كتاب عربي 21

بين خالد مشعل وبشار الأسد

1300x600
في حوار متزامن، تحدّث كل منهما عن الآخر، خالد مشعل في حواره مع برنامج المقابلة الذي تبثّه قناة الجزيرة تحدّث عن سوريا، وبشار الأسد في حواره مع صحيفة الوطن السورية تحدّث عن حماس، وقد أظهرت المقابلتان المتزامنتان الفروق النفسية والأخلاقية بين الشخصيتين.

المقابلة التي أجريت مع زعيم حركة حماس، وهو يتأهب لترك موقعه في رئاسة الحركة في دورتها الانتخابية التي يُفترض أن تبدأ نهاية الشهر الجاري حتى آذار/ مارس من العام القادم؛ كانت أقصر من أن تحيط بالحركة وزعيمها، وقد تخللتها مقاطعات من المُقدّم حرمت الجمهور من التعرف الدقيق والعميق على الحركة وتاريخها، كما تخللتها تقارير بينية افتقرت إلى الدقّة في بعض معلوماتها وتعبيراتها؛ ولكنّ مشعل أصرّ على أن يعطي علاقة حركته مع الدول العربية والإقليمية القدر اللازم من التوضيح والبيان.

صاحب هذه السطور الذي لا يخفي انحيازه للثورة السورية، ونقده متعدد الجوانب للمحور الإيراني، يختلف مع الحركة في مقاربتها للحدث العربي الكبير الذي لم يزل يحفر في عمق المنطقة منذ ست سنوات، وذلك انطلاقا من اعتبارين اثنين.

الأول: أنه لا ينبغي أن تنتقل حركة مقاومة فلسطينية نقلات إستراتيجية في بيئة تتسم بالغموض الإستراتيجي والتحول المستمر والسيولة العالية، فالرهان على التحولات التي جرت في مصر خصوصا، والمنطقة عموما، كان قصير النظر، وذلك لأن التحولات الجارية في ذاتها قصيرة العمر وسريعة التبدّل، وهي تحتاج إلى وقت طويل من التدافع للاستقرار.

والثاني: أن حركة حماس، تقف على ثغر خطير وكبير، ومسؤوليتها تجاه الأمة وقضايا الأمة، تتمثل في التزامها ثغرها، بكل ما يتطلبه هذا الالتزام من مسؤولية ورعاية. وضوابط الحركة وأولوياتها تتحدد وفق ما تفرضه الأمانة والمسؤولية المباشرة، ثم تتأطّر السياسات إلى لخارج بمتطلبات الداخل، والفكرة هنا محض مسؤوليات وأمانات يفرضها الواقع، وليست قبولا قبليّا بالواقع، ويفترض بهذا أن تتكامل مسؤوليات الثغور في النتيجة مهما كانت السياسات الآنية والراهنة ملتبسة ومكبّلة بقيود الواقع.

ومع ذلك فإن مقاربات حماس لهذا الحدث، لم تكن منفكّة عن التدبير للمقاومة، إذا بدا الأمر وكأنها قادرة على أن تنهض بالتزامها الأخلاقي تجاه الأمّة وشعوبها، دون أن تدفع ثمن ذلك من مسؤوليتها المباشرة عن ثغرها الفلسطيني، ودون أن تتضرر مقاومتها. ومن الناحية العملية بدت الأمور في البداية كذلك فعلا بعد أن أدخلت الحركة كميات من السلاح الليبي إلى غزّة عبر مصر.

صفة المقاوم هنا، تتعلق ببساطة شديدة بممارسة المقاومة ضد المحتل الأجنبي، ولا ترتبط بالضرورة بالمواقف السياسية، طالما أن هذه المواقف ليست ذات صلة مباشرة بالصراع مع المحتل. فالمقاوم لن يخطئ سياسيّا فحسب، ولكنه قد يقترف خطايا في كل المجالات.

هذا الفصل بين فعل المقاومة وبين المقاوم نفسه ضروري لمنع الخلط بين مقاومته العادلة وسياساته وممارساته الأخرى، فممارسته المقاومة لا تجعل أخطاءه صوابا، ولا تحميه من تبعات أخطائه، ولا تجعله قدّيسا، ولا تمنحه صكّا أبديّا بالطهارة، كما أن أخطاءه قد لا تنفي عنه فعل المقاومة، ولذلك فإننا ننتقد حماس ولا نتصور فيها الطهورية المطلقة ولا نرى كل أفعالها مقاومة، ولا ننفي عنها في الوقت نفسه طبيعتها المقاومة، لكنّ هذا الموقف المتزن غائب تماما لدى جمهور المحور الإيراني، الذي يرى كل أفعال محوره مقاومة، ويعرّف المقاومة بقدر الاقتراب من محوره.

