الآن تتراجع
تونس التي تحكمها حكومة تحظى بدعم منتظم من التحالف الأغلبي الواسع خاصة بين أكبر حزبين النداء والنهضة، إلى الحد الذي يتم فيه إرساء سياسة المنع المطلق لحق التظاهر.
حتى مع اتباع الإجراءات القانونية أصبح هذا الحق ممنوعا. ببساطة تم تعليق حق دستوري بجرة قلم، أو الأصح بقانون ينتمي لعصور أخرى.
يكرر قياديو السلطة، من الحزبين على السواء، أن أي احتجاج في الديمقراطيات يجب أن يتم في "إطار المؤسسات". في حين أن الشارع، في إطار القانون والاحتجاج السلمي، هو أهم مؤسسات الدولة الديمقراطية لأن التفويض الانتخابي ليس ببساطة شيكا على بياض.
الاحتجاج المخاتل من نواب الأحزاب الحاكمة في البرلمان على "ممارسات الداخلية" كأنها تنتمي لحكومة لا تحظى بدعم التحالف الأغلبي أو أنها يتمية بلا أب، ربما يقوي الشعور بأننا إزاء عملية تحيل كبرى، ولا يعكس أننا إزاء تحالف حزبي يأخذ مسافة نقدية من الحكومة.
حلت السلطة هكذا أهم مؤسسات الديمقراطية التونسية. قلنا انتخاب
السبسي سيفرز تغول السلطة. لكن الأصح تحالف النداء -
النهضة برعاية السبسي هو الذي أفرز هذا الوضع.
الاعتقاد المتنامي في أوساط متناغمة في الحزبين الأغلبين أنهما يختزلان تاريخ تونس، يسهم في هذا النزوع لسلطة مطلقة بلا معارضة، يتجسم ذلك خاصة في السرديات المشتركة حول "الجد الواحد" للحزبين وتعميد الشيخ الثعالبي مؤسس أول حزب وطني أول القرن الماضي، بحسب "المؤرخين الرسميين" في طور التشكل للحزبين، شيخا مشتركا وعرابا لشيخي الحزبين.
الحقيقة، ذلك ليس بجديد؛ فكل الزيجات الملكية تدعي مشتركا وراثيا. الواقع إذا كان هناك مشترك بين الحزبين والشيخين ليس في عشرينيات القرن الماضي، بل في مصالح ورعاة الراهن. وأيضا في الرؤية.
الدولة تستوجب، وفق هذه الرؤية، أن إعادة الدولة وإنقاذ الاقتصاد رهين آلاف الموظفين الإداريين السامين الذين أصدروا أو تلقوا تعليمات لخرق القانون، ونفذوها لمصلحة رجال أعمال مميزين من حاشية بن علي، ورهين أيضا مئات رجال الأعمال هؤلاء.
هذا النادي الممتاز في تقاليد دولة الاستبداد والفساد هو المفتاح للرفاه، أو بمعنى آخر هذا ما يسمى الآن "قانون المصالحة الاقتصادية" الذي بادر به القائد الأعلى للقوات المسلحة في سياق مكافحة الإرهاب، ودعمه رئيس الحزب الثاني مكررا أنه "سيمر... سيمر"، ولو بعد "بعض التعديلات".
منع التظاهر المطلق يتعلق تحديدا بحماية تمرير هذا القانون، وليس بحماية الدولة من الإرهاب.
استعراض نصوص الفصول الدستورية حول حق التظاهر وحق المعارضة، لا يحرك على الأرجح شعرة لدى المواطن "العادي". هو يرى في ذلك مجرد هراء حقوقي لا يضمن له خبزا. أهم علامات فشلنا نخبة سياسية، كان يفترض أن تكون جديدة، هو عدم قدرتنا على جعل المواطن "الخبزيست" يرى الرابط بين ضمان وحماية حقوقه الاقتصادية والاجتماعية أو ببساطة خبزه، وحرياته الأساسية.
