أطلق شخصان يوم الجمعة الماضي 20 رصاصة على المهندس
التونسي محمد
الزواري أمام بيته بصفاقس، ولقي الزواري ربه عقب تلك العملية التي كشفت جانبا من حياته، وربما كان هذا الجانب هو سبب اغتياله.
أشارت تقارير صحفية إلى أن الزواري كان منتميا لحركة النهضة بتونس في زمن بن علي، وتم اعتقاله في عام 1991 وعقب خروجه انتقل إلى خارج البلاد وزار عدة دول واستقر أخيرا في سوريا، والتقى هناك بحركة
حماس وبدأ التعامل معهم في مجال تخصصه، وفي حرب 2014 "كان أحد القادة الذين أشرفوا على مشروع طائرات الأبابيل
القسامية" وذكرت الحركة في بيان لها أنه عمل معها لمدة عشر سنوات، متهمة الكيان الصهيوني باغتياله.
كان من المنطقي أن تتوجه الاتهامات لدولة الاحتلال نظرا لارتباط الرجل بعدوها الفلسطيني، فضلا عن دوره في تطوير هذه المنظومة الجديدة بالنسبة للمقاومة، لكن هناك مؤشرات أخرى دعّمت ذلك الاتهام، منها التغطية الإعلامية لعملية الاغتيال في "إسرائيل" واعتبارها حدثا يُحتفى به.
كذلك نُشر في أكثر من تقرير صحفي أن "رونين بريغمان" -وهو أهم معلقي الشؤون الاستخبارية- نقل عن مصادر أمنية "إسرائيلية" قولها: "اتهامات السلطات التونسية للموساد بالمسؤولية عن اغتيال الزواري لا تخلو من الصحة" وبريغمان معروف بقربه الشديد من الاستخبارات "الإسرائيلية" ويتم تبرير عمليات الاغتيال تلك بأنها ليست انتقامية بل هي لأجل منع (الإرهابيين) من تنفيذ عمليات جديدة، في محاولة بائسة لتجميل عمليات الاغتيال التي تقوم بها الأجهزة الاستخباراتية هناك.
في مقابل تلك المؤشرات هناك صوت خافت ينفي هذا الاتهام، مستندا إلى أن التكنولوجيا التي يتقنها الزواري ليست "مثيرة للانطباع" ويمكن الحصول عليها من إيران أو بعض المصادر على الشبكة العنكبوتية، فضلا عن تفاصيل العملية التي صاحبها إطلاق نار كثيف لا يناسب عمل المحترفين، وعدم اتباع (
الموساد) لذلك الأسلوب منذ ما يزيد على 20 عاما.
لكن يبقى أن ما يساق لدفع ذلك الاتهام أضعف من أن يكون حجة أمام دلائل كثيرة أقوى تشير بأصابع الاتهام للموساد، خاصة مع إعلان الداخلية التونسية أن لديها "تخمينات عن إمكانية تورط جهاز أجنبي في عملية الاغتيال" لكنهم لا يملكون دلائل قطعية حتى الآن.
ما يعنينا أن هناك تونسيا انخرط في حركة مقاومة فلسطينية لمعاونتهم في مهمة لا يدخل بها ميدان المعركة بنفسه بل بعقله، وما يعنينا أن مفهوم الارتباط بالوطن لا يزال يتجاوز تلك الحدود القُطْرِيّة التي فرضها علينا المستعمر وفقا لاحتياجاته وموازين القوى مع أنداده، وما يعنينا كذلك أن قضية احتلال جزء من أرضنا لا تزال حاضرة رغم كل المحاولات المبذولة لوأد تلك القضية التي اتخذت عنوان "القضية المركزية".
هذا الكيان العنصري البغيض حديث النشأة لا يزال يذكر الهبة العربية ضده قبل سبعة عقود تقريبا، ويذكر كيف استطاع منذ "كامب ديفيد" أن يبدأ في حصر دوائر التقاطع العربي "الرسمي" مع قضية احتلال فلسطين مرورا بأوسلو ومعاهدة السلام الأردنية والتدجين السوري ووصل أخيرا إلى بدايات تطبيع "شبه رسمي" سعودي، وتماه مصري في أنكب أيامها وأوضع نُظمها السياسية، لكن طوال تلك المدة بقيت فلسطين في الوجدان الشعبي كالقلب النابض، ربما يضعف من كثرة الأحمال التي تتثاقل عليه بفساد النظم واستبداد حكامها، إلا أنها إذا ما تَجَلّتْ دون نداء تحركت لها الأبدان قبل الأرواح ملبيّة، وهذا ما دفع الزواري لخدمتها وقت الحاجة لا خدمة "حماس".
أهم دلالات ما انكشف عقب اغتيال الزواري، أن القضية لن تكون قطرية أبدا، وأن الصراع مع المحتل الإسرائيلي لن ينتهي بقمع الحكام ولا بتطبيعهم، وأن الصراع ليس محصورا في بضعة ملايين يحملون الهوية الفلسطينية، بل سيظل رفض الكيان المغتصب مشتعلا في قلوب مئات الملايين من العرب والمسلمين، ولا تزال الأجيال تتوارث تلك العداوة المبنية على حق البشر في استرداد المغصوب ورفض العدوان وسفك الدماء ورفض العنصرية الدينية والسياسية التي قامت عليها دولة الاحتلال.
جددت حادثة الزواري التأكيد على اتساع حجم الدعم للقضية الفلسطينية وحضورها في وجدان شعوب المنطقة، كما أكدت على أن العدو لن يتوقف يوما عن اغتيال مقاوميه، وهذا بديهي بقدر بداهة أن مقاومته حق لنا مهما طال بقاؤه بيننا.