في عالم بلا حدود اقتصادياً وفي زمن العولمة، لجأت الشركات متعددة الجنسيات للتغلب على صعوبات إدماج موظفيها متعددي الجنسيات والانتماءات والأهداف والطموحات إلى ما سمته بـ"برامج
الولاء"، تلك البرامج التي تقدم بها الشركات المزيد من الأرباح والمنح والمنافع والترفيه والمشاركة في الإدارة، وربما حصص أسهم في ملكية هذه الشركات.. برامج عن طريقها يزيد ارتباط وولاء الموظف لشركته دونما النظر إلى شعارات أو ميثولوجيا وطنية طالما ظلت تلك الشركات تدفع له وتقدم له المزيد. إنها معضلة أن تحشد عقول وجهود وولاء موظفين لصالح صاحب عمل أو شركة على حساب اقتصاديات بلاده في بعض الأحيان، وهو ما تحققه برامج الولاء باستفادة قصوى.
على غرار الشركات اتبعت بعض الدول "برامج الولاء" لربط مواطنيها أكثر بالدولة وتحقيق الانتماء الكامل، وخصوصا تلك الدول التي تستقبل هجرات وتمنحهم الجنسية (كالدول الاسكندنافية) لإدماجهم في مجتمعاتهم الجديدة ولضمان ولاء المواطنين الجدد ودفعهم للعمل لصالح أوطانهم الجديدة.
تلك البرامج أثبتت فاعلية أكسبت الدول التي تبنتها مواطنيين صالحين موالين لوطنهم بحق، الأمر الذي دعا البعض إلى المطالبة بتطبيق برامج الولاء في كل الدول وحتى تجاه المواطنيين الأصليين، وأن تتبنى الحكومات "برامج الولاء" لربط المواطنيين بالدولة وضمان عدم حدوث شروخ اجتماعية ولتقليل ظلم المهمشين.
في الدول الفاشلة أو بطيئة النمو أو التي تعاني مشكلات مزمنة يحدث اختلال اجتماعي واقتصادي كبير يضرب السلم الاجتماعي في مقتل ويُخرج الطبقات الفقيرة من معادلات الثروة والإنتاج ويحيلها إلى قنابل موقوتة، ويُحدث خلخلة في قناعات والتزامات المواطنيين أنفسهم تجاه دولهم، وإلا فما الذي يدفعهم للولاء والالتزام طالما أنهم محرومون ومهمشون ومطرودون من معادلة الثروة والإنتاج.
الحاصل في
مصر يجسد هذا الاختلال، فالسياسات الاقتصادية الفاشلة لعشرات السنين أدت إلى اختفاء الطبقة الوسطى تقريبا واشتداد الوطأة الاقتصادية على الطبقات الأدنى.
حالة المهمشين أبرز دليل على ذلك، سواء المهمشين جغرافيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو حتى سياسيا.
تعيش الأجزاء الحدودية من الأراضي المصرية وسكانها حالة بؤس وحرمان من الخدمات والبنية الأساسية وندرة في مصادر العمل، كما الحال في حلايب وشلاتين وشمالي سيناء وأهلها المهجرين قسرياً والمتهمين ظلماً بالإرهاب.
التهميش الاقتصادي يطال ملايين المصريين، فمع سياسات الخصخصة والانحياز لرؤس الأموال، تعاظم سطوة الطبقة الغنية وزاد سحق الطبقات الفقيرة، ويرزخ حوالي 40 في المئة من الشعب المصري تحت خط الفقر.
التهميش الاجتماعي حالة بارزة في المجتمع المصري، فالأغنياء أصبح لهم مدن بالكامل مخصصة لشركاتهم وأنديتهم ومدارسهم وترفيههم، فنشأت ظواهر اجتماعية غريبة على المصريين وصار الحكم بالماديات وحسب الشكل والملبس وموديل السيارة، وتأصلت ظواهر مثل حالات أطفال الشوارع والمشردين والشحاذين والبلطجية.
التهميش السياسي بمصادرة المجال العام وحظر الاشتغال الفعلي بالسياسة والتضييق على حرية الرأي والفكر وسحق المعارضين أوصل كثيرين إلى حالة يأس من احتمالية إصلاح الأحوال أو تبادل سلمي للسلطة.
ماذا قدمت مصر متمثلة في أنظمة حكمها للمهمشين حتى تطالبهم بالولاء لها؟
ماذا قدمت الحكومات المتعاقبة لأهالي رفح وأهالي حلايب وشلاتين أو لأطفال الشوارع والمشردين أو للفقراء الذين لا يجدون خدمات صحية أو تعليمية أو وظائف، ماذا قدمت لهم حتى تضمن ولاءهم لمجتمعهم ولبلدهم الذي يعيشون فيه.. هل يصح أن تقسو عليهم ابتداء ثم تطالبهم أن يكونوا مواطنيين صالحين؟
صبر الناس على التهميش والحرمان والفقر كبير جدا، لكنه ليس بلا حد.
لا زال السؤال مطروحا وفي انتظار أن تقدم الحكومات والأنظمة الإجابة: "كيف يكون ولاء المواطن لبلده رغم أنه يحرمه حقوقه ويقسو عليه"؟