في أسبوع واحد، كان على الرأي العام
التونسي أن يواجه عددا من الأخبار والمعطيات التي لم تكن تنبئ بخير.
آخرها وأكثرها إثارة، "استقالة" المدير العام للأمن الوطني عبد الرحمن الحاج علي، الذي كان في قلب الجدال الذي سبق إقالة رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد.
وتضمنت أيضا اغتيالا لمهندس طيران في ظروف تشير بوضوح إلى عملية منظمة ذات بعد سياسي. وفي الأسبوع ذاته، فضح عناصر من حزب
السبسي والمتعاطفين معه قيام عدد من زعماء الأحزاب، التي دعمت السبسي سابقا بلقاء مع محمد دحلان "مهندس الثورة المضادة" كما يسميه البعض في صربيا.
بمعزل عن دقة هذه المعطيات، فنحن إزاء مؤشرات متقاطعة على استهداف للاستثناء الديمقراطي التونسي، وتجييره لمصلحة رياح الاستبداد الإقليمي والدولي المتصاعدة؛ إذ إن البعض يبدو أنه يتعجل خطاه، ويعتقد بأن "تحرير حلب" سيعجل بدعم من قوى إقليمية محددة، بـ"تحرير" تونس من الديمقراطية.
وتفاجأ الرأي العام التونسي وسط هذا الأسبوع بخبر "استقالة" المدير العام للأمن الوطني. المفاجأة ناتجة عن الأداء الأمني الإيجابي الذي ميز عمل بالحاج علي منذ تعيينه في كانون الأول/ ديسمبر 2015، الذي تميز بانخفاض كبير في العمليات الإرهابية، والكشف عن عديد الخلايا النائمة، وهو من رجال النظام القديم، الذين تأقلموا بشكل جيد مع الانتقال الديمقراطي.
بالحاج علي، كان مدير الأمن الرئاسي زمن المخلوع ابن علي، وتمت إزاحته بسب تحريض زوجة ابن علي عليه، وتم نقله إلى موقع دبلوماسي في موريتانيا.
بالحاج علي المجاز في اللغة العربية، له كتابات في المسائل الجيوسياسية، ولم يعرف عنه شبهات فساد مثلما التي تتعلق بعائلة المخلوع. واستعاده للخدمة الحبيب الصيد رئيس الحكومة "التوافقي"، الذي كان أرضية التقاء بين السبسي وحركة النهضة.
غير أن بالحاج علي عرف منذ عودته للشأن العام بتصديه للتدخل السياسي والمالي في العمل الأمني.
ونقلت عنه تقارير إخبارية عدة، ومن زاروه أيضا، أنه تذمر بشكل مستمر من تدخل قيادات في حزب السبسي في العمل الأمني، من خلال محاولة طلب تدخلات في رخص "سلاح صيد" و"حانات"، التي رفضها جملة وتفصيلا.
واعتبر في لقاءات خاصة، أن الأمن تحرر أخيرا بعد نهاية الاستبداد، وأنه من الضروري أن يؤدي دوره المحايد والجمهوري، بعيدا عن منطق حزب الدولة الذي كان يهيمن على عقلية زمن الاستبداد.
لكن أهم ما رشح من الكواليس عن عهدة بالحاج علي، هو اتهامات حزب السبسي، خاصة من قبل ابنه -الذي يتم توريثه بشكل متزايد حزب أبيه، ودور قيادي في الشأن العام لا يتناسب مثلما يقول عدد من المراقبين مع قدراته- بأنهم بصدد التعرض لـ"تجسس" الأجهزة الأمنية تحت إشراف بالحاج علي لأنشطتهم.
وتسرب لعدد من أجهزة الإعلام في ربيع سنة 2016، خبر تذمر عدد من النواب في مجلس نواب الشعب من حزب السبسي "نداء تونس" في لقاء خاص مع الحبيب الصيد، من المدير العام للأمن، بدعوى أنه "يتجسس" على المدير التنفيذي للحزب، أي حافظ قائد السبسي.
ونقلت فيما بعد صحف أخرى، أن أمن الدولة كان بصدد مراقبة بعض الملحقين الديبلوماسيين، خاصة منهم الملحق العسكري للسفارة الإسبانية، الذي كان يلتقي بشكل دوري ابن السبسي، وكان ذلك السبب الوحيد الذي جعلهم يراقبون "بشكل غير مقصود" ابن رئيس الدولة، والمدير التنفيذي للحزب الحاكم.
