كتاب عربي 21

مبارك.. كلمة أخيرة!

(الأناضول)
منذ وقوع الانقلاب العسكري في مصر، وأنا أعتبر أن الرئيس مبارك ليس معركتنا، وتوقفت حتى عن وصفه بـ"المخلوع"!

فدولته لا تحكم الآن، ومن يقول إن الحكم الحالي هو حكم الدولة المصرية العميقة، يبالغ في تقدير الأمور، فقد أنشأ الحكم العسكري الحالي دولة أخرى، غير تلك الدولة التي تعرفها مصر منذ القدم، ولم يكن ما فعله عبد الناصر إلا إجراء تحسينات عليها، فانتقم من الإقطاعيين وأبقى على جسم هذه الدولة، وخاصم الوفد وعددا من قيادات الأحزاب الأخرى، لكنه استعان بالجسم السياسي العام في استمرار دولته، بل إن دولته ضمت إخوانا سابقين، مثل الشيخ الباقوري، وعبد العزيز كامل؛ فلم يخترع دولة من الهواء كما الحاصل الآن!

وإزاء حالة الحنق على السياسات الحالية والتضرر منها، فإنني أعتبر أن دولة مبارك تمثل الآن رافدا كبيرا من روافد التغيير، هذا التغيير الذي لم يعد موضوعا خاصا بثوار يناير، أو حتى بالسياسيين، وإنما صار حلما يراود العامة الذين يشكلون القطاع العريض من دولة مبارك، والذين عملوا على استمرارها لثلاثين عاما، ولم تكن لديهم مشكلة مع توريث الحكم، ما دامت السياسات توفر الاستقرار، والحد الأدنى اللازم من المعيشة، أما الاستبداد والقمع فهذا ليس موضوع هذه الطبقة، التي اعتادت على أن النظر فيما في أيدي الحكام ليس من اختصاصها العام، فهذا يقع في دائرة اهتمام النخبة السياسية!

أعتبر أن دولة مبارك تمثل الآن رافدا كبيرا من روافد التغيير، هذا التغيير الذي لم يعد موضوعا خاصا بثوار يناير، أو حتى بالسياسيين، وإنما صار حلما يراود العامة الذين يشكلون القطاع العريض من دولة مبارك، والذين عملوا على استمرارها لثلاثين عاما، ولم تكن لديهم مشكلة مع توريث الحكم، ما دامت السياسات توفر الاستقرار، والحد الأدنى اللازم من المعيشة، أما الاستبداد والقمع فهذا ليس موضوع هذه الطبقة، التي اعتادت على أن النظر فيما في أيدي الحكام ليس من اختصاصها العام، فهذا يقع في دائرة اهتمام النخبة السياسية
"ولا يوم من أيامك يا مبارك":

ولا يزعجني هتاف "ولا يوم من أيامك يا مبارك"، بل أعتبره قيمة مضافة لقضية التغيير، فمع هذا الهتاف لن ينتقل الحكم من السيسي إلى الرئيس الراحل، فقد أفضى الرجل إلى ما قدم، وصار موضوعا للمؤرخين، وربما يكون موضوعنا إذا حدث التغيير وعادت إلينا مصر المختطفة، ليس من جانب نظام، ولكن من قبل شخص، يتصرف فيها وفي مقدراتها تصرف المالك فيما يملك!

الإزعاج الحقيقي من هذه الدعوة التي تتنامى بأن السبب فيما نحن فيه هو بسبب ثورة يناير، التي عزلت مبارك، وجاءت بالسيسي الذي أدخل البلد في دوامة الفقر والعوز، وفرط في مقدراتها، حتى أوصلنا إلى ما وصفه هو بنفسه بأنه أجواء نكسة 1967، هكذا بدون حرب، ودون تحمل للمسؤولية ولو بشكل تمثيلي فيعلن التنحي، كما فعل عبد الناصر، لعلنا نخرج للشوارع ونهتف: لا تتنحى. لكن ما يعرف منه بالضرورة أنه ليس مغامرا ليفعل، كما أنه لن يفعل ما فعله عبد الناصر بإبعاد المسؤولين عن الهزيمة والإطاحة بهم، لأنه وحده من يحكم، إلا إذا كان مطلوبا منه أن يقطع نفسه إربا إربا، فيتخلص إربا منه من أجزائه الأخرى!

