يصوم المسلمون
رمضان ويدعون طعامهم وشرابهم وشهواتهم، طمعا فيما عند الله سبحانه، وهذا الشهر الكريم بذلك دعوة للتربية الاقتصادية بتخفيض الاستهلاك ومن ثم زيادة الادخار. فمن المتعارف عليه أن الاستهلاك يرتبط ارتباطا وثيقا بالدخل، من حيث كونه أحد مكوناته، وهو في الوقت نفسه يعد مفهوماً منافساً للادخار باعتباره ما تبقى من هذا الدخل، فالادخار في حقيقته يعد نوعا من التنازل مؤقتا عن جزء من الاستهلاك الحالي لصالح فترات مستقبلية أكثر إلحاحا، حيث يمكن الاستفادة من الادخار بالاستهلاك آجلا أو الاستثمار أو كليهما.
والإسلام يحث على التربية الادخارية السليمة، فالادخار يمثل وسيلة هامة لرفع مستوى دخل الفرد حال توجيهه للاستثمار، وهو صمام أمان والعاصم له بعد الله عز وجل في كثير من الأزمات، وفي هذا يقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله امرأ اكتسب طيباً، وأنفق قصدًا، وقدم فضلاً ليوم فقره وحاجته" (متفق عليه). وكان من وصية النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: "إنك إنْ تَذَر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس" (متفق عليه). ولما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب من أموال بني النضير "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزل (أي يدخر) نفقة أهله سنة ثم يجعل ما بقي في الكراع والسلاح في سبيل الله" (رواه البيهقي).
وفي قصة نبي الله يوسف - عليه السلام- ما يبرز قيمة التخطيط المالي والادخار وترشيد الاستهلاك كما حكى القرآن الكريم في قوله تعالى: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوْهُ فَي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيْلاً مِمَّا تَأْكُلوْن، ثُمَّ يَأتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُوْن، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيْهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيْهِ يَعْصِرُون) (يوسف 47-49)، وقد ورد عن ابن عمر – رضي الله عنهما- قوله: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا".
كما تعد المدخرات الوطنية الدعامة الأساسية للاستثمار، وما يرتبط بذلك من تمويل مشروعات جديدة تزيد من القيمة المضافة ودخول الأفراد، وتوفر فرصا للعمل، وتلبي حاجات المجتمع من السلع والخدمات، وهو ما ينعكس إيجابا على رفاهية الأفراد، ويثبت دعائم النهضة الاجتماعية والقوة الاقتصادية والاستقلال الاقتصادي. وإذا كانت البيانات تشير إلى أن تدني معدلات الادخار في غالبية الدول الإسلامية، حيث لا تتعدى نسبتها 15% في الوقت الذي تصل فيه تلك النسبة إلى 40% في دول جنوب شرق آسيا، فإن رمضان فرصة طيبة للصائمين لزيادة الميل للادخار ومن ثم الاستثمار. ولن يكون ذلك إلا بتعزيز ثقافة الوعي الادخاري وترشيد الاستهلاك.
إن الإحصاءات تشير إلى أن الاستهلاك في "شهر الصوم" يرتفع بنسبة تراوح بين 10-40% عنه على مدار السنة، حتى أصبحنا للأسف الشديد أمة الاستهلاك فيها غاية، والتبعية للغرب مسلكا، وصدق فينا قول الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون: "إن العرب لا يعرفون كيف يصنعون الثروة ولكنهم يعرفون جيدا كيف ينفقونها".
لقد جعل المسلمون من شهرَ رمضانَ موسما سنويا للإسراف، فتراهم يتهافتون إلى الأسواق؛ لشراء ما لذّ وطاب من الطعام والشراب الذي لا عهدَ لهم به في غير رمضان، وهذا منافٍ لحكمة الصوم، مناقضٌ لحفظ الصحة، معاكسٌ لقواعد الاقتصاد. فالمنطق الرياضي يشير إلى أن رمضان شهر الاقتصاد فنسبة الاستهلاك في شهر رمضان ينبغي أن تنخفض بمقدار الثلث، باعتبار تخفيض عدد الوجبات من ثلاث وجبات في الأيام العادية إلى وجبتين في ذلك الشهر الكريم.
إن رمضان فرصة ومجال للخروج من نفق التبعية إلى رحاب الاستقلالية، وامتلاك إرادة التصدي لحالة الاستهلاك الشرهة التي تنتابنا في هذا الشهر الكريم وتحقيق التربية الاقتصادية بالادخار وترشيد الاستهلاك عملا بالقاعدة القرآنية الإرشادية المعروفة: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) (الأعراف : 31).. إنه فرصة لصياغة نمط استهلاكي رشيد وعملية تدريب مكثّف تستغرق شهراً واحداً يفهم الإنسان من خلالها أن بإمكانه أن يعيش بإلغاء استهلاك بعض المفردات في حياته اليومية ولساعات طويلة كل يوم. وذات يوم أوقف عمر بن الخطاب ابنه عبد الله - رضي الله عنهما - وسأله: إلى أين أنت ذاهب؟! فقال عبد الله: للسوق، وبرر ذلك بقوله: لأشتري لحماً اشتهيته، فقال له الفاروق: أكلما اشتهيت شيئا اشتريته؟