باتَ مؤكدا أن انتخابات مجلس النواب
المغربي سَتُنظم في السابع من شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2016، وبإجراء هذا الاستحقاق سَيبدأ المغاربةُ تجربتَهم البرلمانية العاشرة منذ إجراء أول انتخابات تشريعية عام 1963. فعلى امتداد ثلاث وخمسين سنة من العمل البرلماني تكونت لدى المغرب حصيلةٌ مهمة، تأرجحت بين ما يمكن اعتباره ممارسات حميدة، وما يمكن وسمُه شوائب أضرت بالعمل السياسي، وأعاقت عمل بعض مكونات مشهده الحزبي.
يُمكن مُلامسَة مظاهر ارتباك المشهد السياسي المغربي استناداً إلى أكثر من مؤشر. فمن جهة، يغلُبُ على خطاب الأحزاب السياسية وعلاقاتها البينية مُعجم لغوي لا يرفع من قدر الشأن السياسي العام، ولا يساعد على تعميق الثقة لدى فئات واسعة من المواطنين حُيال العمل السياسي، وإزاء فاعليه الحزبيين والسياسيين عموماً. فمما يدخل في وظائف الأحزاب وأدوارها الدستورية والسياسية تأطير المواطنين، ورفع قُدراتهم، ومساعدتهم على امتلاك كفاءة التعاطي الإيجابي مع الشأن العام، عبر صقل أخلاقهم السياسية، وتهذيب أذواقهم وميولاتهم، وبث روح المواطنة وقيمها في سلوكهم. والحال أن المتابع للمشهد السياسي المغربي، والمتأمل في ممارسات أحزابه، لا يلمس، بما يُقنعُه، وجود اقتدار لدى الأحزاب على القيام بوظائفها كاملة تجاه المواطنين، هؤلاء الذين ملّوا لغةَ الخشب لدى بعض الأحزاب، أو " الشعبوية " المفرطة لدى البعض الآخر، أو كثرة الكلام والوعود وقلة الفعل والانجاز لدى صنف ثالث من هذه الأحزاب.
يُضاف إلى ما سلف بيانُه مُؤشرٌ ثالث يُلقي بظلاله على واقع المشهد السياسي المغربي ومستقبله القريب، يتعلق بحال المعارضة الحزبية وأحوالها، التي لا تُقنع بإمكانية تطوير هذه الأخيرة ذاتها، وترميم بيتها الداخلي لمواجهة استحقاق شهر أكتوبر المقبل (2007). فالمعارضة بمختلف أطيافها تشكو من الوهن الداخلي الذي ألمّ بها بسبب ا اختلالاتها التنظيمية، و عدم نُضج إدارة الاختلاف بين مناضليها وأنصارها، وكثيرا ما يُفضي ضعف الثقافة الديمقراطية لديها إلى انشقاقات ، أو في أقل الأحوال إلى انسحابات فردية وجماعية.
يشكو المشهد السياسي المغربي، الذي لا تفصل أحزابُه عن الانتخابات التشريعية المقبلة سوى بضعة شهور، من عدم تبلور أفق تكّوّن أغلبية مقبلة قادرة على أن تكون بديلا مُقنعاً للأغلبية القائدة للعمل الحكومي منذ تنصيب حكومة يناير/ كانون الثاني 2012. فعلى الرغم من التمفصلات التي أفرزتها الانتخابات الجماعية والجهوية لرابع سبتمبر/ أيلول 2015، حيث أعادت إلى الواجهة "حزب الأصالة والمعاصرة"، وجعلته يتصدر النتائج الإجمالية لهذا الاستحقاق، فإن فئات واسعة من المغاربة مترددة، وغير واثقة بأن يُشكّل هذا الحزب بديلاً سياسياً لمشهد ما بعد انتخابات 2016، الحجّة في ذلك، أنه حزب غير مؤسس لا على شرعية وطنية وتاريخية، ولا على شرعية نضالية، وغير مُسلح برؤية واضحة وذات بُعد استراتيجي..بل إن عدداً من المتابعين للشأن الحزبي المغربي، ينكر عن "حزب الأصالة والمعاصرة" انطواءَه على هُوية إيديولوجية وسياسية كفيلة بمنحه شرعية التأسيس والاستمرار. فهو في نظر الكثيرين حزب يضُم"ُ في عضويته خليطاً هجيناً من الأعضاء، يشتركون في البحث عن التموقع وجلب المكاسب والغنائم ليس إلاّ، ويُضيف آخرون إلى أن فكرة تأسيس الحزب خرجت من عباءة السلطة عام 2009، وأنه يستفيد من ميزة قرب بعض مؤسسيه من أعلى مدارج صُنع القرار في البلاد، في إشارة إلى السيد " فؤاد علي الهِمّة"، المستشار الملكي الحالي.
لا تُسعف أحوال المعارضة السياسية المغربية اليوم في التفاؤل بقدرتها على لمِّ شملها وتجاوز تحدي الاستحقاق الانتخابي المقبل بالفوز وتشكيل أغلبية منسجمة قادرة على أن تُصبح بديلا فعلياً لما عاشه المغرب منذ اقتراع 25 نونبر/ تشرين الثاني 2011. فمن جهة، ليست مكونات المعارضة الحالية منسجمة، ولا حتى متقاربة من حيث الأصول التاريخية والإيديولوجية والتطلعات السياسية، ففيها الأحزاب سليلة الحركة الوطنية، وأخرى نشأت إما نتيجة انشقاقات طالت الأحزاب التاريخية، أو تأسست بشكل متأخر وفي سياق سياسي خاص ، كما هو حال " حزب الأصالة والمعاصرة". وإذا اعتمدنا نتائج اقتراع 04 سبتمبر/ أيلول 2015 مؤشرا للقياس، فإن باستثناء نصيب كل من حزبي " الأصالة والمعاصرة"، و" الاستقلال"، جاءت نتائج الأحزاب الأخرى ضعيفة ومحدودة، وهي بذلك لا تُعطي الدليل المُقنع على إمكانية تحولها إلى أغلبية بديلة مستقبلا.
تدلُّنا المؤشرات الثلاثة أعلاه على أن ثمة حالة من الارتباك يشكو المشهد السياسي المغربي من مضاعفاتها وأضرارها، ولعل أبرز ضرر وأخطره مساهمتها المباشرة في عدم تمكين الحياة السياسية من الاستقامة ومراكمة الممارسات الحميدة القادرة على إنضاج الاختيار الديمقراطي، الذي اعتبره الدستور الأخير (2011) ثابتاً من ثوابت البلاد، وتوطينه في الثقافة السياسية الناظِمة لسلوك الدولة والمجتمع على حد سواء. ولا يبدو، بالمقابل في ما تبقى من الوقت لتنظيم الاقتراع القادم، أن ثمة حظوظا حقيقية لتجاوز مواجع المشهد السياسي المغربي، ومواجهة الانتخابات المقبلة بكفاءة واقتدار ايجابيين. لذلك، التخوف الكبير هو أن تجد مكونات المشهد السياسي المغربي، أي الأحزاب بمختلف خلفياتها، نفسها أمام وضع متراجع عما كان في أعقاب انتخابات 2011. وإذا تحققت هذه الفرضية فإن المغرب سيفقد فرصة جديدة لوضع لبنة جديدة في مسار بنائه الديمقراطي وسيرورة توطيد مؤسساته وثقافته السياسية.