بالنسبة لأنصاره أو خصومه، يبقى محمد حسنين
هيكل شخصا غير عادي. جمع بين مواقع يصعب الجمع بينها بسهولة، حيث كان الصحفي الأول، والمستشار الأول، وصانع القرار وصاحب الرأي في ذات الوقت. وهكذا كان في قلب أحداث أساسية لعقود طويلة عصفت بالمنطقة. رافق عصورا مختلفة، فمات الرؤساء والملوك، وبقي يتجول بين أروقتهم.
التقيت الرجل مرة واحدة في مكتبه في الجيزة في منتصف تموز/ يوليو 2013 والقاهرة تعيش أجواء الانقلاب العسكري الدموي الذي كان أحد أهم عرابيه. كان لقاء طويلا، وحاولنا خلاله بتكليف من الرئيس آنذاك محمد المنصف المرزوقي نقل أفكار حول المصالحة واستكشاف مدى استعداد الطرفين لها.
امتثل يومها أمامي بلا مساحيق بشخصية الارستقراطي الذي يعدّ ظاهرة الإخوان ظاهرة فلاحين ليسوا مؤهلين للحكم. وأن أفضل طريقة لإنهاء اعتصام
رابعة هو "الجرب". كان موقفه رافضا بحزم لأي مصالحة. وقبل أن ينتهي اللقاء قال لي: "تعرف أنا باعتبر نفسي بورقيبي".
سبق أن شرحت كيف كنا في تونس نواجه وضعا صعبا، لكن ذلك لم يمنعنا من متابعة ما يحصل في
مصر. كنا نتابع بقلق في إطار رئاسة الجمهورية التطورات هناك في حزيران/ يونيو 2013. تصورنا لمصر كان أنها ركن أساسي، كما هي العادة في المنطقة، خاصة في الصراع القائم إقليميا بين قوى ترغب في تغيير حقيقي نحو الديمقراطية وقوى تدافع عن مصالح قديمة وأنظمة مهترئة أو عن إعادة الاستبداد تحت غطاء ديني متطرف.
وبهذا المعنى، سارع الرئيس المرزوقي للقاء أول رئيس مصري منتخب ديمقراطيا أي الرئيس مرسي في يوليو 2012، كنت من بين مرافقي الرئيس آنذاك، وكنا نشعر بقوة أننا إزاء عصر جديد في المنطقة، وكانت الآمال والطموحات كبيرة، وهذا ما استشعرناه من اللقاءات المختلفة بما في ذلك مع خصوم "الإخوان".
مثلا، خلال اللقاء مع نخبة من المفكرين والمثقفين المصريين، وأكثرهم من العلمانيين، في قصر القبة، كان هناك توافق حول أن الاختلاف مع الطروحات الفكرية لـ"الإخوان" لا يعني أنهم ليسوا طرفا يمكن أن يساهم في بناء ديمقراطية مصرية حقيقية.
كان واضحا فيما بعد أن الأمور لم تحدث كما كان يجب أن تتم وساهمت أخطاء وعزلة "الإخوان" عن أي حلفاء سياسيين -باستثناء توجههم نحو البيروقراطية العسكرية واستعادة "الدولة العميقة" لقواها- وما تبين فيما بعد من نوايا انقلابية مبكرة لقيادة الجيش في توفر الأسباب الكافية لانهيار التجربة.
وهكذا مباشرة بعد الانقلاب رجعت إلى مصر بتكليف من الرئيس المرزوقي في إطار مهمة استطلاعية ولكن أيضا بأفكار أولية وددنا طرحها على أهم الفاعلين المصريين على أمل المساهمة في مبادرة لحل الأزمة.
وصلنا يوم 12 يوليو 2013، وتوجهنا مباشرة من المطار إلى "ميدان رابعة". كان من المهم أن نفهم طبيعة الحركة الاحتجاجية ضد الانقلاب، أتذكر جيدا أننا وصلنا خلال صلاة التراويح، وكان حينها الميدان في حالة سكون رهيبة وسط الأبراج السكنية المحيطة بالميدان الواسع على أطراف المصلين، انتصبت الخيام والباعة المتجولون، وشاهدنا شبابا ونساء بعضهن غير محجبات من المنتمين لطرف يساري مصري رفض الانقلاب بشكل مبكر.
أسررت لمرافقي آنذاك أن هذا الميدان أصبح ربما الصخرة الوحيدة التي تقف أمام فيضان استئصالي رجعي يمكن أن يشملنا جميعا، لم يكن ذلك مبنيا على هواجس، ففي تلك الأيام تحديدا صرح أحد قياديي حزب "نداء تونس" وابن رئيسه حافظ قائد السبسي أن تونس "تحتاج السيناريو المصري" أي سيناريو الانقلاب والاستئصال.
عندما التقينا بقيادات "الإخوان"، واستمعنا إليهم، وطرحنا أفكارا أولية للحل، لاحظنا رغبة كبيرة للمراجعة (أتذكر تحديدا كلمات الدكتور البلتاجي الذي أقر بخطأ الانفصال عن بقية "قوى الثورة" والانعزال)، بيد أن من الواضح أنها كانت متأخرة.
فالطرف الآخر المنتشي بالانتصار، الذي التقينا أهم عرابيه (بما في ذلك حسنين هيكل وحمدين صباحي)، لم يكن مستعدا للتفاوض إلا على قاعدة فض الاعتصام بلا شروط.
كانت تُقرع الطبول بشكل متناسق، وفي نبرة فيها الكثير من التعالي والتشويه، تحضيرا لحملة استئصالية شاملة. ورأينا ذلك في حالة الهستيريا في الشارع والبلطجة المدعومة رسميا وبالعيان ضد كل من يشتبه في انتمائه للإخوان، حتى أن مجرد حمل اللحية في تلك الأيام أصبح بوضوح شبهة حقيقية يمكن أن تعرض صاحبها للاعتداء، خاصة في أماكن تشهد مواجهات بين المعارضين للانقلاب والأمن.
كانت الأجواء الدموية مثيرة للغثيان، واستعدت بما لا يدعو للشك أجواء الهيمنة الشمولية الاستئصالية المحاطة بأجواء الرعب والترهيب والخوف والبروباغندا المحضة والسطحية لنظام بن علي بداية التسعينات، والتي يحاول البعض الآن استعادتها ولو في شكل مسخرة.
تورط هيكل في حقبة
السيسي ستجعل ميراثه أسوأ مما كان عليه. ليس هناك شك أن وجود هيكل في خضم التجربة الناصرية يعطيه بعض الألق. فرغم استبداد ناصر، إلا أنه دفع بسياسات وطنية خارجيا واقتصاديا واجتماعيا. يبقى أنه بعد أكثر من خمسين سنة من تجارب الأنظمة العربية ما بعد الكولنيالية تبين بوضوح أنه لا يمكن حماية الاستقلال الوطني إلا بديمقراطية حقيقية ترسخ عمليا وفعليا معنى سيادة الشعب. فلا وطنية دون ديمقراطية.
السيسي -في المقابل- مثل أسوأ أنواع الاستبداد في السياق المصري. بدا كأنه التجسم الأكثر كاريكاتورية لها، من خلال سياسات فاشية تستغرق في الدم بلا حدود. نوع من "التكفيرية" المتخفية تحت "الوطنية". تورط هيكل معه كشف وجه الأخير الإقطاعي الدفين.