في الصراعات المفصلية وبعد فترات متباينة تميل كتل متعددة إلي التحرك نحو المساحات المتاحة التي تقلل من احتمالات الخطر لأسباب مختلفة، وتكون أكبر الكتل هي التي تتحرك فورا إلي المساحة الآمنة بل ربما تدعي أنها كانت من البداية في هذا المكان ومنعتها "الظروف" أن تظهر ذلك.
حدث هذا فور التأكد من حتمية الانقلاب العسكري في
مصر في الأول من يوليو، فوجدنا حالة من التحرك السريع والسريع جدا من قطاعات واسعة ناحية الأقوى بصرف النظر عن القناعات فهذه الكتل في الغالب لا قناعات لها نتيجة لحالة الإذلال والإفقار المتعمد من السلطة المستبدة التي أفقدت تلك الكتلة إحساسها بإنسانيتها، فالقوة لها بريق والسلطة أيضا وعندما يجتمع الاثنان فهما أقرب للمغناطيس القوي الذي يجذب كل برادة الحديد إليه. وبرادة الحديد تلتصق بشدة بالسلطة والقوة وتصبح شمسها وقمرها التي تدور حوله، تلك الكتلة الشديدة الضعف هي من تحركت بسرعة هائلة نحو سلطة الانقلاب وقوته وهي ستتحرك أيضا ناحية القوة الأكبر والسلطة الأقوى إن ظهرت في يوم ما.
بقيت كتل كبيرة بعيدا عن دائرة الانقلاب العسكري واستمرت لفترات مختلفة محافظة على موقفها المعادي لسلطة السطو المسلح، ولكن هل استمرت هكذا؟.
يقول ألبير كامو "من تنقصهم الشجاعة يجدون دائما فلسفة يفسرون بها ذلك"، ربما الجملة لا يمكن تطبيقها تماما في حالتنا في ما يتعلق بالشجاعة؛ إلا أن الجزء الهام بها هو وجود القدرة الدائمة على تفسير المواقف عند تغيير التوجهات، فدائما هناك تفسير ما بمنطق ما، وفي الغالب تكون المقدمات التي يُبٌنَي عليها هي الوسيلة للوصول للهدف. أرى أننا نبتعد، حسنا فلنعد إلى الكتلة المعادية للانقلاب.
مارست سلطة السطو المسلح قدرا هائلا من العنف الدموي باستخدم القوة مما جعل قطاعات واسعة تؤثر السلامة وتبتعد عن التواجد في مساحات الصدام وهذه حكمة في ظل غياب استراتيجية واضحة للتعامل مع العنف الدموي للانقلاب، ولكن تبقي هذه الكتلة هي الاحتياطي الاستراتيجي للثورة في لحظة فورانها وستجد كل هذه الكتلة معك في الشارع كتفا بكتف كما كان يحدث بعد الانقلاب والمجازر مباشرة.تحركت تلك الكتلة بحكمة إلى المنطقة الآمنة دون الإخلال بالمعايير والمفاهيم، فهي ما زالت تعرف العدو وتدرك المعركة وأطرافها وتنتظر بوعيها الصحيح لحظة الثورة الحقيقية.
بقيت الكتلة الصلبة المعادية للانقلاب والتي تتحرك لإنتاج ثورة، وأعتقد في تلك اللحظة بدأت مرحلة في منتهى الخطورة والحساسية، إذ تنتظر تلك الكتلة السائلة الهائلة التي آثرت السلامة مرحليا ما ستفعله الكتلة الصلبة المعادية للانقلاب كي تنضم إليها في الثورة.
وهنا بدأ تيار في إعادة إنتاج المصطلحات وتسويقها ليحقق حالة من التشويه المتعمد بأفكار ومفاهيم الكتلة السائلة وجزءا من الكتلة الصلبة الضروي كي ينتج شيئا جديدا يلبسه ثوب الثورة التي ينتظرها الكثير، فمثلا المد الثوري الشعبي اللازم لحماية الثورة أصبح اصطفافا نخبويا لا ينتمي للشعب ولا للمد الثوري ويروج له بدون أي سبب منطقي على أنه اصطفاف شعبي واسع في مشهد شبيه بمنصة 30 يونيه، وأصبحت العدالة اللازمة لتحقيق توازن القوي وانتزاع السلطة من المجرمين أصبحت عدالة انتقالية، والعدالة الانتقالية فكرة جيدة ولكن لا يمكن الحديث عنها إلا بعد كسر سلطة الاستبداد أما الحديث عنها الآن مع هذا الفارق الهائل للقوى فيحتاج لتفسير. كما اختزل كل التاريخ الإسلامي في صلح الحديبية الذي حدث في حالة من توازن القوى المقبول، وأصبحت غزوة حمراء الأسد التي حدثت عقب هزيمة أحد مباشرة وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج معنا إلا من شهد القتال موقف لا يتحدث عنه أحد.
