جريمة بشعة جديدة ينسبها عناصر تنظيم الدولة لأنفسهم يذهب ضحيتها ثلاثة من حرس الحدود والمنشأت وبطريقة بشعة، يقابل ذلك استمرار لمسلسل العبث على المسار السياسي، وكيف لا نسميه عبثا وهو الذي يفسح المجال لمثل هذه الأعمال الإرهابية.
الربط بين المآسي المتكررة من تفجير وقتل مريع ليس هنا للتهويل وممارسة الضغوط، بل هو ربط حقيقي بين الأسباب والنتائج، فالمجموعات الخارجة عن القانون والممارسات الإجرامية لا تحدث إلا في ظل الفراغ السياسي والتطاحن بين الفرقاء السياسيين، وما أصبح لتنظيم الدولة "دولة" إلا بعد أن انقسم أنصار فبراير على أنفسهم وتنازعوا، فوجد الآخرون في تنازعهم مجالا للظهور والتطور، وسيكون الوضع أخطر إذا استمر هذا التنازع.
رفض البرلمان حكومة التوافق، ويتفهم الكثير من الليبيين مبرر الرفض حتى مع تحفظهم عليه، بل إن البرلمان وجد في انتقادات النشطاء للعدد الكبير لأعضاء الحكومة المقترحة من المجلس الرئاسي، الذين ناهزوا المائة ما يبرر رفضه. لكن البرلمان أثار بقراره الثاني القاضي بإلغاء المادة الثامنة من المواد الإضافية في اتفاق الصخيرات جدلا واسعا، وربما سيعود بالعملية إلى الخلف خطوات لن تبعد به كثيرا عن المربع الأول.
رفض البرلمان للمادة الثامنة قوبل بسرور وابتهاج من الكثير من المعارضين لاتفاق الصخيرات وللمجلس الرئاسي ولحكومته المقترحة، التي تم رفضها. والفرح مبعثه تعثر مخرجات الاتفاق السياسي، لكن هؤلاء لا يدركون أن أي اتفاق يقرب وجهات النظر ويوحد الصفوف، هو خير من حالة الفرقة، مهما كانت المآخذ على الاتفاق.
ما يقلقني هو أن التعنت له أساس وتفسير أبعد من مجرد التحفظ على بنود الاتفاق، بل هو تعبير حقيقي عن رفض قطاع كبير من الساسة للتوافق، ساسة داخل البرلمان والمؤتمر الوطني. ولن أخوض في أسباب هذا الرفض، لكن الخطير أن الغالبية العظمى من الليبيين يعتقدون أن أسباب الرفض تعود لمصالح جهوية وحزبية وشخصية، وليس أسباب تتعلق بالمصلحة العامة، وما عليك إلا أن تستطلع أراء من يكتبون في مواقع التواصل أو يتحدثون إليك في الشوارع والميادين والأماكن العامة، لتطلع على موقف الرأي العام مما يجري.
من ملامح التعقيد التي لها علاقة بقرار البرلمان، التفاعلات الجديدة ضمن جبهة طرابلس، التي أعادت رسم خارطة وتموقع الكتائب والمجموعات المسلحة داخل العاصمة من اتفاق الصخيرات، ولو بشكل مؤقت. فبعد أن شاع أن الأطراف الأمنية والعسكرية ذات الوزن الثقيل في طرابلس، تؤيد اتفاق الصخيرات عقب الإعلان عنه، أدى الأداء المتواضع بل والسلبي للمجلس الرئاسي بعد تأسيسه، ثم الحكومة الهزيلة التي شكلها ورفض البرلمان لها، أدى إلى ما يمكن أن نعتبره قلقا وخوفا على المكتسبات، والشعور لدى شريحة مهمة داخل طرابلس من المسلحين بأن البديل المطروح ليس هو المأمول، وبالتالي جاءت ردة الفعل عبر بيان ثوار طرابلس. وينبغي أن يكون المراقب قريبا من المشهد السياسي والأمني في طرابلس، ليدرك ماذا يعني "ثوار طرابلس" ومدى تأثير ذلك على مستقبل المجلس الرئاسي والحكومة التوافقية. وأقل ما يمكن أن يقال في ذلك هو أن المستجدات في طرابلس قد تعرقل انتقال المجلس الرئاسي والحكومة إلى العاصمة، مما يعني استمرار حالة السيولة واستمرار النزاع، وربما انتقال الانقسام السياسي خطوة إلى الأمام قد تجعله قابلا للشرعنة.
المشهد في المنطقة الشرقية ليس بعيدا عن حالة السيولة في طرابلس، بل ربما الوضع هناك أسوأ، فعملية الكرامة تتصدع أكثر فأكثر، والتصدع في اتجاهه إلى مستوى أعلى بعد تصريحات الناطق الرسمي باسم الكرامة والجيش، محمد الحجازي، وما أعقبه من اجتماعات لقبائل "الدرسة" و"البراغثة" التي أظهرت تأييدا معلنا في حالة الدرسة للحجازي، وغير صريح في حالة قبيلة البراغثة.
ردة فعل خليفة حفتر في خطابه الأخير، ربما يؤكد أن المشهد في بنغازي وفي المنطقة الشرقية مرشح لتصعيد، بل وربما صدام سيكون غير معلن ليعبر عن نفسه في جولة قادمة بشكل واضح.
الخلاصة أن المشهد السياسي والأمني يتجه إلى مزيد من الانقسام ومزيد من الصدام، إلا أن يرتفع صوت العقلاء الصامتين ليعلوا على صوت الداعين لمزيد من تقطيع الأوصال، وتكريس حالة الاقتتال والفوضى، وكلما كانت مقاربة العقلاء ناضجة ومتكاملة، كانت أدعى للقبول وأقدر على إجهاض مشاريع أصحاب المصالح الجهوية والحزبية والشخصية.