منذ جنوح الثورة السورية نحو العسكرة، بدا واضحا أكثر من أي وقت مضى، أن الاحتجاجات الشعبية التي خرجت للمناداة بمطالب العيش الكريم والعدالة والتعددية السياسية، انقلبت بعد أشهر إلى مادة للمساومة السياسية على طاولة الدول العظمى في العالم.
البعد الدولي للصراع في
سوريا انتقل من المواربة إلى العلن، بعد إطلاق الولايات المتحدة والغرب للتحالف الدولي ضد “داعش”، ومن ثم التدخل العسكري الروسي، بالتوازي مع بعد إقليمي كانت بيادقه منذ اللحظة الأولى تتجاوز تشكيلات المعارضة المسلّحة وجيش الأسد، بل تمتد إلى قوى إقليمية في الجوار السوري، ساهمت بتغذية الصراع عبر الدعم المالي والعسكري والغطاء السياسي لكلا الطرفين.
إيران وحليفها حزب الله اصطفّا بضراوة إلى جانب النظام السوري ذي الأيدلوجيا الخارجة من رحم “الشيعية السياسية”، بينما أخذت قطر والسعودية وتركيا الجانب المضادّ عبر دعمهما الواضح للمعارضة السورية على اختلاف تمظهراتها المدنية والعسكرية.
وقد يبدو لافتا، الهوة الساحقة بين مشهد اندلاع الثورة في درعا غضبا لقتل النظام صبية داعبت براءتهم محاكاة شعارات “الشعب يريد”، ومشهد الحمى الطائفية وسعار القتل الذي يضرب سوريا الآن، والذي دفع حزب الله -مثلا- إلى الدحرجة من على قمة الإعجاب والتأثير في الشارع العربي، نحو حرب طائفية تستنزف مقاتليه وصورته، وحدا بتركيا -أيضا- لأن تنسف سياسة عقد كامل من “تصفير المشاكل” مع دول الجوار والتقارب المُنتظر طويلا مع سوريا، إلى حالة العداء الكامل واستجلاب المشكلات على حدودها الجنوبية.
هذا الاصطفاف الذي يحمل صفة المُزاوجة ما بين المصالحي والأيدلوجي، لا بد من الرجوع إلى نموذج الحروب على خطوط التماسّ الحضاري الذي نظّر له المفكر الأمريكي صموئيل هنتنغتون لإدراك نشأته واستشراف مصيره.
وفق هنتنغتون، الذي اقتنع حتى النخاع بأن الحروب الكبرى منذ تفكك الاتحاد السوفييتي ستحمل طابع المواجهات الحضارية، فإن ما يدور اليوم على الأرض السورية ليس سوى مواجهة على ثلاثة مستويات:
الأول: مستوى اللاعبين المحليين. وهم طرفان أو أكثر تقع بينهم المواجهة العسكرية الفعلية. وقد تكون دولا، مليشيات مسلحة، جيشا نظاميا أو شعبيا.
الثاني: مستوى اللاعبين الإقليميين. وهي دول مرتبطة مباشرة باللاعبين المحليين، ويتشاركون معهم حضاريا أو أيدلوجيا.
الثالث: مستوى اللاعبين المركزيين. وهي الدول العظمى بالعالم (كالولايات المتحدة،
روسيا، ألمانيا، فرنسا، وانجلترا) المرتبطة مصالحيا ولأغراض النفوذ بأحد عناصر المستوى الأول أو الثاني، أو كليهما معا.
ولعلك الآن عزيزي القارئ، بدأت بتصنيف أقطاب الحرب في سوريا وفق المستويات الثلاثة السابقة.
ما يعنينا اليوم، هو السؤال الذي يشغل بال المحللين السياسيين، والقلقين على مستقبل سوريا والمنطقة، وهو: ماذا بعد التدخلين الغربي والروسي المباشرين في سوريا؟
نظرية الألعاب، أو ما يعرف بـ Game theory وضعت قبل نصف قرن تطبيقات مذهلة لنموذجها في علم السياسة لا سيما في اتخاذ قرارات الحرب والسلم، ورسمت خطوطا عريضة لأنواع الصراعات الكبرى، كالتي تدور اليوم على 3 مستويات محلية، إقليمية ودولية في سوريا. كما درست النظرية السلوكات المتنبئ بها لدى الأطراف التي ترغب إما بالتصارع أو التعاون لتحقيق مصالحها.
في أحد نماذج النظرية، تُصنف الصراعات الدولية إلى 3 أقسام هي:
الصراعات التنافسية أو الصفرية
وهي الصراعات التي تتضاد تماما فيها مصالح أطراف المواجهة، بحيث يعني فوز أحد الأطراف خسارة مطلقة للطرف الآخر بحيث أن نتيجة (+1) للطرف الأول تعني بالضرورة خسارة للطرف الثاني (-1).
