تتواصل حالة التخبط العامة في
تونس في عهد السبسي حيث يبلغ انحطاط الدولة يوميا قاعا جديدا، وآخرها إعفاء وزير سيادة (وزير العدل) الذي يبدو أنه تم بسرعة أكبر من تعيين بديل عنه (تم تعيين وزير الدفاع كبديل مؤقت)، وذلك لرفضه لمشروع قانون الحكومة للمجلس الأعلى للقضاء يخرق الدستور مثلما أكدت هيئة رقابة دستورية القوانين (بالمناسبة تجاوزنا بستة أشهر الأجل الدستوري لتأسيس هذه الهيئة الدستورية). إضافة إلى تعيين نائبة في البرلمان عن حزب السبسي كمديرة عامة لبنك عمومي استثماري في الخارج رغم مراسلات تثبت اعتراض مجلس إدارة البنك المركزي على ذلك على أساس أنه تعيين يخضع للولاء السياسي عوض الكفاءة.
يأتي ذلك بعد تعيينات مثيرة للجدل لمعتمدين من جناح "الشباب" لحزب السبسي تبين أنهم من ذوي المؤهلات الدراسية المحدودة بما أدى لرئيس الحكومة لتجميدها.
ووزير شؤون دينية مفروض يكون خبيرا يشرف على مواجهة فكرية للتيارات التكفيرية يستدل بآية قرآنية وهي غير موجودة في المصحف الكريم (لا ترفعوا أصواتكم في بيوت الله).
هذا عدا عن العراك اليومي بين قيادات حزب السبسي وتبادل الشتائم والسباب بل أيضا الاتهامات المتبادلة بتوظيف أجهزة التنصت التابعة للدولة في صراعهم الداخلي بما يدعو للتساؤل الجدي عن وجود "أمن موازي" مستخدم من لوبيات الحزب المختلفة.
في هذا السياق ومع الزيارة الأخيرة للمفوضة الأوروبية للتجارة الخارجية سيسيليا مالستروم لتونس تتقدم الأمور في صمت نحو "برنامج العمل للشراكة المميّزة بين تونس والاتحاد الأوروبي" في أفق سنة 2017 أو ما يعرف بـ"
اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق" أو باختصار "ALECA".
قليلون يدركون الأهمية البالغة لهذا الاتفاق المرتقب وأثره الحاسم على الوضع الداخلي في تونس.
المشكل الأساسي أن هذا التقدم يتم بدون القيام بعملية تقييم شاملة لنتائج الشراكة، وكنا خلال فترة إدارتي لـ"المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية" التابع لرئاسة الجمهورية بادرنا بعقد ندوة في جوان 2014 في محاولة لإطلاق عملية تقييم شاملة تاريخ العلاقات الاقتصادية التونسية مع الدول الأرووبية وخاصة منذ اتفاقية الشراكة سنة 1995.
وكانت من بين المحاولات النادرة للتقييم (هناك محاولة ترجع لسنة 2002 من قبل اتحاد الشغل)، ويجب الإقرار هنا بأنه رغم محاولاتنا في الرئاسة فإن قيادات حزب النهضة الأغلبي الممسكين بالحكومة لم يكونوا متحمسين لإجراء أي تقييم قبل الدخول في مفاوضات "الشراكة المميزة" كأنها قدر محتوم، وهو موقف مماثل تماما لموقف حزب السبسي المتحالف معه الآن.
خلال الندوة التي نظمناها في جوان 2014، والتي لم تحظ بتغطية إعلامية مناسبة، تم طرح عدد من المعطيات التي تستوجب في أقل الأحوال وقفة تأمل جدية وطرح السؤال الأساسي: هل المرور إلى "شراكة مميزة" أمر حتمي ضروري لإنقاذ الاقتصاد، أم هي خطوة أخرى يجب تفاديها يمكن إن حدثت أن تدفع الاقتصاد التونسي إلى أزمة غير مسبوقة؟
تتمثل هذه المعطيات أساسا في ما يلي:
- الورقة التي أعدها "المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية" أكدت عدم التوازن بين خسائر الدولة الضريبية بسبب اتفاقية الشراكة التي بدأت سنة 1995 في مقابل انعكسات الاتفاقية على الوضع التجاري والصناعي، حيث توجد خسارة سنوية بمعدل 3 في المئة من الناتج الداخلي الخام، حدث ذلك بسبب الانخفاض الحاد في المعاليم الجمركية بداية من سنة 1995 حيث انخفضت قيمتها من حوالي 5 في المئة من الناتج الداخلي الخام منتصف التسعينات إلى أقل من 1 في المئة سنة 2012، وانخفضت في نفس الفترة مداخيل الدولة الضريبية على الواردات من 10.6 في المئة الى 1.9 في المئة. وعلى هذا الأساس تغيرت البنية العامة للمداخيل الضريبية في تونس لتتراجع المداخيل الآتية من الديوانة من 22 في المئة الى 4 في المئة، وفي تم تعويضها في المقابل بزيادة الضرائب على المواطنين بما في ذلك الضريبة على القيمة المضافة (TVA). كان لذلك بما لا يدعو للشك انعكاسا سلبيا واضحا على نسب الادخار الوطني.
- بالاضافة إلى ذلك تم في ورقات لباحثين آخرين إبراز
دراسة البنك الدولي سنة 2012 التي كشفت تهديد 20 في المئة من النسيج الصناعي التونسي، أيضا تدهور الميزان التجاري المتعاظم منذ منتصف التسعينات، العلاقة المباشرة بين تراجع المعاليم الجمركية وتزايد الدين العمومي، وفي ذات الفترة تزايد هروب الرأسمال المحلي إلى الخارج.
لا تقتصر هذه المخاوف على الورقات التي تم تقديمها في ندوة جوان 2014 بل تمتد إلى اقتصاديين ورجال أعمال تونسيين آخرين، مثل الجامعي عزالدين بن حميدة الذي وصل إلى تشبيه اتفاقية "الشراكة المميزة" بالاتفاقيات التي مهدت لاحتلال تونس في القرن التاسع عشر، ورجل الأعمال جمال العيدودي الذي ركز على معطيات وأمثلة عملية تشير إلى تفكك النسيج الصناعي التونسي وتراجع القدرة التنافسية للصناعيين التونسيين بسبب الاتفاقيات مع
الاتحاد الأوروبي، وانحصار الاستفادة من هذه الاتفيات في بعض اللوبيات القريبة من حاشية "رأسمالية المحاباة" التي تشكلت خلال عهد بن علي.
الواضح على كل حال أن الاتحاد الأوربي يضع شروطا لإمضاء الاتفاقية تتمثل في " أن مستوى الدعم (المالي الاوروبي) يتم تحديده بالنظر إلى أهمية الإصلاحات والأنشطة المتفق عليها ضمن برنامج العمل والتي ستحظى بالأولوية في برمجة مجالات التعاون بين الجانبين ومدى التقدم المسجّل في إنجازها".
طبعا إزاء هذا الوضع الحساس وفي سياق حالة التخبط والفوضى العامة والانشطار الحالي لحزب السبسي يتم تهميش أهم ملفات البلاد، اتفاقية ذات تأثير مصيري على السيادة الوطنية الاقتصادية والأمن الاقتصادي لتونس، وفي هذا الخضم سيردد المزايدون في الوطنية من حزب السبسي الشعار المعتاد: "تحيا تونس"، وهو مجرد شعار آخر تم استهلاكه من قبلهم بغرض التحيل السياسي لا غير.