استراتيجية أمريكا في
سوريا منذ البداية كانت "دعهم يتقاتلون"، وعدم السماح بانتصار أحد الطرفين على الآخر.. فانتصار بشار يعني انتصار إيران، وانتصار المعارضة يعني وجود فصائل إسلامية على حدود إسرائيل، وكلاهما مرفوض أمريكيا.
استعانت أمريكا سابقا بالأكراد ثم الأتراك والآن الروس لتجنب سيناريو مخيف بسيطرة الإسلاميين على دمشق إذا سقط بشار الأسد، وهو ما يبدو وشيكا يوما بعد يوم.. لكن الأكراد لم يكونوا بالقوة المطلوبة، والأتراك استغلوا الظروف لضرب حزب العمال الكردستاني في العراق، أكثر من ضرب "داعش"، التي تحدث توازنا مع الأكراد السوريين الراغبين في دويلة مستقلة ترفض أنقرة قيامها بشدة.
الآن
روسيا بدأت ضرباتها في سوريا بدعوى محاربتها تنظيم الدولة؛ لكن يبدو أن فصائل المعارضة الأخرى في جيش الفتح هي الهدف الحقيقي للروس، كما أنه من غير المستبعد أن يقوم الغرب بتمرير سلاح للمعارضة لاستنزاف الدب الروسي كما حدث في أفغانستان في الثمانينيات!
أمريكا ترفص تانجو في سوريا؛ حيث تقوم بحركات تتسم بالارتجال وعدم الثبات -بل والتناقض من حين إلى آخر- لدعوة الخصم ليقوم بحركة معينة! لكنه تانجو دموي على جثث السوريين!
***
منذ سقوط مدينة الموصل العراقية في يد تنظيم الدولة في حزيران/ يونيو 2014، ثم سقوط مدينة عين العرب كوباني السورية – مؤقتا– بعدها بشهور بيد التنظيم أيضا، تغير الموقف الغربي من الحرب في سوريا، وتحولت أولوية أمريكا تحديدا من المطالبة الصريحة بسقوط الأسد إلى تكوين تحالف دولي لمحاربة "داعش".
لكن التحالف الذي قادته واشنطن ضد تنظيم الدولة كان مقتصرا على الضربات الجوية فقط، ما جعله غير مثمر، وتحولت أنظار الجميع إلى الطرف الذي سيقود الحرب البرية على الأرض، على غرار ما قام به الجيشان المصري والسوري في حرب تحرير الكويت عام 1991 (عاصفة الصحراء). وبدأت أمريكا في التفكير في عدة خيارات:
1- الأكراد
في البداية لجأت واشنطن إلى وحدات حماية الشعب الكردية، التي تلقت تسليحا أمريكيّا ملحوظا،
لقتال تنظيم الدولة في سوريا والعراق.
ووصلت ذروة المواجهة بين الأكراد و"داعش" حين هاجم التنظيم مدينة عين العرب كوباني، وهي مدينة شمال سوريا ذات أغلبية كردية، ما دفع كثيرا من أكراد
تركيا إلى الضغط على الحكومة التركية لتوجيه ضربة لـ"داعش" نصرة لإخوانهم من أكراد سوريا!
لكن تركيا كانت لها مخاوف مشروعة، فسيطرة أكراد سوريا على مدن شمال سوريا الحدودية مع تركيا سيغري أكراد تركيا في مدن تركية حدودية أيضا على التقارب مع نظرائهم السوريين، في خطوة نحو تكوين دويلة كردية جنوب شرق تركيا، وهو ما لم تكن لتسمح به أنقرة!
لم تتدخل تركيا لتحارب ضد تنظيم الدولة، بل على العكس؛ راج كلام كثير عن دعم تركي خفي لتنظيم الدولة، وتساهل مع مرور أعضاء التنظيم بالأراضي التركية، وهو ما دفع نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى اتهام أنقرة بدعم الإرهاب، وهي التصريحات التي أغضبت أنقرة بشدة، وطلبت اعتذارا أمريكيّا رسميّا، واضطر بايدن إلى الإذعان وتقديم الاعتذار!
2- تركيا:
لكن مع التفجير الذي وقع في مدينة سروج التركية في ولاية شانلي أورفا الحدودية مع سوريا، تغير الموقف التركي من الحرب في سوريا، خاصة مع فشل حزب العدالة والتنمية في تشكيل حكومة ائتلافية، والتيقن من الذهاب إلى انتخابات تشريعية مبكرة.
عوامل السياسة الداخلية التركية كانت حاضرة بقوة في قرار التدخل العسكري التركي في سوريا، فصلناها في مقال (خمسة أسباب لتدخل تركيا عسكريّا في سوريا). وحدث تنسيق تركي أمريكي لاستخدام قاعدة إنجرليك الجوية في عمليات التحالف ضد تنظيم الدولة.
لكن تركيا كانت حريصة على عدم الانخراط بشكل كبير في الحرب السورية، خصوصا أنها أول من سيدفع الثمن بقواتها المنخرطة في القتال في سوريا، أو بتعرضها لهجمات متتالية عبر الحدود.
لذا استفادت تركيا من الظرف لصالحها فقط، وقامت بتوجيه الضربات الأقوى لحزب العمال الكردستاني في شمال العراق، أكثر بكثير من توجيه ضربات لتنظيم "داعش" في سوريا، ما أغضب واشنطن ودفعها لسحب بطاريات باتريوت من تركيا.
