بنهاية هذا الأسبوع سيمر ثمانون يوما منذ إطلاق السبسي مبادرة "حكومة الوحدة الوطنية" بدون التشاور مع أحد كما تأكد لاحقا والبلاد معطلة بلا حكومة. وهذا يعقد أكثر الوضع الاقتصادي السيء أصلا حتى لا نقول شيئا آخر. وآخر مؤشرات المعهد الوطني للإحصاء الخاصة بالثلاثي الثاني لهذه السنة أكدت ارتفاع نسبة البطالة إلى 15.6%. فعندما تقلد السبسي الحكم وأشرف على التركيبة الحالية للسلطة كانت نسبة البطالة 15%. بما يعني عمليا زيادة في عدد العاطلين بـ28 ألف عاطل، عوض الوعود التي أطلقها السبسي وحزبه بتقليص البطالة وخلق مواطن الشغل. للإشارة فهذه النسبة العامة تخفي تفاوتا كبيرا بين الولايات
التونسية، فمثلا الأقل هي ولاية المنستير الساحلية 6% والاأكثر ولايات الداخل والجنوب حيث توجد الثروات الطبيعية مثل النفط والفسفاط حيث نجدها خاصة في تطاوين في حدود 32% وقفصة 28%.
وكلما طالت مباحثات تشكيل الحكومة كلما تزايد الابتزاز بين الأحزاب المشاركة في تشكيلها. والابتزاز هو المؤشر الأبرز على حالة الهلع على الكراسي. حيث قدم حزب السبسي أكثر من خمسين اقتراحا لحكومة لن يزيد عدد وزرائها حسب تصريحات الشاهد العشرين وزيرا. آخر الأمثلة على مسار الابتزاز تصريحات سليم الرياحي أحد قادة هذه الأحزاب، وهو رجل أعمال حوله شبهات يخلط بين الرياضة والسياسة والإعلام ويريد أن يتقلد منصبا وزاريا حيث يقول: "إلى حد الآن لا زلنا ننتظر الهيكلة النهائية للحكومة والمشاركين فيها وهو ما يؤكد أن المفاوضات تسير عكس ما نصت عليه وثيقة قرطاج… أمام تواصل الحياد عن الوثيقة، ستولد الحكومة الجديدة ضعيفة هشّة، قد ينفضّ الجميع من حولها بعد أيام قليلة من تشكيلها، هذا إن ولدت". ويضيف في السياق ذاته: "طريقة تشكيل الحكومة الجديدة وإدارة المفاوضات حولها بعثت مؤشرات تؤكد بأن هذه الحكومة ستكون أضعف من حكومة الصيد إن لم نقل جميع الحكومات السابقة".
الابتزاز والهلع على توزيع الكراسي يمس كل التعيينات تقريبا. إذ هناك أخبار متواترة عن تعيين وزراء سيتم التخلي عنهم من حكومة الصيد ومستشاري السبسي كسفراء. ومثلما نقلت جريدة "المغرب" منذ أيام: "من دائرة المشاورات حول الحكومة المرتقبة أن عددا من الوزراء الذين سيغادرون سيكلفون بمهات أخرى ومن المنتظر اقتراح أسمائهم كسفراء، وحسب الأخبار المتداولة فإن حوالي ثمانية وزراء من الذين سيتم تغييرهم سيحظون بمنصب سفير. التغييرات ستطال أيضا رئاسة الجمهورية من خلال تعيينات جديدة لسد الشغور من جهة وانتداب آخرين من جهة أخرى، فمن المنتظر أن يتم تعيين المستشار الاقتصادي في رئاسة الجمهورية رضا شغلوم بديوان رئيس الحكومة المقبلة يوسف الشاهد، وتعيين المستشار الإعلامي لرئاسة الجمهورية معز السيناوي سفيرا فضلا عن إمكانية تعيينات أخرى لمستشاري الرئاسة إما كتاب دولة أو سفراء".
فعوض أن تكون الدبلوماسية التونسية خلية تغلي بكفاءات قادرة على دعم مجهود الدولة الاقتصادي في فترة الانكماش الاقتصادي المتزايد، أصبحت في عهد السبسي "مصبا لتفريغ الكفاءات المكسرة". أصبحت بمثابة برنامج تعويضات. سيحسب للدكتور المرزوقي أنه لم يعين أيا من أعضاء حزبه كسفراء أو قناصل.
لكن أكثر الطرائف السوداء في مسار تشكيل الحكومة هو تصريح زعيم حزب السبسي، وهو ابنه الذي أورثه الحزب الحاكم، الذي قال: "إنّ تعيين وزراء السيادة ليست من مشمولات رئيس الحكومة بل من مشمولات رئيس الجمهورية". وهو ما يعكس ببساطة جهلا عميقا ببديهيات الدستور، وانعكاسا للذهنية التي تحكم أوساط الحكم وخاصة عائلة السبسي التي تستغل التوزنات الداخلية الدقيقة والهشة لفرض نظام رئاسوي لادستوري يتجه نحو تركيز حكم العائلة.