فهل أخطأنا حقا في حق مبارك، وأن ما يجري الآن هو بسبب تنكرنا للنعمة التي كنا نرفل فيها، فكانت النقمة عقوبة لنا على ذلك؟!

البعض يقارن بين مبارك والسيسي، وبين الأوضاع في عهد الرئيس الأسبق والحاكم الحالي، وبطبيعة الحال فإن المقارنة ليست لصالح الجنرال، ولو مع أي حاكم أو بديل آخر، ولو كان هذا الحاكم هو جمال عبد الناصر، ولو كان البديل هو جمال مبارك.. هذا أمر مفروغ منه!

قبل أن أهم بكتابة هذه السطور، طالعت خبرا يبشر بأن الجيش على وشك الانتهاء من إقامة مصنع لتجفيف البصل، هو بحكم ما جرت به العادة، الأول من نوعه، والأكبر على مستوى العالم، والأعظم في تاريخ المنطقة، فتذكرت على الفور مأساة مصنع تجفيف البصل بمحافظة سوهاج، وهي المأساة التي تعد جزءا من سياسات مبارك، الذي بدأ مرحلة الخصخصة، وباع أملاك الدولة بتراب الفلوس، ومصانع لم تكن تخسر، وكان سعر الأراضي المقامة عليها وحده أكبر من السعر الذي بيعت به، وهو ملف فساد ضخم، وتفريط كان يكفي لعزله ثم يعاد ثم يعزل، عقوبة على هذا التدمير الممنهج!

إن مصنع تجفيف إنتاج البصل في سوهاج كان مقاما على 17 فدانا، ويعمل فيه ثلاثة آلاف و580 عاملا، وأقامه عبد الناصر في سنة 1960، وكان أكبر مصنع في أفريقيا والشرق الأوسط، وكان كل نإتاجه يتم تصديره، بما في ذلك قشرة البصل التي كانت تصدر لعواصم أوروبية لصناعة العطور والمستحضرات الطبية، كما كانت تُستخدم قشور البصل علفا حيوانيا.

وهذا المصنع كان يصنع ويجفف 52 ألف طن بصل سنويا، ويسهم بنصيبه في توفير العملة الصعبة، لكن تم خصخصة الشركة المالكة له في سنة 1996، ثم بيع هو نفسه لمستثمر، بمخزون من البصل يزيد عن السعر الذي بيع به المصنع بثلاثة ملايين جنيه، وكان طبيعيا أن يتم الإعلان عن توقفه تماما عن الإنتاج في 2008، الأمر نفسه الذي حدث لكثير من شركات القطاع العام التي بيعت لسماسرة الأراضي فلم يكن عين المشترين على الإنتاج وإنما على الأراضي، فمن المسؤول عن كل هذا الخراب؟!

إن هذا كان جانبا من سياسات مبارك غير المفهومة، ومع النقد لما أقدم عليه، واستدعى ترقية وزيرا لقطاع الأعمال ليكون رئيسا للحكومة، فلم يوضح الدروس المستفادة من سياساته هذه، ونأتي لبيت القصيد!

الفراغ السياسي:

فقد دمر مؤسسات البلد، فلم يجد من يسلمه الحكم إلا المجلس العسكري، والذي لم يكن مؤهلا لذلك. ولا يقولن أحد أن هذا من طبائع الأمور، فمن الخطأ أن مصر كانت في هذه الفترة تحكم حكما عسكريا، يجعل من الحكم اختصاصا للعسكر، فقد أنهى جمال عبد الناصر سيطرة الجيش على الحكم ومزاحمته له فيه منذ هزيمة 1967، ومع عام 1968 كان الجيش وأجهزته خارج الحكم تماما، وما فعله مبارك أن دشن حكما بوليسيا الكلمة العليا فيه لوزير الداخلية، ومن هنا كانت الكارثة!

