كتاب عربي 21

السبسي يختار موظفا طيعا لتطبيق سياسة "التقشف" وحكمه المطلق

1300x600
أخيرا أخرج السبسي مقترحه لرئاسة الحكومة، وبعد "التشاور" مع نفسه أساسا، وفي ظرف يومين فرضها على من جرهم لحوار وهمي حول "حكومة وحدة وطنية".

الواقع أن العارفين بكواليس الساحة السياسية، وأيضا بذهنية السبسي، كانوا يتوقعون اختياره... وزير في الحكومة الفاشلة التي تم سحب الثقة منها من قبل الأحزاب ذاتها التي تشكلها، وقيادي حتى وقت قريب من الصف الثاني في حزب السبسي، وهو شاب عمره بالكاد أربعون سنة.. يوسف الشاهد. 

أهم ما يستحق الذكر في سيرة الرجل السياسية الباهتة، والذي تم اختياره لترؤس "حكومة سياسية"، أن السبسي اختاره سنة 2015 ليترأس لجنة في حزب الأغلبية المتشقق، كان دورها أساسا فسح المجال لتوريث ابن السبسي، حافظ قائد السبسي، حزب أبيه، وأن يصبح بعد مؤتمر سوسة القيادي الأول في الحزب.

عندما سئل حينها عن سبب اختياره في تلك اللجنة، وهو الشخص المغمور، أجاب حينها أن له ماض سياسي، فهو سليل عائلة حسيب بن عمار وراضية الحداد، حسب قوله. الحقيقة ليس كل من ينتمي لهذه العائلة أصابه حظ هذا الصعود السريع، لكن يبدو أن علاقة المصاهرة والشبكة العائلية لعائلة السبسي، والتي ينتمي إليها الشاهد، ساهمت في ذلك. فهي شبكة تضم علاقات مصاهرة روتينية ودورية بين عائلات "بلدية" معروفة، مثل قائد السبسي والحداد وبن عمار والمبزع والوزير وبلخوجة وبن عاشور. على كل حال، دافع الردة نحو العائلة لدى السبسي لا يبدو إشاعة، بل عليه مؤشرات واضحة، أهمها الصعود السريع لابنه لخلافته في الحزب، وهو شخص بدون أي مؤهلات، لا سياسية ولا تواصلية ولا علمية، فقط الوجاهة العائلية. وأيضا وجود آخرين في ديوانه من العائلة، وأهمهم مدير ديوانه سليم العزابي. فاختيار الشاهد هو في المحصلة اختيار شخص "مضمون" وضعيف من حيث القاعدة السياسية بدون تأثير السبسي، يمكن التعويل عليه لتنفيذ تعليمات السبسي وابنه.

من المثير للغرابة على كل حال؛ أن كاتب دولة للفلاحة ثم وزيرا للجماعات المحلية (مكلف ضمنيا بإعداد الانتخابات البلدية)، في حكومتي السبسي الفاشلتين منذ كانون الثاني/ يناير 2015؛ اختير لترؤس حكومة جديدة، يراد لها أن تكون ناجحة. ولم يستطع إنجاز أهم ملف كلف به عندما كان وزيرا، أي تمرير القوانين التي يمكن على أساسها تحديد أجندة الانتخابات البلدية، والتي ستتأخر الآن إلى نهاية 2017 إن لم يكن بعدها. لم يكن للشاهد ماض سياسي قبل 2011، وتدرج في أحزاب "حداثية" مختلفة بعد الثورة، قبل أن ينخرط في حزب السبسي. لكن كان له في المقابل ماض كممثل لوزارة الزراعة الأمريكية منذ سنة 2008، وعمل على هذا الأساس موظفا في السفارة الأمريكية.

