رُبّ سَائِل يتسَاءل عن أي مشروع تفكيك يتحدث المقال.. فاتفاقية "سايكس-بيكو" لعام 2016 رسَّخت تجزئةَ المشرق العربي، وتحديداً الهلال الخصيب، أو سوريا الطبيعية، وكرّست الوجودَ القانوني لأقطار ذات مُسميات قانونية، وحدود سياسية، وولاءات اجتماعية. والأخطر خلقت كياناً غريباً في خاصرة المنطقة العربية، ومنحته الغطاء الشرعي ألأمميق(قرار التقسيم لسنة 1947)، وحافظت على وجوده واستمراره حتى اليوم، إنه إسرائيل التي بُنيت عُنوةً وما زالت تزحف في اتجاه الاستحواذ على ما بقي من أرض فلسطين التاريخية.
فإذن التفكيك تحقق، وترسخ بالتدريج، والتجزئة أصبحت مع مرور السنين معطى قائماً بحكم الواقع، على الرغم من حركة المقاومة التي لم تتوقف. ومن هنا حققت اتفاقية "سايكس-بيكو" المقصَد الرئيس الذي أبرمت من أجله..فهل يُفهم من هذا أننا أمام تفكيك جديد محكوم بروح اتفاقية 1916، على الرغم من مرور قرن على صدورها؟.
قد يُشاطرني القارئ الكريم فكرةَ أن الروح العامة لاتفاقية سايكس-بيكو مازالت حاضرةً، ومنبثّةً في ثنايا الاستراتيجيات التي تُرسم للمنطقة العربية، وأن انقضاء مائة عام على هذه الاتفاقية لم يُلغِ استمرارَها وتأثيرَها في صُنع سياسات القوى الكبرى حُيال الشرق الأوسط وأوضاع مجتمعاته. صحيح أن مدة قرن من الزمن كافيةٌ لتبدّل الأدوات والوسائل، وتغير الرؤى والمقاربات، غير أن الهدف ظل واحداً على مسافة كل هذه العقود: تجزئة المنطقة وتعميق تفكيكها، بُغية إضعافها، والحيلولة بينها وبين أن تتحول إلى فضاء مشترك، قادر على المحافظة على وحدته، وجدير بالتأثير في السياسات الدولية.
لكن بالمقابل، قد يعترض القارئ الكريم بقوله إن الصورة هنا تُقدم وكأن كل ما حصل للمنطقة العربية تمَّ بفعل فاعل خارجي، وأن الداخل لا مسؤولية له في ما آلت إليه أوضاع البلاد العربية. نُبادر فنقول إن للداخل أدواراً مفصلية في ما حصل خلال هذا القرن من تجزئة وتعميق للتفكيك، وأن مسؤولية الخارج الواضحة والثابتة، لا تلغي مشاركة النخب العربية القائدة في صُنع المآلات المؤلِمة للمنطقة العربية. غير أن الموضوعية تقتضي التأكيد على أن مسارات النخب العربية القائدة لم تكن بعيدة عن أعين الخارج ودعمه ورعايته، بل نستطيع الجزم أن الخارج كان في قلب عملية صناعة هذه النخب، واستمرارها، ودوام حكمها.
نَخلُص إذن إلى أن التفكيك الأول تأسَّس على قاعدة اتفاقية سايكس ـ بيكو وروحِها، وقد كان مرورُ قرن من الزمن كافياً لفرض واقعِ التجزئة وتكريسِه قانونياً، وسياسياً، وثقافياً. أما التفكيكُ الثاني فهو الذي بدأت ترتيباتُه، في تقديرنا، مع العُشرية الأخيرة من القرن الماضي، وشَرعت تتضحُ معالمُه منذ العام 2011.
لنتذكر الأدبيات الصادرة أواخر ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي عن مراكز البحوث وبيوت الخبرة الأمريكية ذات العلاقة بالقوى المتنفذه في الولايات المتحدة الأمريكية، لاسيما في المجالات المالية والصناعية والعسكرية، من قبيل مقالات كل من : "برنار لويس" Bernard Lewis ، و"صمويل هنتغتون" Samuel Huntington ، و"فرانسيس فوكوياما" وغيرهم. ولنتذكر أبضا كيف لقيت هذه السلسلة من الكتابات دعماً كبيراً من قبل مصادر صُنع القرار في أمريكا، كي تنتشر، وتُقرأ على نطاق واسع أولا، وكي تُعتمد سياسياً من قبل ما سُمي "المحافظون الجُدد"، خلال نهاية ولاية الرئيس "كلينتون"، وتحديداً على امتداد عُهدتي " جورج بوش الابن".
تأسست هذه الموجة من الكتابات على أطروحتين متكاملتين، شددت الأولى على أن عصر ما بعد انهيار جدار برلين وزوال الشيوعية، سيشهد صراعاً حضارياً بين " الإسلام" و"المنظومة الليبرالية"، أي الغرب. وأن العالم كي يُنجِح وحدتَه الليبرالية، عليه مقاومة " الإسلام". أما الأطروحة الثانية، وهي التي دافع عنها "برنار لويس"، فمؤداها أن التغيرات النوعية التي أعقبت سقوط زمن الحرب الباردة وتفكك المنظومة الاشتراكية، تستلزم وجوباً إعادة " التفكير في الشرق الأوسط"Rethinking the middle east، أو "إعادة هندسة الشرق الأوسط". ومن هنا رسم "برنار لويس" خريطةً جديدةً للمنطقة العربية، يبدأ أولها من تحويل الشرق الأوسط من جزء من كل تمتد أطرافه من الحجاز وحتى الجمهوريات الإسلامية في وسط أوروبا، وثانيها فتح قيادة المنطقة لثلاث قوى هي تحديدا: تركيا، وإسرائيل، وإيران إن حدث فيها تغييرات إصلاحية جذرية، والمقصود إن نجح في قيادتها المعتدلون القادرون على مدِّ جسور التواصل مع الغرب.
لاشك أن القارئ النبيه يلمس دون عناء كيف يسعى الغرب ومن معه إلى تثبيت معالم هذه الصورة التي رسمها "برنار لويس" منذ نشر مقالته حول إعادة هندسة الشرق الأوسط بداية تسعينيات القرن الماضي في مجلة " شؤون دولية Foreign affair) 1992). بيد أن الجديد في هذا المسعى، وهو ما لم يكن وارداً في تفكير كاتب هذه المقالة، أن تُنفذ الهندسة بأجسام وأموال عربية. وللتوضيح أكثر نقول إن التفكيك الثاني يُنفذ اليوم من طرف شباب عرب ومرتزقة أجانب، جنّدهم تنظيم "داعش" ليفككوا ما فككته اتفاقية "سايكس-بيكو" منذ قرن، ويلقى تمويلاً عربيا، ودعما إقليميا ودوليا. أما النتيجة العامة فتروم تحويل أقطار
سايكس بيكو إلى أقاليم و" كانتونات"، وجيوب متناثرة هنا وهناك..إنه الأفق المأساوي الذي تسعى روح "سايكس-بيكو" إلى فرضه على الواقع العربي.