في الوقت الذى تتعاظم فيه إشكالية الإفلات من العقاب للجناة منذ 25 يناير وحتى تاريخه، لم يستشعر الشارع
المصري وخاصة عائلات شهداء الثورة بعدالة حقيقية تقتص وتشفي غليلهم ممن سرق أحلامهم، وخطف أرواح شباب في عمر الزهور.
في ظل هذا الظلم والقهر المدفون في الصدور تنطلق
أحكام الإعدامات بالجملة مع شروق كل صباح، في مشهد عبثي لمحاكمات صورية تفتقد للحد الأدنى من شكلية المحاكمات المستقلة، وكأننا في مارثون للتسجيل في موسوعة غنيس لأحكام إعدام هي الأضخم في تاريخنا الحديث، وتتصدر بها مصر القائمة للأسف في أعداد أحكام الإعدامات؛ ففي جلسة لا تتعدى الثلاثين دقيقة تجد نفسك أمام أحام لإعدام ما يتجاوز الخمسمائة نفس، وليرصد العالم مع كل تلك الإجراءات مشهدا لمسلسل من نوع الكوميديا السوداء، التي تعكس الخلل المؤسسي وتضرب بمبادئ الفصل بين السلطات أو شبهة الفصل أو الاستقلالية المؤسسية عرض الحائط، وتأخذنا لمرحلة سوداء من تطور أساليب القتل المشرعن أو البطش باسم القانون.
في الأيام الأولى لمحاكمة مبارك، صرح أساتذة القانون أننا يجب أن نحاكم هذا الرجل محاكمة قانونية مستقلة ومحايدة، ونضمن له كافة الإجراءات القانونية لنضمن القبول الدولي لما سيصدر من أحكام، وخاصة ما يتعلق بملف استرداد الأموال المنهوبة، وكان لهذا الرأي القانوني أسانيده ووجدنا الساعات والأعوام تمتد والدفاع يتبختر بكل أريحية أمام الكاميرات في الدفاع عن آل مبارك.
وهذا ليس حسدا لمبارك وآل مبارك (لا قدر الله) على مثل هذه الإجراءات، ولكن للأسف، تخيل تأثير هذه المشاهد المسرحية على عائلات ضحايا 25 يناير وعائلات ضحايا غيرهم ممن يقدمون يوميا لمحاكمات صورية تفتقد لأي معايير وتتناقض مع كل القوانين وطنية كانت أو عالمية، وتخل بالحق الأساسي في الحياة، ففي الوقت الذى تراجع كل دول العالم عقوبة الإعدام ويجاهد المجتمع القانوني الدولي لوضع حدٍ لهذه العقوبة واستثنائية إقرارها في أضيق الحدود، تجد أن هذه الأحكام القاسية أصبحت السمة الغالبة في المشهد العبثي وخاصة في المحاكمات التي تتصدى لكل من يحسب على ثورة 25 يناير، وخاصة من المحسوبين على الحركات الإسلامية.
عمليات القتل المشرعن هذه محزنة وقاسية فقط على أسر وعائلات هؤلاء المحكوم عليهم، ولكنها أيضا مؤسفة ومخزية وتترك الأثر الأكبر على المجتمع بمختلف قطاعاته؛ لأن القتل بالقانون وعبر القانون يعد مؤشرا خطيرا في انتهاك
الحقوق الأساسية لكل مواطن، ويضرب في مقتل الشعور بالعدالة والحيادية والاستقلالية، وهذا تحدٍ تاريخي أمام المجتمع. ومن المحزن أن المجتمع المدني في مصر لم يتعافَ بعد من حالة الاستقطاب والانقسام المجتمعي التي عمل النظام على تعميقها لإضعاف قوة مقاومة المجتمع القادرة على الوقوف صفا واحدا رادعا أمام تلك الانتهاكات الخطيرة، ولقد ساهم فشل المجتمع المدني في تجاوز هذا الانقسام إلى تنامي وتجبر تلك الممارسات لشرعنة القتل، وسيستمر المجتمع يعاني يوميا حتى يستطيع أن يوحد صفوفه من جديد؛ ليكون حائطا ممانعًا ورادعًا لكل تلك الانتهاكات والمنتهكين.
ولكن، على المجتمع المدني أن يتحرك بسرعة، وأن لا يستغرق وقتا طويلا في لملمة الصفوف وتوحيد الجهود على الأقل، يعمل ضميره الجمعي في قضايا أخلاقية مثل هذه المشاهد اليومية لما نعاني منه بشرعنة القتل باسم القانون الآن وكل ما يتعلق بملف العدالة وانتهاك الحق الأساسي في الحياة.
فليس من المقبول، بأي حالٍ من الأحوال، أن نسكت ونتعامى عن ظلم الآخر، لأننا نختلف معه سياسيا أو أيديلوجيا وليس من الأخلاق تراجعنا عن الوقوف ضد تلك الممارسات الظالمة والمتسلطة والقتل باسم القانون.
ضمان سلامة الوطن؛ هو حفظ وسلامة حياة المواطن، ولا يمكن أن نستمر في تجاهل وغض الطرف عن الظلم الواقع على كل من يخالف هذا النظام، وليس من المنطق أو الحكمة ادعاء الحياد، فالحياد جريمة والسكوت عن القتل المشرعن عار سيلاحق الجميع، وسيسهم في انتشار الكراهية والتحريض على العنف، وسيندم الجميع حيث لا ينفع الندم.