ومن تكلم فقد كان حديثه أقرب للهمس، وأقل وضوحا من لغة الطير!