3- الروس:
ومع انحسار سيطرة الأسد إلى ما يقارب 17% فقط من مساحة سوريا، ومع تزايد احتمال انهيار النظام عسكريّا، بدأ الحديث يكثر عن قوات روسية تتوالى إلى روسيا مع تسليح نوعي لنظام الأسد، لحمايته من السقوط.
ربما يأتي التدخل العسكري الروسي في سوريا، حلا أمريكيا أخيرا لتوجيه ضربة جادة لتنظيم الدولة، حتى لا تقوى فصائل إسلامية راديكالية بسقوط الأسد. وبدأ الموقف الأمريكي في التراجع والتحول من المطالبة الصريحة بتنحي الأسد فورا، إلى عدم اشتراط الرحيل الفوري للأسد في بعض التصريحات والتلميحات، ومطالبة روسيا بالضغط على الأسد كي يجلس إلى مائدة التفاوض!
حلم روسيا القيصرية تاريخيّا كان الوصول إلى المياه الدافئة في المتوسط، وكان لا يمنعها من ذلك إلا تركيا العثمانية بمضايقها (البوسفور والدردنيل) الرابطة بين البحر الأسود شمالا والأبيض جنوبا. وآخر موطئ قدم عسكري للروس في المنطقة هو قاعدة طرطوس البحرية في سوريا على ساحل المتوسط، وهي لن تتنازل عن موطئ القدم الأخير هذا بسهولة.
ودون شك فإن التدخل العسكري الروسي في سوريا هو بتنسيق مع أمريكا، التي تخشى من وجود فصائل إسلامية متشددة ستوجد في سوريا شمال إسرائيل إذا سقط الأسد.
ومع ذلك فإني أعتقد أن أمريكا تمارس لعبة ما في سوريا، وأعتقد أن الضربات الروسية الأقوى ستوجه
ضد جبهة النصرة، العمود الفقري لجيش الفتح، الذي هزم الأسد في شمال سوريا، ولحركة أحرار الشام، التي تقاتل الإيرانيين وحزب الله في الزبداني، أكثر من "داعش".
كما أنه من غير المستبعد أن تمد أمريكا أطرافا في المعارضة السورية بسلاح نوعي لاستخدامه ضد القوات الروسية القادمة، حتى تكون سوريا مستنقعا جديدا للدب الروسي بشكل مصغر لما حدث لها في أفغانستان في الثمانينيات!
***
دعهم يتقاتلون:
منذ وقت طويل كانت الاستراتيجية الأمريكية في سوريا: “دعهم يتقاتلون”، بمعنى أنها تريد الإبقاء على الحرب دائرة في سوريا لأطول فترة ممكنة، وأن تمنع انتصار أحد الأطراف على الآخر عسكريّا!
فانتصار الأسد يعني انتصار إيران، وهو ما كان مرفوضا من واشنطن، وبالذات قبل توقيع الاتفاق النووي، كما أن سقوط الأسد يعني، كما قلنا، وجود فصائل إسلامية متشددة ستوجد في سوريا شمال إسرائيل، وهو ما كان مرفوضا كذلك.
وفي سبيل ذلك منعت أمريكا تزويد المعارضة السورية بسلاح نوعي، وبالذات صواريخ مضادة للطائرات، لكبح جماح سلاح الجو السوري الذي يقصف السوريين يوميّا بالبراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية. كما أنها رفضت طلبات متكررة بإقامة منطقة عازلة No Fly zone شمال سوريا، وهو العامل الحاسم الذي عجل بسقوط نظام القذافي في ليبيا!
في المقابل بدت الخطوط الحمراء التي وضعتها واشنطن ضد بشار الأسد بخصوص استخدام السلاح الكيماوي غير جدية! فبشار الأسد استخدم الكيماوي 4 مرات ضد شعبه دون تحرك أمريكي جدي تجاه أفعال تصنف أنها جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية.
***
تانجو أمريكا الدموي:
أمريكا ترقص التانجو في سوريا، والتانجو رقص يحتاج لشخصين (رجل وامرأة)، حيث يؤدي الرجل بعض الحركات ليدعو المرأة للقيام بحركة معينة. وفي سبيل ذلك يعتمد الرجل على الارتجال والإبداع والملاحظة الشديدة لتحركات المرأة، أي أن خطوات الرجل ليست ثابتة أو محفوظة، بل تتغير وفق الظرف والحال!
وهذا عين ما تفعله أمريكا في سوريا، تريد الاستفادة من الحرب الدائرة في سوريا إلى أقصى حد، بداية استفادت منها بإرهاق قوات الأسد وحزب الله وإيران، ثم استفادت بمنع انتصار فصائل إسلامية متشددة في الحرب الدائرة، ثم تستفيد أخيرا باستدراج روسيا إلى هذا الفخ السوري غير مأمون العواقب. وفي ضوء هذا يمكن فهم التذبذب في موقف الإدارة الأمريكية من الحرب في سوريا عدة مرات!
هذا كله وعدد شهداء الثورة السورية في ازدياد، وعدد اللاجئين السوريين يتضاعف كل يوم، ليضغط على دول الجوار السوري، وعلى دول غرب أوروبا، بينما أمريكا لا تواجه المشكلة ذاتها، وهي القابعة بين محيطين في أقصى الغرب بعيدا عن هذه الحرب.