مثل انهيار المنظومة
الاشتراكية في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي مشهدا دوليا جديدا تحول فيه النظام الدولي من النظام ثنائي القطبية إلى نظام أحادي القطبية سيطرت فيه الولايات المتحدة الأمريكية سياسيا وعسكريا واقتصاديا وثقافيا وقيميا على المشهد الدولي بلا منازع، وانتهت بذلك الحرب الباردة بانكسار للاتحاد السوفياتي ووريثته
روسيا الاتحادية التي بدت دولة عاجزة مستباحة.
وكان أول ما سعى إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ أن ظهر على الساحة السياسية – هو وفريقه – هو أن يوقف التدهور المستمر في الحالة الروسية وأن يعيد إليها توازنها الداخلي تمهيدا لصعود جديد يعيد لروسيا مكانتها الدولية التي تليق بها كدولة كبرى بعد تلك الكبوة التي أصابتها، وأن يرسل رسالة واضحة بأن روسيا لم تعد تلك الدولة المستباحة اللاهثة وراء الغرب. وهذا مدخل أساسي لا بد من اعتباره لفهم الموقف الروسي في سوريا.
إحدى تجليات هذه السياسة كان في الموقف الروسي من أوكرانيا والتي تمثل خط دفاع أساسي للأمن القومي الروسي لذلك كان الموقف صلبا ضد أي محاولة لإبعاد هذه الدولة عن النفوذ الروسي، وبعد تقدير استراتيجي للموقف وقراءة دقيقة للمشهد الدولي تدخلت القوات الروسية في عملية معقدة لغزو شبه جزيرة القرم أشرف عليها بوتين نفسه، في تحد واضح للموقف الغربي وفي رسالة واضحة بأن قواعد اللعبة قد تغيرت وأن روسيا قادرة على الفعل، الأمر الذي قرأه المراقبون بأنه شكل وضعا فارقا استعادت به روسيا ثقتها بنفسها واستفادت من التراجع الغربي، فتلك العملية لم يكن بالإمكان تصورها قبل عشر سنوات مثلا. كما نجح بوتين في تحويل السخط الشعبي من الحالة الاقتصادية التي تدهورت بعد انخفاض أسعار النفط باتجاه أمريكا باعتبارها المتسبب الأول في هذا العمل رغبة في إخضاع روسيا.
لسنا هنا في صدد تقييم السياسة الداخلية والخارجية للرئيس بوتين والتي تفاوتت بين نجاح وإخفاق لكن يهمنا في المقام الأول أن نضع أيدينا على الخيط الأول المتمثل في حالة التدافع الحقيقية القائمة بين روسيا والغرب والتي لها أسبابها الجيوسياسية والاقتصادية والثقافية.
لم تتشجع روسيا لموجة ثورات الربيع العربي التي اندلعت في عام 2011 ونظرت إليها بعين الريبة والتحفظ وهي سمة أساسية من سمات الدب الروسي الذي لا يتمتع بديناميكية في اتخاذ القرارات التي تحتاج تدخلا سريعا، وكان الشعور الروسي الدائم بأن (طبخة أمريكية) ما تحضر في خلفية هذه الثورات مسترجعا خبرته مع (الثورات الملونة)، مستبعدا العامل الشعبي الداخلي في نشوبها أو غير آبهٍ له.
كل هذه العوامل كانت حاضرة عندما اتخذ صاحب القرار الروسي موقفه المعادي للثورة السورية، سيما وأن النظام السوري نظام حليف لروسيا بطبيعته وهي تمثل الغطاء الدولي لمنظومة (إيران – سوريا – حزب الله) في المنطقة، فنحن عندما نتحدث عن طبيعة العلاقة بين النظام السوري وإيران فإنما نتحدث عن محور تحالفي حقيقي، وهذا الأمر ينطبق أيضا على العلاقة بين هذا المحور وروسيا فنحن نتحدث عن منظومة تحالفية سياسية، بالإضافة إلى الصين إلى حد ما،وعدم فهم طبيعة تعقيدات هذه العلاقة وأبعادها أدى إلى تدهور وضع سوريا والثورة السورية.
على المستوى الاستراتيجي والجيوسياسي تحتل سوريا ولأسباب عدة موقعا متميزا لا غنى عنه لأية دولة تسعى لتحوز مكانة على المستوى الدولي، وقد دلل على ذلك الصحفي المخضرم باتريك سيل في كتابه (الصراع على سوريا)مستنتجا بأن سوريا مركز مراقبة يمكن من خلاله مراقبة سياسات الدول الكبرى في المنطقة ونقطة لقاء للمنافسات الدولية، فهل من المنطقي – بعد الذي ذكرناه - أن تتخلى روسيا عن حليفها السوري؟بالطبع لا.