وحسب الاقتصادي التونسي مصطفى الجويلي، فإن الشاهد اشتغل أيضا كخبير لدى اللجنة الأوروبية وقسم الفلاحة بالولايات المتحدة؛ مكلف بمتابعة السياسات الفلاحية في بلدان المغرب العربي. وقدم سنة 2003 أطروحة دكتوراه في باريس تحت عنوان "تقييم آثار تحرير الأسواق الفلاحية على المبادلات و مستويات العيش" "mesure de l'impact de la -libéralisation des marchésagricolessur les échanges et le bienêtre-". وحسب الجويلي في هذه الأطروحة، دافع الشاهد بشراسة عن ضرورة التحرير الكلي لقطاع الفلاحة في تونس وانفتاحه الكامل على الأسواق العالمية. كما دافع عن ضرورة إجراء إصلاحات عقارية تحرر الاستثمار في القطاع الفلاحي، وتسمح للمستثمرين الأجانب بتملك الأراضي الفلاحية في تونس. في الأطروحة نفسها اعتبر يوسف الشاهد أن الحديث عن "حماية حقوق المزارعين" و"السيادة الغذائية" شعارات بالية تجاوزها الزمن ومناقضة لأسس العلوم الحديثة. وحسب الجويلي، فإن الشاهد "هو رجل المرحلة القادر على تمرير كل الإملاءات، والالتزام بما جاء في رسالة النوايا الموجهة إلى صندوق النقد الدولي".

من الملفت أن رئيس الحكومة المكلف ركز في أول كلمة له بعد تكليفه على ضرورة "مصارحة الشعب" بحقيقة الوضع الاقتصادي، وأنه يجب اتخاذ "إجراءات غير عادية" لمواجهة الوضع. وهي تبدو صياغات تعكس صدى خطاب المؤسسات المالية الدولية التي تضغط في اتجاه التحكم في العجز، وحتى نحو برنامج "تقشف" يمكن أن يؤدي إلى أزمة اجتماعية وموجة احتجاجات في البلاد.

من جهة أخرى، كانت مناورة تمرير اختيار السبسي متزامنة منذ شهرين مع محاولة تمرير قانون "المصالحة"، وهو عنوان سياسات وممارسات لمنظومة سعت لتطبيع الفاسد وترسيخه، وترافقت مع فضائح حقيقية لحكومة السبسي السابقة، مثل صفقة شراء الشركة المالطية للاتصالات، وفضيحة اللوالب التي اعترف وزير الصحة رسميا بالتغطية عليها. المثير للغرابة أن الشاهد المعين من السبسي، الذي يدفع باتجاه قانون لتطبيع الفساد والمنتمي لحكومة تميزت بفضائح في الفساد، تعهد بأن هدفه الثاني بعد "الانتصار على الإرهاب" هو مكافحة الفساد!

من المهم التأكيد أيضا أن كل هذا يتم على خلفية سعي حثيث للسبسي وحلفائه لتعديل الدستور، بما يضمن تغولا في صلاحياته وينقلنا إلى نظام رئاسوي، وهو بصدد تفعيل ذلك عمليا على الضد من الدستور، ومن خلال تهميش دور البرلمان. ويفعل ذلك تحت واجهة حكومة من المتوقع أن تكون شابة وفيها حضور بارز للمرأة. أي ترسيخ القديم بواجهات ملمعة وجديدة.

مرة أخرى، تحايل السبسي على طيف من الأحزاب السياسية. جرهم لمناورة سياسية جديدة تستهدف ترسيخ مسار تغول السبسي على صلاحيات رئيس الحكومة، وفي السياق ذاته ترسيخ نفوذه الشخصي عبر شبكة عائلية، بما ينتج حكما كليبتوقراطيا جديدا، وهو ما يقوض الدستور، لكن يقوض أيضا الاستقرار، ويعطل الإدارة، ويزرع بذور الفوضى، ويشل الاقتصاد، ويرسخ منظومة الفساد. وكل ذلك يوفر شروط استئصال الجمهورية وحتى التوافق.

لم يبق أمام القوى الديمقراطية والوطنية إلا التقارب وتعديل ميزان القوى السياسي، حيث إن العاصفة الاجتماعية قادمة لا محالة إزاء التصرفات اللامسؤولة والمضرة والمغرقة في الفساد والفوضى للسبسي وتحالفه. ولا نريد لهذه العاصفة أن تدمر تونس، بل نريدها أن تعيد تأسيس الجمهورية وتنقذها من براثن منظومة لن تهنأ إلا بإعادة ترسيخ الاستبداد والهمجية وهيمنة الفساد.