فإن أقلقك أن تقوم الثورة، والرقم الوحيد الصحيح في المعادلة السياسية هم الإخوان المسلمون، فلا بد من العلم أن سياسة مبارك هي التي أنتجت هذا الاختلال!

لقد استلم مبارك الحكم ولدينا تجربة حزبية وليدة، ولم يكن الإخوان هم التيار الأقوى فيها، فقد كانت القوة لحزب الوفد، لكنه ترك السياسة ملفا أمنيا، ودمر الأمنُ الأحزابَ، وتولى الانشقاقات داخلها، وبدا غير مدرك للأمر وهو يقوم بين الحين والآخر بحملات أمنية على الإخوان، تعمل على تقويتهم، وجذب الشرعية لهم، وكان هدف الرئيس أن يستخدم قوتهم فزاعة للغرب، على النحو الذي حدث في الانتخابات البرلمانية في سنة 2005!
مكنت الثورة الشعب ليختار حاكمه لأول مرة في تاريخه، وقد اختارت الأغلبية الرئيس محمد مرسي، فماذا لو تم دعم هذه التجربة، وكانت نهاية حكم الرجل في 2018، إذا فاز لدورة ثانية، وقد صبرنا على مبارك ثلاثين سنة، فتسلم دولة من السادات ليسلمها أنقاض دولة، فليس فيها بديل سوى الإخوان والجيش، واحد بالصندوق والثاني بالسلاح؟!

لقد كان نظام مبارك يحرق كل شخصية يتوسم فيها الناس خيرا، ويعمل على ضرب كل من له شعبية ولو كانت شعبية دينية، لا تصطدم بحكمه، حتى أنه كان يخاف من شعبية الجنائز، كما حدث عقب وفاة الشيخ الشعراوي، وفي جنازة فؤاد سراج الدين!

ثم استفز الناس بما جرى في سنة انتخابات 2010، عندما تولى أمرها مجموعة لا يحسنون تقدير الأمور برئاسة نجله، وعضوية أحمد عز، وكانت أداة التنفيذ فيها هو وزير الداخلية حبيب العادلي، فأيقن الناس أن باب التغيير ولو الشكلي منه مغلق بالضبة والمفتاح، فأين يذهب الناس، إلا إذا كان يتم النظر للبشر على أنهم قطعان، ماذا يضرهم إذا أكلوا وشربوا، حتى لو كان أكلا بالسم الهاري، وطعاما استخدمت فيه المبيدات المسرطنة؟

البديل بدون الثورة:

لا بأس، فماذا لو لم تقم الثورة على مبارك، واستمر في الحكم؟ فأعتقد أن هذا لن يقدم ولن يؤخر في نهاية أجله، فكيف كان سيتم ملء الفراغ في بلد بلا مؤسسات، وبدون حياة سياسية سليمة، وليس هناك سوى الإخوان الذي يعتمدون على شرعيتهم في الشارع، والجيش بحكم امتلاكه للقوة المميتة؟! مع الملاحظة، أن مبارك وإن كان قادرا على توريث الحكم في حياته، ولا أظنه كان راغبا في ذلك، فلن يكون التوريث ممكنا بعد وفاته، فماذا سيحدث إزاء هذا الفراغ، وتدمير الحياة السياسية بواسطة الحكم البوليسي الذي تأسس في عهده؟!

لقد مكنت الثورة الشعب ليختار حاكمه لأول مرة في تاريخه، وقد اختارت الأغلبية الرئيس محمد مرسي، فماذا لو تم دعم هذه التجربة، وكانت نهاية حكم الرجل في 2018، إذا فاز لدورة ثانية، وقد صبرنا على مبارك ثلاثين سنة، فتسلم دولة من السادات ليسلمها أنقاض دولة، فليس فيها بديل سوى الإخوان والجيش، واحد بالصندوق والثاني بالسلاح؟!

إن من العبث القول إن ما يحدث الآن هو ذنب مبارك، والصحيح أنه ذنب الرئيس محمد مرسي، والذين خرجوا عليه يبغونها عوجا، وهم الذين سلموا بغبائهم الحكم إلى الوضع الحالي، وكانوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.

استقيموا يرحمكم الله!

x.com/selimazouz1