أما ظهور تنظيم الدولة الإسلامية فقد شكل أيضا بدوره سببا من أسباب التدخل الروسي، فرغم مرور شهور من حملة التحالف الغربي ضده إلا أن التنظيم لا يزال متماسكا ومسيطرا على مساحات كبرى في العراق وسوريا، وسواء كان التحالف الغربي راغبا بالقضاء على الدولة الإسلامية وغير قادر على ذلك، أو كان قادرا ولكنه غير راغب، فالمحصلة أن هذه الحملة تراوح مكانها ولم تؤت أكلها، وهذا شكل حجة قوية للتدخل الروسي فهذا التنظيم يحوي بين صفوفه المئات من المواطنين الروس ومواطني الجمهوريات الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفياتي، كما أن له حضور إعلامي قوي في مواقع التواصل الاجتماعي في هذه البلدان، وهناك قناعة روسية بأن انتشار التطرف الإسلامي يعزز النزعات الانفصالية في داخل روسيا ويشكل ثغرة يمكن أن تستغلها أمريكا لتهديد الأمن القومي الروسي.
لم يكن التدخل الروسي المباشر مفاجئا فقد سبقه عدة مؤشرات صريحة وقد بدا واضحا أن ميزان القوى على الأرض يميل تدريجيا لصالح الثوار، وأن الأمور لو تركت تسير بالقصور الذاتي فإن النظام سيسقط في النهاية، وأن البديل سيكون للقوى الإسلامية المعارضة وهذا أمر مزعج لروسيا ولأمريكا على حد سواء، لذلك بادر وزير الخارجية الروسي لافروف بالاتصال بنظيره الأمريكي محذرا بأنه لو سقط النظام السوري فإن تنظيم الدولة أو جبهة النصرة سيسيطرون على الموقف لذلك فإن روسيا لن تسمح بذلك، وعلى هذا المنوال صرح أوباما في الجمعية العامة بأن حكم الأسد سيء لكن بديله أشد سوءا.
ظروف عد ساعدت الروس في اتخاذ قرارهم فلطالما كان التخبط الأمريكي في المنطقة وغياب الرؤية الاستراتيجية مادة خصبة يتندر عليها الروس ويعايرون بها السياسة الأمريكية، فأمريكا لم تتدخل في منطقة إلا وأفسدت القائم أو جاءت ببديل أسوء وقد ظهر ذلك في العراق وأفغانستان وسوريا وليبيا والصومال، وكل ما حدث في تلك البلدان – حسب وجهة النظر الروسية – هو نتيجة السياسة الأمريكية المتغطرسة والمتخبطة، وقد جاء الوقت لروسيا أن تتدخل لتصلح ما أفسدته أمريكا، لذلك كان التدخل الروسي شرعيا حسب القانون الدولي لأنه جاء بناء على طلب من الحكومة السورية المعترف بها دوليا، وبهذا أبدع الروس في اقتناص الفرص واستغلال التراجع الأمريكي لفرض معادلة جديدة، وكان التوقيت أيضا بارعا فلن يجد الرئيس الروسي بوتين توقيتا أفضل من انشغال تركيا بانتخاباتها القادمة، وهو وضع يكبل الرئيس التركي أردوغان ويجعله عاجزا عن اتخاذ قرارات جريئة حتى تنجلي له الأمور، فكان لتوقيت الضربة أيضا دلالته المهمة.
لروسيا تجربتها المريرة في التدخل العسكري والقتال ضد الجماعات العقائدية، وقد عقدت في روسيا في السنوات الأخيرة عشرات الندوات وأصدر الخبراء الاستراتيجيون الروس العديد من الأوراق التي قيمت حرب أفغانستان، والحرب في الشيشان، والمواجهات في الدونباس في شرق أوكرانيا، والتحدي هو في تنزيل هذه الخبرة على الأرض في المواجهة الحالية.
لذلك يتسم تدخلها في هذه المرة بالحذر الشديد، فروسيا في ضوء ظروفها الاقتصادية والداخلية الحالية لا تتحمل حربا واسعا، لذلك يستبعد المراقبون أن تتعمق روسيا في الداخل السوري، وتقتصر في عملياتها على تكريس معقل لها على الساحل السوري حتى حلب تمهيدا للحفاظ على تواجدها في أي عملية سياسية قادمة.
كما أنها تستند في تحركها على تحالف إقليمي قوي على الأرض يشمل بقايا الجيش السوري وقوات حزب الله والحرس الثوري والكتائب العراقية، وهذا يتطابق مع العقيدة العسكرية الروسية الجديدة التي تقلل من دور العمليات الواسعة لصالح العمليات الخاطفة والمحدودة التي تعتمد على العمل الاستخباراتي والقوات شبه النظامية المدعومة بقدرات عسكرية متطورة، مع العمل الدبلوماسي والإعلامي، وهذا ما قامت به بنجاح في غزو القرم.
وبطبيعة الحال فلا يمكن تخيل أن يتم هذا التدخل الروسي دون التنسيق مع إيران، فالدور الإقليمي في سوريا يفوق في أهميته الدور العالمي، ودول الإقليمي تملك أوراقا قوية بإمكانها قلب الطاولة وخلط الأوراق إن أحسنت استخدامها، لذلك فلا غني لروسيا عن إيران لأنها تمثل الحماية لها على الأرض.
وفي الخلاصة تدرك موسكو بأن ما قامت به هي عملية حاسمة لا تراجع فيها، لأن التراجع يعني أفول روسيا كدولة عظمى، تماما كما أن النجاح فيها يعني تغييرا لقواعد اللعبة الدولية نحو عالم متعدد الأقطاب، ويبقى الخطر القاتل في روسيا هو في توسع العمليات العسكرية والتوغل في الداخل السوري.