كانوا 400 كفروا بدعاية العسكر، كفروا بشعارات (ماسر قد الدونيا).
أدركوا حجم الخديعة التي انزلق إليها البعض في 30 يونيو، حين كفرت القرية بنعم الله فأذاقها لباس الخوف والجوع.
جمهورية العبيد كما أرادها عسكر الانقلاب ومن قبلهم إخوانهم عسكر انقلاب يوليو 52.
خرابة من العصور الوسطى تنعق فوقها الغربان ويقف على أطرافها عسكر يرتدون زياً مبرقشاً مزخرفاً بالريش كما تراهم في أي فيلم أمريكي درجة ثالثة يتحدث عن انقلابات أفريقيا.
فيلات فاخرة كأنها جزر منعزلة يحيط بها بحر من الخرابات، تمتلئ مخازن قصورهم بالأطعمة المستوردة. أثاث فاخر وديكورات فاحشة ومظاهر غنى متوحش شرير.
جنرالات جهلة متعجرفون يحيط بهم الخدم وحولهم زوجاتهم سوقيات الطابع تمتلئ أذرعهن بالذهب الذي استلبوه من جيوب ساكني الخرابات المحيطة.
فخامة فاحشة وأموال بلا حدود وذهب يتخم أعناق نساء سوقيات الطابع وجنرالات يتحدثون عن الرياح الشمالية الغربية التي تجنب
مصر ويلات الصواريخ وجنرالات آخرون يتحدثون عن معركة (حطة يا بطة) التي انتصر فيها رمسيس الثالث على الحيثيين (وهي احد ابداعات العسكر الجديدة!).
جهل مغلف بغنىً فاحش، وحوله خرائب وتلال من القمامة تسمع فيها بين الحين والآخر حفيف أوراق القمامة التي يقلب فيها أحدهم عله يعثر على بقايا وجبة.
وعلى الأطراف سوق فوضوي يغمره التراب يرتاده سكان الخرائب، يبتاعون منه لحوم حمير حديثة الذبح، وبيوت كحظائر الطيور متلاصقة قبيحة المنظر تتصاعد منها رائحة طعام خبيث الرائحة، لم يجدوا غيره.
تسير فتسمع بين الحين والآخر صوت أحمد موسى يحدثهم عن المؤامرة الأمريكية وهو يتأنى حتى يأتيه الوحي من سماعة الأذن التي يهمس فيها شاويش أمن دولة ما بما يجب عليه أن يقوله، أو ترى رجلاً وزوجته يجلسان وسط الخرائب يتابعان بأعين زجاجية محمد الغيطي وهو يعدل باروكته فوق رأسه ويحدثهم عن أسر قائد الأسطول السادس.
400 من الشباب قرروا الفرار من هذا الجحيم.
سمعوا أن هناك أراض أخرى في هذا العالم لا يحكمها عسكر.
لا ريب أن أحدهم سافر للقاهرة وأشبعه أمين شرطة ما أو ضابط ما صفعاً وركلاً في كمين.
لا ريب أن آخر مر بجانب دار من الدور العسكرية فلفحت أنفه روائح الشواء المتصاعدة الممتزجة بأضواء قاعة المرقص الداخلي الذي تتعالى منه موسيقى تتمايل عليها راقصة ما.
لا ريب أنه شاهد العسكر يكرمون أمهم المثالية فيفي عبده ورزم المال تتناثر فوق رأسها.
لا ريب أن كثيراً منهم باتوا ليالي كثيرة دون عشاء.
أحدهم باع والده قيراط أرض ليرسل ابنه إلى تلك الأرض البعيدة عله يجد فيها فرصة لحياة كريمة بدلاً من حياة الفئران التي يحياها المصريون تحت الاحتلال العسكري.
أحدهم ترك أمه المسنة التي كان يشاركها غرفة فوق السطح، وأخذتها سنة من النوم فأفاقت على نبأ غرق ابنها يأتيها من شاشة قديمة لتليفزيون مستعمل اشترته.
لا شك أن بعضهم كان يدرك حجم المخاطرة وبالتأكيد سمعوا أو قرؤوا عن غرق مركب سابق ولكنهم اتخذوا قرارهم.
الفرار من تلك الخرابة.
المركب المتثاقل يغرق، أقاربهم يهرعون إلى خفر السواحل لينقذوا أبناءهم قبل أن يغرقوا.
يسمعون الصوت الثقيل غير المكترث لضابط ما ليست هناك أوامر!!
تركوهم يغرقون لأنهم لم يتلقوا أوامر بإنقاذهم.
ولو ظلوا ينتظرون أوامر إنقاذ لانتظروا حتى يوم الدين.
تباً لك ولجيشك ولأوامرك ولحياة تحياها أنت وأمثالك.
سُحقا لدولتك ولعلمك ولنشيدك ولمؤسساتك التي لا تساوي حياة شاب يغرق وأبوه عاجز يكاد يلطم خديه وهو يعرف أن ابنه سيكون طعاماً للأسماك بعد قليل.
من غرقوا كانوا أفضل حالاً، فلن يتعرضوا للتعذيب في أقبية العسكر ولن يُحاكموا عسكريا.
ربما كنت تعيب عليهم عدم المقاومة.. ربما ساءك قرارهم بالفرار وربما كنت على حق ولكنك لا تملك إلا أن تدعو لهم بالرحمة وأن تدعو أقرانهم للمقاومة.
تحت تلك الخرائب يرقد تاريخ من المقاومة والثورة.
خلف كل ذلك القبح يختفي الوجه الحقيقي لمصر التي غيبها العسكر.
أجدادكم ثاروا ووقفوا أمام فرنسا في ثورتي القاهرة الأولى والثانية وفي حملة فريزر، فإما أن تكونوا كأجدادكم أو سيتركونكم تغرقون.