اتخاذ المقاومة وسيلة لحماية المقاوم من إدانة جرائمه ومن تعريفها التعريف الصحيح بدعة اخترعها المحور الإيراني وجمهوره لتسويغ ممارسات هذا المحور الطائفية والإجرامية في سوريا، ومع ذلك فهذا الاستخدام يحتكره هذا المحور بصورة كهنوتية بابوية رغم افتقاره في لحظته الراهنة لفعل المقاومة، وتورطه في مذبحة مفتوحة، وإباحته سوريا لكل قوى الأرض لحماية مشروعه فيها.

عند المقارنة نجد حماس، وبعد خروجها من سوريا، أكثر القوى الفلسطينية والعربية على الإطلاق ممارسة لفعل المقاومة، فقد خاضت حربين، قدّمت فيهما تجربة قتالية فذّة، وما زالت تحتفظ بعدد من الجنود الأسرى بعد الحرب الأخيرة، ولم تتوقف محاولاتها عن استئناف نشاطها المقاوم في الضفة الغربية، وقد اعتقل الاحتلال عددا من المجموعات التابعة للحركة في الضفة والتي نفذّت أو خططت لتنفيذ هجمات ضدّه، وهي إضافة إلى ذلك لم تقترف الجرائم الأخلاقية التي يقترفها المحور الإيراني في سوريا.

بالرغم من استمرار وقوف حماس على أرض المقاومة، وغرق المحور الإيراني في مذبحة مفتوحة في سوريا وكفّه عن ممارسة أي شكل من المقاومة ضد "إسرائيل"، فإنّ بشار الأسد يخترع تعريفا جديدا للمقاومة، إذ لا يكتفي -كما هي العادة في الخطاب الرائج لدى المحور- في اشتراط الانحياز للمحور لنيل صفة المقاوم، ولكنه يضع شرطا إضافيّا ينفي فيه إمكانية أن يكون المرء مقاوما و إخوانيّا في الوقت نفسه!

تحدث بشار الأسد بما لا ينمّ عن نفسية سويّة لزعيم قومي، أو زعيم مقاوم، أو حتى رئيس دولة، ولكن حديثه جاء ثأريّا وانفعاليّا، خفيفا وطائشا، يفصح عن عقد مستحكمة في شخصيته، حينما قال: "نحن أيضا كنا ندعم حماس ليس لأنهم إخوان، كنا ندعمهم على اعتبار أنهم مقاومة، وثبت في المحصلة أن الإخونجي هو إخونجي في أي مكان يضع نفسه فيه، وفي أي قالب يحاول أن يقولب به نفسه، وفي أي قناع يحاول أن يلبسه، يبقى من الداخل إخونجيّا إرهابيّا ومنافقا".

بصرف النّظر عن جذور هذا التصور المَرَضي، الأقرب للهلوسة الجمعية، عن المقاومة، إذ يجري تجسيدها في معبد، وأيقنة سدنة المعبد داخله، فإن مشعل في المقابل تحدّث بسويّة نفسيّة عالية، خالية من العقد الشخصية، والنزعات الثأرية، ومنسجمة مع موقعه قائدا لحركة مقاومة.

لم يَجُرْ مشعل على الحقيقة التاريخية حينما قال بمنتهى الصدق والوضوح: "عشنا في سوريا أحد عشر عاما، وتم احتضاننا بشكل استثنائي، من الدّولة والنّظام ومن الشعب، وهذا تاريخ، والإنسان ينبغي أن يكون منصفا في جميع الحالات، في الرضا والغضب.. هذه حقائق، وقد وقفوا معنا في معركتنا ضدّ الاحتلال، وكنّا نملك حرية عمل كاملة.. ولكننا خرجنا بعد ذلك حينما وجدنا أن ثمن بقائنا في سوريا هو الانحياز للنظام".

لم ينكر مشعل دور النظام السوري في احتضان المقاومة الفلسطينية، بما فيها حماس، ولم يضع شروطا سخيفة وصبيانية لتعريف المقاوم؛ ينصّب بها نفسه سادنا للمقاومة وحركته معبدا للمقاومة، وقد خلا كلامه تماما من التحامل، رغم القطيعة التي جرت بين حركته والنظام السوري، وبينه وبين بشار الأسد.

حين المقارنة بين مقولة مشعل ومقولة بشار الأسد، يبدو لنا الفرق بين الالتزام بالمقاومة وفلسطين مبدأ وممارسة وبين امتهان المقاومة وفلسطين في استخدامهما وابتذالهما، بين الاتزان والطيش، بين المسؤولية والرعونة، بين أن تكون مسكونا بقضية المقاومة العادلة وبين أن تكون مهووسا بذاتك.