وهذا النوع من المعارك ينطبق مثلا على صراع حركات التحرر مع قوى الاحتلال، كالفصائل الفلسطينية التي تنادي بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر.
الصراعات التعاونية
وهي الصراعات التي لا تكون فيها مصالح الطرفين متعارضة بصورة تامة. بحيث تتداخل المصالح بصورة تسمح بالمساومة وتقديم التنازلات للوصول إلى اتفاق يوزع المكاسب بين أطراف النزاع.
وهذا النموذج يكاد ينطبق على الصراع الأمريكي - الروسي في سوريا. وأكبر مؤشر عليه، هو الإجماع على أن ضوءا أخضر أمريكيا قد منح لموسكو من أجل التدخل العسكري المباشر، في مشهد يبدو كصفقة أبرمت بين الطرفين، فيما لا زالت تدور مساومات بينهما على سيناريو إنهاء الحرب، أو بكلمات أخرى: توزيع المكاسب النهائية.
الصراعات التدميرية
وهي التي يعكف كل طرف فيها على تدمير الطرف الآخر. وهو نوع من الصراعات آخذ بالانقراض من على خريطة السياسة اليوم، إذ كانت تتبناه الدكتاتوريات القديمة، ويكاد ينحصر تمظهره المعاصر بالحروب النووية الشاملة.
تُجيب نظرية المساومة أحد فروع نظرية الألعاب، أو ما تعرف بـ Bargaining theory of international cooperation على سؤال مــــاذا بعـــد في سوريا؟
فبينما تندلع الصراعات الدولية ذات المستويات الثلاثة دوما بدوافع محلية، فإنها لا تلبت أن تنفلت من عقال اللاعبين المحليين، فلا يستطيع أحد إيقافها سوى اللاعبين الكبار على المستوى الدولي. ويبدو مصير المنطقة بأسرها مرهونا بالمساومات التي لا تتوقف بين أقطاب الولايات المتحدة والغرب وروسيا على مصير مصالحهم في سوريا. وهذه المساومة يحسم نتيجتها عنصران:
طول نفس أطراف الصراع: بمعنى عدم حاجتهم الملحة لعقد صفقة في أقرب وقت، لمنع استنزاف الموارد والقدرة السياسية على الصمود. فالطرف الأكثر قدرة على الصمود يستطيع بالنهاية أن يفرض شروطه على الأطراف المستنزَفة.
وفرة المعلومات لدى أطراف الصراع: ليس فقط المعلومات الميدانية والاستخبارية على أرض المعركة، إنما وفرة المعلومات حول تفضيلات ومناورات الطرف المقابل، مما يجعله أكثر قدرة على المساومة.
فالركيزة الأساس لهذه النظرية؛ هي أن اللاعب (الدولة) لا تتحدد حصته من المكاسب بالاستناد إلى سلوكه المناور فحسب إنما تخضع لسلوك جميع اللاعبين المنافسين.
ويشير تاريخ حافل من الصراعات المشابهة سواء في البلقان، آسيا الوسطى، والحرب الأخيرة على العراق، إلى أن أكثر السيناريوهات التي قادت لإيقاف الحروب ذي المستويات الثلاثة كان الاستنزاف الحاد على المستوى الثالث (اللاعبين الكبار) بصورة دفعتهم لممارسة نفوذهم على الحلفاء الإقليميين من أجل إخماد الحرب. ويتلخص دور اللاعبين الإقليميين بإيقاف الإمدادات المالية والعسكرية لحلفائهم المحليين، مع الضغط عليهم لقبول صيغة تسوية مؤقتة أو مستدامة تُنهي المواجهة.
ولا يبدو الجانب الروسي أو الأمريكي الآن بوارد الحاجة السريعة لعقد صفقة حول سوريا، فكلا الطرفين ما زال يحقق جملة من المصالح بإطالة أمد الصراع كتجميع الجهاديين واستئصالهم، إنهاك الخصوم الإقليميين، وانعاش أسواق السلاح، فيما عينه على أخذ أكبر نصيب من الكعكة في نهاية الحرب. أما وصفة إخماد هذه الحروب، فتتلخص بأن تتوقف الدول الإقليمية عن تقديم الدعم المباشر للاعبين المحليين، مما يرفع من كلفة المواجهة على عاتق الدول الكبرى، أو أن يتمكن اللاعبون المحليون من حسم معركة الأرض، أو الجنوح نحو وقف إطلاق للنار والجلوس على طاولة التفاوض. لكنها تظل حلولا نظرية لا تحتل حيزا واسعا في عالم شديد الاستقطاب سياسيا وأيدلوجيا.