هذه الهوة بين الدستور وحاجات الناس هي الأساس الموضوعي لاهتراء الدولة الديمقراطية.
المفارقة أن تبرير قياديي التحالف النداء - النهضة للسلطة المطلقة، وانتفاء مبررات المعارضة تعتمد أساسا على حجة صعوبة الوضع و"الديمقراطية الهشة". في حين التقويض المباشر والأخطر لديمقراطية هشة، هو تقويض حدها الأدنى الديمقراطي.
المفارقة الأخرى أن ذلك لا يفعل إلا بالتحريض العملي على ولادة شخصية متسلطة فاشية، بمناداة المواطن الخبزيست وإنهاء التحالفات الحزبية الهشة.
في المقابل، نحن لسنا إزاء معارضة ضعيفة فقط، بل أيضا متناحرة. وفي الوقت الذي تتصرف فيه السلطة بشكل موحد، حيث تمنع الجميع دون استثناء من التظاهر، تتناحر المعارضة حول من يوجد ومن يقود في مسيرات هي محل استئصال أساسا.
تشتيت معارضة ضعيفة أصلا وتقسيمها هو قطع الطريق على المعارضة. في حين يجب قطع الطريق على قانون المصالحة والتطبيع مع الفساد، وليس المنصف المرزوقي من أصدر قانون المصالحة. أما الأخطاء فكلنا قام بها بدرجات من كان في السلطة ومن كان في المعارضة.
ومنها (للذِّكر لا الحصر) قطع الطريق على المرزوقي ليأتي رئيس مهمته الأولى قانون المصالحة.
ونعم المشكل فيمن لم يعتذر (اعتذر المرزوقي وحزب المؤتمر عن أخطائهما لناخبيهما وقاما بنقدهما الذاتي)، ولكن الأسوأ والأخطر فيمن يواصل أخطاءه والخطيئة الآن، وليس مجرد الخطأ دعم قانون الرباعي الحاكم اليميني لتحريك الاقتصاد بالتطبيع مع الفساد، من خلال تشتيت المعارضة وقطع الطريق عليها.
ما هو مهم هو عدم إقصاء فرصة معارضة قوية ومتماسكة في ظل تغول حكومة النداء - نهضة برعاية السبسي واستغراقها في سياسات فاشلة، وصلت بنا إلى نسبة الصفر في النمو، والعجز عن حماية التعليم العمومي، للذكر لا الحصر، وتهديد أي احتجاج بقانون الطوارئ وبالقمع العنيف بما يقوي الشكوك في الطبقة السياسية عموما لدى المواطن، ويهدد الانتقال الديمقراطي الهش في بلادنا.
ربما سنحتاج مرة أخرى مسارا صعبا يفهم فيه الجميع السياسة مجددا، وأن حكمة القوي المتسلط هو في تقسيم خصمه، وخطة الضعيف الحكيمة المضادة هي منع ذلك. وربما ستكون بوصلة عنفوان الشباب المستقل العفوية المتحررة من عقد الأيديولوجيا والزمان الذي يبادر الآن بأشكال إبداعية مختلفة في رفضه لقانون المصالحة هي الطريق لذلك، وربما الطريق لما هو أهم: تأسيس يسار اجتماعي شعبي متصالح مع الهوية، ويحقق التوازن مع الاندفاع الغريزي بدفع سلطة النفوذ المالي لتغول وهيمنة منطق اليمين.
غير أن منطق الشارع أثبت أنه جارف حتى في أكثر الأوضاع السياسية ركودا، مثلما كان الوضع التونسي في وقت ما. جارف لا يعبأ لا بنزوع التغول السلطوي ولا بمهاترات معارضة الأحزاب التي يمكن أن تنزلق إلى محاولات الانتحار.
عندما يتحرك الشارع، وذلك متوقع ومنتظر بل وضروري، ليس فقط ضد دكتاتوريات، بل أيضا والأهم في سياق ديمقراطيات. ربما لن نرى ذلك في المسيرات المتوقعة يوم السبت. لكنه سيأتي يوما.