يحاول البعض تصوير ما يحدث في
مصر من تدهور شامل في كل المجالات وعلى رأسها المجال الاقتصادي والسياسي والأخلاقي، على أنه فشل من أجهزة الدولة التي لا تدرك كيف تدير الأمور؟ ويخرج علينا دوبليرات النظام يشقون الصف الرافض للانقلاب بدعاوى لتشكيل جبهات وتكتلات لإنقاذ مصر مما هي فيه، والتخلص من النظام الديكتاتوري المنتهك لحقوق الإنسان، ويحاول هؤلاء أن يقنعوننا بأن ذلك لن يحدث إلا إذا تناسينا الأصل، وتناسينا الحق وتعايشنا مع الواقع وتعايشنا مع النظام المغتصب، وهذه هي السياسة "فن الممكن"، كما يدّعون.
وعلى الجانب الآخر، نقف نحن، متمسكين بالحق رافضين لكل التنازلات، نسمي الأشياء بأسمائها، لا نقبل خلط المفاهيم، مدركين أن الخطر الأكبر على مصر هو الاستسلام للمفاهيم المغلوطة، وعدم التمسك بتسمية الأمور بأسمائها، والانزلاق على منحدر التقسيم متمسكين بوحدة المفهوم قبل الوحدة الشكلية.
بينما يعيش المعسكران في صراع بين مفهوم الثورة الحقيقية ومفاهيم السياسة المفسدة لكل الثوار وجميع الثورات، يداوم من خدّرهم النظام من الشعب الآخر بالحديث عن المؤامرة الكونية ضد زعيمهم المضلل، وعن الإرهاب الذي يتصدى له ذلك الزعيم، ويتحدثون عن ضرورة حماية نظامهم الذي هو الضمان الوحيد لبقاء الدولة التي لا وجود لها إلا في مخيلتهم، ويتوهمون أن الحفاظ على الدولة الوهمية أهم من الحفاظ على القيم والأمن القومي، بل قد تمثل هي حدود
الأمن القومي.
هذه هي الجريمة الأولى للانقلاب، جريمة تمييع المفاهيم، ذلك لأن تمييع المفاهيم هو المدخل للقضاء على الشعوب، وهو طريق سلب الأمم إرادتها وتفكيك وحدتها كمقدمة لنسف أمنها القومي.
لقد تنوعت تعريفات الأمن القومي، فمنها من اتخدت الاكتفاء الذاتي من الموارد كدليل على الاستقلالية ودليل على تحقيق الأمن القومي، ومنها من اعتبرت التحكم في الموارد، ذاتية كانت أو في المحيط الجغرافي القريب، هي الدليل على تحقيقه، ووصلت بعض التعريفات لاعتبار أن استعمار الأرض أو الاحتكار غير المشروع للموارد هو الطريق.
وتباسطت التعريفات في عصر الهزل، حتى إن البعض عرف الأمن القومي بالالتزام بالمعاهدات ولو جارت على الحقوق، وآخرين خلطوا الأمن القومي بالأمن الغذائي، ومنهم من اعتبر الأمن القومي يتحقق بالخنوع للمغتصب للحفاظ على بعض الأرواح.
وتناسى الجميع أن الأمن القومي تكمن جذوره في أعماق الإنسان ووحدة المجتمع، ولذا كان هدف الاستعمار دائما هو ضرب هذه الوحدة منذ "فرق تسد" وحتى "هما شعب وإحنا شعب"، فكانت الخطوة الأولى على طريق الانقلاب هي تقسيم الشعب.
إن الأمن القومي في ظل المفاهيم العالمية الجديدة لا ينبع إلا من خلال تماسك الشعب الواحد وتمسكه بوعيه وضميره، لأن في ذلك ضمانا لقدرة ذلك الشعب على مواجهة العواصف التي تهدد الأمن القومي كل لحظة.
إن ما يحدث في مصر ليس فشلا إدرايا، بل هو مخطط لإسقاط الوعي والقضاء على وحدة الشعب كطريق لانتهاك أمنه القومي، لذا كانت دائما العودة للحق هي الطريق الوحيد لتحقيق السيادة، التي تتحقق بإسقاط دعوة المشروعية عن النظام القائم والتمسك بتعريفه بأنه انقلاب، ويتحقق بذلك الانتصار الأكبر، ألا وهو عودة الوحدة للشعب التي تمثل عودة للوعي الحقيقي بالتفاف مجموع الشعب حول مصلحته الحقيقية في إسقاط الانقلاب واسترداد الشرعية التي تمثل الأمن القومي الحقيقي.
إن الدول والأنظمة لا تحقق الأمن القومي، ولكنها الشعوب.