ونقلت صفحة إخبارية للقناة التلفزية "نسمة"، وهي قريبة من أوساط حاكمة: "راجت منذ صباح اليوم أخبار متواترة، تفيد بأن المدير العام للأمن الوطني لم يستقل، بل تمت إقالته على خلفية خلافات حادة جدت بينه وبين رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي".
ويشير البعض إلى كواليس إنشاء "حكومة الوحدة الوطنية"، التي برز منها بشكل واضح رغبة ابن السبسي في التخلص من بالحاج علي، وهو ما لم يتم حينها، خاصة بعد تعاطف العديد في الرأي العام معه، وهو الذي حافظ على حالة استقرار أمني لافتة.
وتناقلت بعض وسائل الإعلام مثل إذاعة "آي أف أم" خبر استقالة عدد من القيادات الأمنية، إثر خروج بالحاج علي ليلة 15 كانون الأول/ ديسمبر، واضطراب "رئيس الحكومة" (أو الأصح الوزير الأول). الشاهد الذي تشير كل المؤشرات أنه أتى فقط لتنفيذ أوامر السبسي والمقربين منه، وعلى رأسهم ابنه.
في اليوم ذاته، أي 15 كانون الأول/ ديسمبر، الذي راج فيه "خبر الاستقالة"، حدث ما يمكن أن نسميه الآن بلا شك "اغتيالا سياسيا" جديدا، ضرب هذه المرة التيار الإسلامي، وبالتحديد أحد المنتمين سابقا للاتجاه الإسلامي/ النهضة، الذي هرب خلال التسعينيات من الملاحقة الأمنية إلى عدد من الدول العربية قبل الاستقرار في سوريا، والتخصص في مادة هندسة الطيران، والتزوج بمواطنة سورية.
تم قتل محمد الزواري أمام منزل والدته في مدينة صفاقس الساعة الثانية زوالا. واعتبر البعض ذلك أول إخفاق أمني يتزامن بالتحديد مع ابتعاد أكثر مسؤول أمني حافظ على الاستقرار في البلاد.
الحقيقة أن الرياح الدولية لا تبشر بخير في علاقة بالنموذج الديمقراطي في تونس. الرجوع إلى منهجية الاستبداد في تسيير المنطقة تتصاعد كل أسبوع تقريبا. يتمثل ذلك خاصة في صعود قوى متعاطفة مع الاستبداديين العرب، خاصة صعود ترامب للرئاسة في الولايات المتحدة، وفييون في الانتخابات التمهيدية الفرنسية، وسقوط حلب على الهواء بشكل دموي غير مسبوق أمام صمت القوى الدولية التي ساندت المسلحين، وفي الوقت ذاته تحدث عملية إرهابية مريبة في مصر، تستهدف مسيحييها، ويوظفها النظام المصري لاستهداف دولة قطر رأسا، من خلال اتهام "الإخوان".
هناك جرأة كبيرة لهذا الحلف (لا يمكن الادعاء أنه منسجم، لكنه يمر بحالة انتعاش وثقة)، تعكس موازين القوى الواقعية التي تميل لصالحه.
لا يمكن ألا يكون هناك بعض الاستتباعات لذلك على تونس. ما يسمى "الجبهة الجمهورية" التي بصدد التشكل من بقايا حزب السبسي التي انشقت عنه (حزب "المشروع" لمرزوق وبعض قيادات النداء) مع حزب "الوطني الحر" الذي يقوده الرياحي، الأقرب منه للمقاول منه للسياسي، تستهدف بشكل واضح السبسي و"الإسلام السياسي"، مثلما يقول متحدثون باسمها، وهو تحالف يستهدف صفقة "التوافق".
ولكن يستهدف أيضا انتخابات رئاسية مبكرة، كما يمكن أن يفهم من تصريحات الرياحي. من غير الواضح إن كان التصميم في مواجهة تركيبة "التوافق" هي بالدرجة ذاتها لدى مرزوق والرياحي، لكن أيضا من غير الواضح أن اتفق هذان الاثنان على اختيار أحدهما للمنافسة في الانتخابات الرئاسية القادمة، سواء في وقتها أو كانت مبكرة.
في كل الحالات، يستثمر هؤلاء بوضوح في هشاشة المجموعة المحيطة بالسبسي وأيضا في هشاشة الوضع في البلاد اقتصاديا واجتماعيا، خاصة مع الممارسات غير المسؤولة لابن السبسي. وبكل تأكيد يستثمرون بشكل مسبق في الرياح المعادية لمسار الديمقراطية في المنطقة.