انسَ الموقف السياسي قليلا،
عادل إمام مع مبارك، مع مرسي ثم ضده، مع السيسي، وربما غدا ضده، لا يهم، أتحدث هنا عن عادل إمام القيمة، الرمز، كبير العائلة الفنية، الزعيم، الموقف الأخلاقي الداعم لكل ما هو فني، أتحدث عن عادل إمام حين يتضامن مع ما يفهمه لا ما يجبر عليه، ويستسلم له تحت قوة السلاح!
في العام 1988، كان عادل إمام يعرض مسرحيته "الواد سيد الشغال" على مسرح نقابة المهندسين بالقاهرة، وكان سعد الدين وهبة نقيب الممثلين، يمرر القانون 103 الذي يسمح له بالترشح لولاية ثالثة على طريقة مبارك وعساكره. رفض بعض أعضاء النقابة، واعترضوا، وكان إمام منهم فيما أذكر، إلا أن حادثا أليما وقع في أسيوط، قرية كودية الإسلام، حين ذهب بعض شباب الفنانين الهواة لعرض مسرحية هناك، فتعرض لهم جماعة من المتطرفين، قتلوا أحدهم، رحمة الله عليه، وضربوا الباقين بالجنازير ومنعوهم من عرض المسرحية بالقوة.
انتفض الزعيم، ترك القانون 103، والعمل النقابي، ورأى أن كل هذا لا قيمة له أمام دعم هؤلاء الشباب، وقرر الذهاب إلى أسيوط، يقول:
"شعرت بحالة من الخوف على
مصر والغضب من أجل صورتها ومستقبلها، وظلت هذه الغصة بداخلي عدة أيام وأنا لا أعرف ماذا يمكن أن أفعل؟ لكنني تذكرت بداياتي الأولى في المسرح، وقلت لنفسي هؤلاء الشباب على مسافة بعيدة جدا عن العاصمة وأضوائها، ونحن هنا نتعارك على القانون (103) بينما هم يتحملون القتل والضرب بالجنازير دفاعا عن الفن، وكان لابد أن أفعل شيئا ما، فقررت أن أذهب إلى أسيوط، وأواجه هذا الموقف مباشرة، واعتبرت ذلك دفاعا عن نفسي وأسرتي ووطني، قبل الدفاع عن الفنانين الهواة. لقد ذهبت لأدافع عن نفسي، وعن الفن الذي أحبه، وتذكرت تاريخي وتاريخنا كله، وذهبت لأدافع عن صورتي أمام أولادي لكي يعرفوا جيدا أن مهنتي ليست (حراما في حرام)، ولكي يدركوا أنني أكسب أموالي من عمل شريف ومحترم وليس من (حرام)".
ويكمل الزعيم: "في اليوم التالي أعلنت أنني على استعداد للذهاب إلى معقل المتطرفين، مهما كان الثمن، والتقط الصحفي الكبير مكرم محمد أحمد رئيس تحرير مجلة المصور، ورئيس مجلس إدارة (دار الهلال) هذه الدعوة، وكان أيامها نقيبا للصحفيين المصريين، وسألني: هل تفضل أن تدعوك جهة معينة؟
قلت على الفور: جامعة أسيوط حتى تكون للزيارة واجهة ثقافية، لكن رئيس الجامعة وقتها تردد وتهرب، فتحدثنا إلى وزير الداخلية، وتمت اتصالات بالمحافظة التي وافقت على استضافتي وعندما عرفت بدعوة المحافظة وافقت على الفور، لأنني كنت مصمما على السفر، وقلت: أنا موافق أن أذهب إلى هناك حتى لو كانت الدعوة من بائع خضار".
سافر عادل إمام، وكان استقباله حافلا، كرئيس دولة، وخرج الأهالي، والناس، والبلد كلها، إنه عادل إمام.