كما وصل تمييع المصطلحات إلى الثورة نفسها فقد وصل الحال أن تكون مجرد تغيير في رأس النظام والحفاظ على كل شيء ما دون ذلك لا لمحاولة إعادة بنائه من الداخل -فقد رأينا بأم أعيننا كيف فشل ذلك فشلا ذريعا في مثل هذه الأيام منذ سنوات ثلاث- بل لسبب آخر يحتاج أيضا لتفسير إلا لو كنا قد أدٌمَنَّا محاولة أعادة المحاولات الفاشلة بنفس مقدماتها.
إن الهدف من إعادة إنتاج وتفسير المصطلحات هو صناعة المقدمات اللازمة لبناء استنتاج أو إجراءات يمكن بها إقناع الكتلة السائلة التي تنتظر الثورة والعدالة والمد الشعبي الثوري، فكان لابد من إعادة إنتاج تلك المصطلحات لتتوافق مع الرؤية الجديدة و"الثورة" الجديدة.
وما يطرح نفسه الآن: ما هي الأسباب التي تدفع كتلة ليست بالقليلة من داخل المعسكر المعادي للانقلاب في هذا التوجه؟
ربما يكون الإحساس بالعجز والهزيمة أمام القهر الهائل وفارق القوى الكبير من وجهة نظرهم بين الثورة الناشئة والانقلاب، ولكن متى كانت القوى متعادلة بين الثورات وبين سلطات الاستبداد والاحتلال، طوال التاريخ كان فارق القوة هائلا ولكن نجحت ثورات كبرى في ظل هذا الفارق، فلو كان هذا الاحتمال صحيحا في التفسير فأعتقد أننا أمام مشكلة كبيرة في رؤية قيادات العمل "الثوري" في مصر.
وربما كان الإحساس بحجم الرفض الكبير من قوى إقليمية ودولية لقيام سلطة في مصر تنتمي للشعب المصري وتعبر عن الأغلبية بشكل حقيقي وأن المجتمع الدولي والإقليمي يفضل أقلية مسلحة منتمية إليه وترعى مصالحه، وهذا حقيقي إلى حد كبير، فلماذا إذا - إذا كانت قضية العدالة والحرية هي ما تسعى إليه – تقبل بهذا؟
إن محاولة إنتاج أفكار ومصطلحات جديدة لتعبر عن التيار الجديد هي حالة من التراجع نحو المنطقة الآمنة، وكما ذكر سابقا أن هذا التحرك يمكن أن يكون مقبولا من الكتل السائلة ولكنه كما أراه جريمة كبرى من القوي الصلبة وقيادات العمل الثوري لأنه ليس فقط يدمر الأفكار وبالتالي المستقبل للثورة المصرية ولكنه بشكل ما يعطي شرعية لما حدث ويؤكد أحقية الأقلية المسلحة في حكم مصر والسيطرة على شعبها وليس من حق أحد الحديث بعد ذلك عن سلطة الشعب، والحد الأدنى من الموقف الثوري الأخلاقي هو الرفض الشامل والمستمر، وإذا لم ننجح إلا في ذلك فعلي الأقل ربما يأتي جيلا بعد ذلك لم تُشَوَّه فكرة العدالة والثورة والشعب في ذهنه ولم تتحول إلى تصالح وتراجعات واصطفاف؛ يستطيع أن يفعل ما لم نستطع فعله.
أثناء حروب الردة طلب البعض من أبي بكر أن يتفاوض مع المرتدين لكثرة عددهم وانتشارهم في معظم الجزيرة العربية، فقال لهم أبو بكر "أقاتلهم وحدي".