نتمنى أن تنجح تونس حتى بالسبسي لكنه لن يتركها تنجح بذهنية كهذه وممارسات تنظر إلى البلاد كغنيمة عائلية حتى في هذه الفترة الحساسة التي تستوجب حسا وطنيا عاليا. ولعل أهم المؤشرات على حالة التخبط العامة لمن هم في الحكم هو أزمة حاجة أساسية للمواطنين أي الماء، حيث تشهد البلاد مؤشرات خطيرة على وضعية جفاف غير مسبوقة. إذ صرح وزير الفلاحة في حكومة تصريف الأعمال الحالية أن مخزوننا لن يتجاوز شهر ديسمبر وأنه إذا تواصل الجدب إلى شهر سبتمبر فإننا نقترب من كارثة.
لكن حتى هنا لسنا إزاء وضع طبيعي خارق. إذ نقل موقع "نواة" الاستقصائي هذا الأسبوع أن هناك شبهات حول: "صفقات فساد في مجال معالجة المياه صلب الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه أكدته مؤخرا مصادر من داخل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، حيث أحالت هذه الأخيرة في شهر يوليو الماضي ملف فساد لوكيل الجمهورية يثبت تورط مسؤولين للشركة في إسناد مناقصة شراء لإحدى الشركات المختصة في صناعة المواد المطهرة للمياه، وقد تبين أن الشركة المذكورة قامت بتصنيع مواد غير مطابقة للمواصفات الصحية، لأنها تحتوي على مادة ”نيكال“ المضرة بصحة الإنسان".
وربما المؤشر الرمزي على حالة الجدب الروحي والأخلاقي للحزب الأغلبي هو ما نقلته صحف مغربية هذا الأسبوع نقلا عن تحقيقات الشرطة المغربية عن "الإطاحة ببرلماني عن حزب (نداء تونس)" من قبل مراهق مغربي التقط له فيديو في وضع خاص مخل وحاول أن يبتزه بنشر الفيديو. طبعا في الأصل من المفروض أن يبقى موضوع مثل هذا يمس الحياة الشخصية رهين القضاء وبعيدا عن المتطفلين لكننا إزاء شخصية أساسية في الكتلة البرلمانية لحزب السبسي ويمسك بملفات أساسية ويخشى أنه تم تصوير فيديوهات مماثلة لابتزازه. أليس تهديدا للأمن الوطني وهيبة الدولة عندما تتعلق بـ"رئيس لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ومراقبة التصرف في المال العام" في البرلمان والنائب عن حزب السبسي قضية أخلاقية لدى سلطات بلد آخر؟! أليس مسك "وثائق لا أخلاقية" في بلد آخر على هذا النائب تهديدا لمصداقية أو استقلالية رئيس اللجنة المخولة بمقاومة الفساد؟! المسألة ليست شخصية أخلاقية أو خاصة بل تتعلق بـ"شخصية عامة"على رأس لجنة تشريعية حساسة....
ادعى السبسي أن له برنامجا انتخابيا "يدوخ" وأنه سيقلص البطالة، فتبين أن برنامجه خاو وأن نسب البطالة تزداد. وادعى أن له في حزبه من الكفاءات ما يشكل أربع حكومات، فتبين أن كفاءاته محدودة تبين فشلها في حكومة الصيد، وفي تعطشها لخرق الدستور لمصلحة النفوذ العائلي وتشوه بممارساتها البرلمان ولا تملك المصداقية لمواجهة الفساد، بل هي تطبعه بقوانين مثل "قانون المصالحة". وآخر هذه الكفاءات أحد المعتمدين في العاصمة تونس الذي ذبح أمام الإعلام خروفا احتفاء بوزير التنمية المحلية ورئيس الحكومة المحلية الآن في مشهد يذكر التونسيين بأيام خوال هيمنت فيها الدعاية والتضليل والتحيل على الوقائع.
نتمنى أن ينجح... لكن أكبر خصوم السبسي هو نفسه. هو الروح والعقلية التي تجترها المنظومة القديمة التي قامت ضدها الثورة، حتى إذا زينها بوجوه شبابية جديدة.
في المقابل متأكدون أن تونس التي تغلبت على صعاب جمة في حماية مسارها الديمقراطي ستنجح في النهاية، خاصة إذا استطاعت نخبتها التي لم تتلوث بالقديم أن تراجع نفسها وأن تعيد تنظيم صفوفها وتتجاوز المنطق الزعماتي والصراعات الهوياتية الإيديولوجية والتوافق على خريطة طريق ضمن ما يتيحه الدستور وموازين القوى تعيد ترتيب المشهد السياسي نحو سلطة جديدة بإرادة سياسية جدية وحزمة إجراءات سريعة لإنقاذ الوضع على رأس أهدافها مكافحة الفساد وتحفيز الاقتصاد والتقليص من التفاوت الاجتماعي والجهوي والإطاحة بجيوب الإرهاب التي تتغذى من الفساد والحيف الاجتماعي.