الاستعدادات الأمنية على أعلى مستوى، المدينة تضحك، كأنه يمثل! تكلم، ودعا المتطرفين أنفسهم للقاء ونقاش، دعم الفنانين الشبان، وقف بجانبهم، وانتصر لفكرته، ولمهنته، كان موقفا مشرفا بصرف النظر عن دلالاته الأمنية والسياسية!
في 2007، استضافته الإعلامية هالة سرحان مع صديق عمره ورفيق دربه الفنان سعيد صالح، رحمة الله عليه، كان البرنامج يبث من بيروت، وكان اللقاء حميميا وجميلا، مرة من المرات القليلة، ربما المرة الوحيدة، التي يظهر فيها عادل إمام مع ضيف آخر، لكنه ليس أي ضيف، تحدث إمام عن زيارته لأسيوط فخورا، وقال إنه كان على وشك تكرارها، ولكن هذه المرة للسعودية لأنه سمع أن رجال الدين هناك يريدون أن يرجموا شباب "طاش ما طاش"، لأنهم أبدعوا في عمل اعتبره المتطرفون حراما وتعديا.
إمام قال إنه أعلن أنه سيسافر إلى السعودية ويدعم هؤلاء الشباب ضد رجال الدين، وقال إن السلطات السعودية اتصلت به وطمأنته على الشباب، وأنه لن يمسهم أحد بسوء، وطلبت منه ألا يأتي!
الأستاذ عادل قال لهالة سرحان تعقيبا: يرجموهم؟ يرجموا الفنان ازاي؟ ده أنا وسعيد كنا نمثل في أي حتة، مدرسة ابتدائي مالناش علاقة بيها، نروح نعمل رواية على المسرح، هناك، هنا، أي حتة نمثل.
هذا بالضبط هو ما حدث مع شادي، ومالك. شباب، ممثلون، ويريدون أن يمثلوا في "أي حتة"، المجال العام مغلق يا أستاذ عادل، الحاكم العسكري الذي أيدتموه للحفاظ على الدولة المدنية، فشخ الدولة المدنية، هرسها هرسا تحت دباباته التي تحيط بميادين مصر، وطوقها، حصار كأنه الاحتلال.
على العكس، أيام الاحتلال كان الأساتذة يجدون في المجال العام مساحات أكثر رحابة للتمثيل والغناء، وأيام الإخوان، الرجعيين الفاشيست، لم يتعرض فنان واحد للإيقاف، على العكس، كان الفنانون يقابلون رئيس الجمهورية في الاتحادية، وكنت منهم.
هذا ليس موضوعنا على كل حال، موضوعنا:
شادي ومالك، شباب الفنانين، ليسوا وحدهم بالمناسبة، السيسي أغلق مسرحا للشباب في وسط البلد يا أستاذ عادل، أغلقه بالضبة والمفتاح، وحضرتك لم تتحرك، جراج، حوله الشباب إلى مسرح لتفريغ طاقاتهم، وجعلوه معرضا حقيقيا لكل الفنون، مجانا، أغلقه، خوفا من صوت الفنان، والخبر ملأ الدنيا وحضرتك لم تتضامن، رغم ما لتضامنك دون غيره من قيمة، تعرفها، ويعرفها الجميع!
بص يا أستاذ عادل، هذه ليس مزايدة عليك، خصوصا من كاتب قلبه مدين لك بآلاف الضحكات، لكنه الألم، من أجلك، ومن أجل كل من يصدقونك، على حد سواء، ومن أجل شادي ومالك ومن مثلهما أولا وأخيرا.
