يحتفل نصف
اللبنانيين في يوم السادس والعشرين من نيسان/ أبريل من كل عام بانسحاب الجيش السوري الذي تحقق في العام 2005 إثر ثورة الأرز التي أعقبت اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وشكل "الثوار" في حينه ما يعرف بقوى الرابع عشر من آذار، موعد أكبر تجمع شعبي وحزبي سياسي شهدته بيروت في تاريخها للمطالبة بانسحاب ما وصفوه بـ "جيش الاحتلال السوري" متهمين ما كان يُعرف بالنظام الأمني السوري اللبناني المشترك باغتيال الحريري، فكان الانسحاب أو "الاندحار" بحسب أدبيات 14 آذار.
أما النصف الثاني من اللبنانيين فكان يملأ بيروت قبل ستة أيام من الموعد نفسه أي في الثامن من آذار، بتظاهرة مليونية تَقدمها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وحملت عنوان "شكراً
سوريا"، يحمل ظاهرها الوفاء لـ "سوريا الأسد" على كل ما قدمته للبنان على مدى ثلاثين عاما من القيادة والإقامة العسكرية والمخابراتية والسياسية فيه، فتأسست بذلك قوى الثامن من آذار الحليفة للنظامين السوري والإيراني.
يروي قادة 14 آذار بأن ثورتهم هي التي أخرجت الأسد من لبنان، وترد عليهم رواية 8 آذار بأن الانسحاب تم تحت ضغط قرارات ومؤامرات دولية قادتها واشنطن وباريس للنيل من دمشق عاصمة الممانعة العربية. فيما الحقيقة أن الجهد المحلي معطوفا على القرار الدولي ما كانا ليُثمرا الانسحاب السوري لولا خطة
إيرانية مُحكمة تُفضي إلى إحلال نفوذ طهران المنفرد والمباشر على بيروت بشكل تدريجي بعد أن كان مشتركا مع أطراف عدة وعن طريق دمشق لسنوات طويلة.
يكفي للإشارة إلى رضا طهران بخروج الجيش السوري، استعجال
حزب الله تنظيم مهرجان الشكر و"الوداع" لسوريا علما أنه كان بمقدور الحزب عسكريا وشعبيا مع حلفائه في حينه مساندة الجيش السوري ليبقى في لبنان، وهو يسانده اليوم أصلا ليبقى في سوريا، وقد كان وجود هذا الجيش في بلاد الأرز بحسب بروباغندا قوى الممانعة ضرورة وطنية وقومية لمشروع مقاومة "إسرائيل". وقد أظهر حزب الله حزما وشدة في التعاطي مع "مهدِّدات" هذا المشروع حتى ولو أدى ذلك إلى فتنة أهلية، والكل يذكر كيف نفّذت قوات الحزب غزوة 7 أيار في أحياء بيروت "السُنية" ومناطق الجبل "الدرزية"، لإجبار حكومة فؤاد السنيورة على التراجع عن قرارها بتفكيك شبكة اتصالات هاتفية أرضية خاصة بحزب الله أقامها الأخير سرا، وبإزالة كاميرا مراقبة أمنية لمدرج مطار بيروت نصبها الحزب أيضا خارج معرفة الحكومة وموافقتها.
قد يعتبر منظرو حزب الله أن حزبهم أتاح المجال للتركيبة السياسية اللبنانية أن تنتج حُكما جديدا خارج الوصاية السورية، لذلك وافق ومن ورائه إيران على انسحاب الجيش السوري، لكن الرد على هذا الطرح هو أن الحزب رفض المنتَج اللبناني الجديد وانقلب على نتائج دورتين انتخابيتين كرستا الأغلببية الديمقراطية لقوى 14 آذار، فأدخل سطوة سلاحه ومسلحيه إلى المعادلة لإعادة التوازن مع خصومه داخل البرلمان، وقد أفادته بذلك "صُدَف" اغتيال نواب سُنة ومسيحيين من
قوى 14 آذار على أيدي مجهولين.
القرار الدولي 1559 القاضي بانسحاب الجيش السوري من لبنان صادر عن مجلس الأمن ولا يمكن تجاوزه، قد يعلّل أيضا منظرو حزب الله الرضوخ له، لكن الحقيقة هي أن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان تأسست أيضا بإقرار من مجلس الأمن، واتهمت بعد تحقيقات مطولة أربعة كوادر من حزب الله بالتورط في اغتيال رفيق الحريري وأصدرت مذكرات توقيف بحقهم لم يرضخ لها حزب الله، بل رفضها ووصف المتهمين بالقديسين الأربعة واعتبر قرار المحكمة الاتهامي سياسيا يهدف للنيل من محور المقاومة والممانعة تماما مثل القرار 1559 الذي احترمه حزب الله عمليا وأدانه في الظاهر.
لقد دعمت إيران النظام السوري لسنوات طويلة مقابل سماح دمشق لإيران بإنشاء منظومتها النموذجية المتكاملة في لبنان المتمثلة بحزب الله، وعندما اكتمل بناء هذه المنظومة وأتمّت قدرتها على السيطرة وتنفيذ الأدوار المرسومة لها، كان لابد من تحريرها من وصاية النظام السوري، فاشتعل لبنان وتغيّر مركز نفوذه القوي من "عنجر" مقر قيادة المخابرات السورية إلى "حارة حريك" مقر قيادة حزب الله.
ما هي إلا سنوات قليلة حتى اشتعلت أيضا سوريا من الداخل، وكانت إيران وأذرعها العسكرية اللبنانية والعراقية والأفغانية جاهزة للذود عن محور المقاومة وهذه المرة ليس في مواجهة "إسرائيل" بل في مواجهة "التكفيريين" التي فشل فيها ضباط الأسد الذين وصفهم السيد حسن نصر الله بالفاسدين كما ورد في وثائق ويكيلكس نقلا عن الرئيس الأسبق أمين الجميل، فتحول مركز النفوذ الحقيقي أيضا داخل سوريا من مبنى الأمن القومي السوري الذي تم تفجيره على أيدي مجهولين واغتيل فيه كبار القيادات العسكرية والأمنية في تموز/ يوليو 2012، إلى خيمة الجنرال قاسم سليماني ومعاونيه من الضباط الإيرانيين الذين اضطروا إلى ملء الفراغ الميداني الكبير على الأرض السورية.
تحتفل قوى 14 آذار كل عام بذكرى انسحاب جيش الأسد من لبنان في السادس والعشرين من نيسان/ أبريل، بينما الأولى بهذا الاحتفال هو حزب الله الذي تخرج في ذلك اليوم من عام ألفين وخمسة من المرحلة الإعدادية، ثم خرج بعد ذلك من قُمقم ضاحية بيروت الجنوبية إلى ضواحي بيروت من العواصم العربية المتساقطة على رقعة الشطرنج الإيرانية.