قضايا وآراء

حكاية الجندي الذي كان مصريا

1300x600
لماذا أنت يا سليمان تصر على حفظ رقم سلاحك؟

لأني أحبه كما أحب مصر تماما.

كانت هذه الكلمات البسيطة الواضحة التي قالها الجندي المصري سليمان خاطر اثناء محاكمته لقتل مجموعة من الإسرائيليين، لتعبر عن واقع جيل تربى ونشأ وهو يعرف جيدا من هو عدوه وإلى من يصوب فوهة بندقيته.

لم يستطع سليمان وهو يقف في نقطة حراسته في عام 1985، أن يرى مجموعة من الإسرائيليين وهم يتعمدون تخطي المنطقة المكلف بحراستها بالرغم من تحذيرهم أكثر من مرة، أطلق سليمان رصاصات بندقيته على المجموعة فقتل منهم 7 أفراد (رجل وإمراتان و4 أطفال).

"سليمان" وغيره من الجنود المصريين في ذلك الوقت، لم يكونوا ليتحملوا في الأصل وجود إسرائيليين في أرض سيناء يعربدون فيها كيفما شاؤوا، بدعوى السياحة وتحت مظلة اتفاقية كامب ديفيد. نشأ "سليمان" وتربى على ما شاهده بعينه وهو ابن التاسعة، عندما شاهد أصدقاءه، تلاميذ مدرسة بحر البقر، وهم غارقون في دمائهم بعد قصف الطيران الإسرائيلي للمدرسة في عام 1970. 

يبدو أن المشهد وبعد مرور ثلاثون عاما قد تكرر، ولكن هذه المرة كان ثمة اختلاف واضح لا تخطئه العين.

بضع زخات من الرصاص المصوب من أحد الجنود المصريين سكنت في جسد الشاب الفلسطيني، الذي بدا من هيئته وخلعه لجميع ملابسه أنه مختل عقليا، وهو يسبح في مياه البحر متخطيا الحدود المصرية الفلسطينية بأمتار قليلة، ثوان قليلة حتى اختلطت مياه البحر باللون الأحمر بعد أن مزقت الرصاصات جسد الشاب الفلسطيني لترديه قتيلا. لم ينشأ الجندي المصري الذي قتل الشاب الفلسطيني على ما نشأ علية "سليمان" وزملاؤه، لكنه في الغالب نشأ وتربى على مشهد يومي لفلسطينيين غارقين في دمائهم، بينما الإعلام يغازل إسرائيل أو يجعل منها صديقا وربما حليفا استراتيجيا، بل ويضع كل من يقاومها في خانة العداء!!

بعيدا عن التوجهات السياسية للأنظمة التي حكمت مصر منذ حرب 48، إلا أنه يظل تصرف الجندي بتلقائية في المواقف الطارئة هو المؤشر الحقيقي للعقيدة القتالية لهذا الجندي، ومدى الخلل والتشوه الذي طرأ عليها، وربما الإجابة عن السؤال الحرج: إلى أي مدى تغيرت العقيدة القتالية لدى الجيش المصري؟

الحادثتان، وبالرغم من الفاصل الزمني بينهما، إلا أنهما يعبران عن رد فعل تلقائي من الجندي دون الرجوع إلى قائده العسكري. وفي الحالتين الدافع للفعل نابع من العقيدة القتالية للجندي، لكن الفارق بين المشهدين يلخص وبسهولة حجم التشوه والتغيير الذي طرأ على العقيدة القتالية للجندي المصري خلال العقود الأخيرة، والتي جعلت فوهته بندقيتة تخطئ اتجاهها في أحيان كثيرة.

ربما نستطيع أن نلمح هذا التغير إذا ألقينا سؤالا مباشرا لمجموعة من الجنود المصريين الآن، عمن هو عدو مصر؟ ربما بعد تلعثم في أغلب الإجابات سنكتشف أن نسبة ضئيلة جدا ترى أن إسرائيل هي عدو مصر، وربما نكتشف أيضا أن نسبة ليست بالقليلة من الإجابات تحصر عدو مصر في بعض أبناء الوطن الواحد أو في حركة تقاوم إسرائيل أو في دول عربية وإسلامية!!

أدركت إسرائيل منذ فترة بعيدة، أن معركتها مع مصر لن يضبطها معاهدات سلام واتفاقيات، ولن يكون عامل الحسم فيها لتقنية عسكرية تمتلكها أو لرفع الكفاءة القتالية لجنودها، بقدر ما هي معركة عقيدة قتالية تراكمت عند الجندي المصري منذ سنوات طويلة، مفادها أن العدو الأول والأخير للجندي المصري، هو إسرائيل وفقط، لذلك عمدت إسرائيل بعد حرب 1973 ومن خلال اتفاقية كامب ديفيد إلى تشويه العقيدة القتالية لدى الجندي المصري، بداية من المناهج التعليمية التي يتلقاها في مراحل تعليمه الأساسية، ومرورا بالألة الإعلامية وتناولها للقضية الفلسطينية ولإسرائيل وانتهاء بالأبجديات العسكرية التى اختفى من قاموسها كلمة إسرائيل بشكل ملفت للنظر، حتى وصل الحال إلى ما نحن عليه الآن وباتت الصورة أوضح من أي وقت مضى، وربما أصبح لا مانع عند إسرائيل بعد الوصول إلى هذا الهدف، أن تقوم هي بنفسها في الإسهام في تنمية التقنية العسكرية للجيش المصري ورفع كفاءة الجندي الذي لم يعد مصريا بالمعنى الذي تخشى منه إسرائيل.

إصلاح ما طرأ من تشوهات على العقيدة القتالية للجندي المصري والرجوع بها إلى مسارها الصحيح، وفاء لجنود بذلوا أرواحهم ودماءهم الغالية في معارك مع العدو الحقيقي لمصر، هي أحد الأمور الرئيسية التي على الثورة المصرية أن تنتبه إليها، وتسعى إلى تحقيقها بعد سقوط منظومة الاستبداد التي تحكم مصر الآن.