شادي ومالك شابان، يريدان التمثيل، المجال العام مغلق، ممنوع أن تعترض، ممنوع أن تقول إن 25 يناير هو عيد الثورة على الشرطة، لا عيد الشرطة، ممنوع أن تنزل إلى الميدان إلا إذا كنت مؤيدا ومهللا، ومطبلا.. تنزل تبوس العسكري في شفايفه، وتلقط معه صورة سيلفي وترجع، هذا ما فعله الشباب، ولكن بطريقتهم، فنانون، ويريدون أن يرجموهم على فنهم، يرجموهم؟ يرجموا الفنان ازاي؟
النقابة تريد أن ترجمهم، وقفتهم عن العمل، أحالتهم للتحقيق، واحد من زملائك، ابن ناس جدا، وفنان، يرى أن عقاب الفنانين يجب أن يكون مسح حمامات أقسام الشرطة، كل ما فعلوه أنهم سخروا من الشرطة في اليوم الذي قتلت فيه الشرطة، وسجنت، وسحلت، فوق الـ37 بني آدم، السخرية مقابل القتل، ينجو القتل، وتحال السخرية إلى التحقيق!
لا مجال للحديث عن العيب، وقلة الأدب، وميصحش كده، والعسكري الغلبان، كل ذلك كلام فارغ، وأحيانا يكون كلاما سافلا، ومنحطا، ووضيعا، يروجه من يعرفون أنه كاذب، مثلهم، لكنهم لا يجدون ما يدافعون به عن "اللي مشغلينهم"، العسكري الغلبان أخرج عضوه الذكري، و"طرطر" على المتظاهرين"، وصوروه، ونشروا الصور، ولم يمسه أحد بسوء، الآن حين يسخر منه ممثل شاب، وينفخ "كاندوم" ويمنحه إياه بوصفه بالونا للاحتفال بعيد الشرطة، وصف العساكر كله يصدق، ويرى الواقعة عشرات الناس، مئات من المؤيدين بالأجرة، ضباط، ومواطنين، ولا يلفت انتباههم، فالسخرية طبعا في موضعها!
لزملائي: لم يتضامن عادل إمام، ولن يتضامن، لا هو ولا غيره، ببساطة: أي عمل فيه تضامن، أو مواجهة، أو "حط" على إسلاميين، لم يكن من أجل قيمة، إنما كان من أجل التماهي مع الدولة، وتوظيف الخطاب النقدي لصالح مشروعها السياسي ضد هؤلاء، خطابات تنويرية الظاهر تتحرك في سياقات ملؤها الزيف والظلامية. الدفاع عن الإنسان حين يتحول إلى طلقة في بندقية العسكري الذي يقتل الإنسان وكل من يدافع عنه. حق يراد به أوسخ باطل، دور رخيص، لعبه البعض وهم يعلمون، جابر عصفور مثلا، التنويري في قبضة الدولة، وعلى رقاب خصومها السياسيين، وفعلها آخرون وهم لا يدركون أبعاد اللعبة، علينا ألا نفعلها بدعوى نقد الإسلاميين الذي يستحقونه، أو الاشتباك مع الإخوان، الذي هو من حقنا، اختاروا معارككم، والأهم: اختاروا أوقاتها، حتى لا نتحول بدورنا إلى سهام في جعبة الحاكم العسكري يوجهها لخصومه لينال منهم، ثم يلقي بها في سلة مهملاته!!
للإسلاميين: مصطلحات العيب والحرام، والذي يصح، والذي لا يصح، ومقام العلماء، ومقام الرئيس الأب، كل هذا الكلام، الفارغ والملآن، لعلكم تدركون الآن، أنه سواء كان حقا أم باطلا، حين يوظفه السياسي، يتحول إلى وسيلة لقمع الناس، ومنعهم من التنفس، لقد خلقنا الله أحرارا فلا تجعلوا كلامه، وسيلة للنيل من صفة خلقه، تذكروا جيدا، لأنكم في الغالب عائدون!
إلى عادل إمام: لست المقصود بشخصه، وإن كنت المقصود بصفته، أردت فقط أن ألفت إلى أننا جميعا مزيفون بدرجة ما، نتضامن لا من أجل القيمة بل من أجل المنتظر من مكاسبها، أتمنى أن تخيب ظني، وتفعلها!
للتواصل مع الكاتب عبر موقع فيس بوك:
https://www.facebook.com/mohamed.t.radwan