(هذا شعب محب للاستبداد بطبعه) عبارة صار يتداولها كثير من اليائسين والمحبطين والساخطين عما آلت إليه الأوضاع في
مصر، يمعن بعضهم في شتم الشعب ونعته بأشد العبارات قسوة وتحميله مسؤولية ما جرى من انتكاسات للديموقراطية، المعركة الجيلية على أشدها فالشباب يلومون الكبار ويرونهم عاشقين للاستبداد الذى ناضل الشباب من أجل تغييره، حالة انحطاط لفظي عاتية تطغى على ساحات النقاش، مشاعر كراهية لا تتوقف وتسرى بين المختلفين، ضعف مشاعر الانتماء الوطني، والرغبة في الهجرة وترك الناس تلاقي مصيرها، والشماتة في كل مصيبة وكارثة تحدث صار أمرا عاديا بين قطاعات واسعة.
قبل عقود طويلة فسر المبدع عبد الرحمن الكواكبي هذه الظواهر في كتابه الشهير عن
الاستبداد فقال (والاستبداد يسبب فساد الأخلاق ويضعف الأخلاق الفاضلة، فهو يفقد الإنسان عاطفة الحب، فالإنسان في ظل الاستبداد لا يحب أهله لأنهم عون الاستبداد عليه، ولا يحب وطنه لأنه يشقى فيه، وهو ضعيف الحب لأسرته لأنه ليس سعيدا فيها).
يمكن مطابقة ما قاله الكواكبي على مشاهد كثيرة اليوم في حياة المصريين، ولعل رسالة الشاب المعتقل الذى قام والده بالإبلاغ عنه، وتم نشرها مؤخرا هي أحد هذه التجليات التي ضربت حياة المصريين، أما المثقفون فإن تأثيرات الاستبداد تطالهم وتجعل كثيرا منهم من أصحاب المبادئ المتغيرة، يتحولون إلى مُنظرين للطغيان ومبررين له؛ بل كما يقول الكواكبي يفسد الاستبداد عقول المؤرخين فيجعلهم يسمون الجبابرة الطغاة (عظماء) ويُرغم الناس على النفاق والرياء، ويعين الأشرار على فجورهم ويجعلهم في مأمن من الانتقاد والفضيحة؛ لأن الناس لا تجرؤ على القول خوفا من العقاب.
أسوأ أنواع الاستبداد التي يستخدم فيها الحاكم جزءا من الشعب ضد الشعب نفسه، ويقنعهم أنهم يقاتلونهم من أجل مصلحة الوطن ومستقبله، بينما هم في الحقيقة يهدمون مستقبلهم بأيديهم ويعتقدون أنهم يسيرون للأفضل بينما تتسارع خطواتهم للهاوية.
من يصفون المصريين بأنهم خانعون ومحبون للاستبداد يسوقون أمثلة تاريخية منذ زمن الفراعنة وتألههم، ويستدلون بالاحتلال المتكرر لمصر خلال العصور المختلفة، ثم يفردون الحديث عن فترة الحكم الناصري وما اتبعها من أكثر من ستين عاما، عاشت فيها مصر تحت نير الاستبداد والقمع وبناء جدران الصمت التي تهدمت تحت أقدام الشباب في 25 يناير 2011، ثم عاد من يحاولون بناءها الآن، وتكميم الأفواه واستنساخ الماضي بل والزيادة عليه بالسوء.
هل كل ما يسوقه هؤلاء كافٍ لتثبيت هذه الصورة الذهنية عن المصريين كشعب يعشق جلاديه؟
يمكن سرد أمثلة معاكسة عن هبات المصريين من أجل الحرية والكرامة والتحرر؛ ولكن الهدف ليس مواجهة فترات الخنوع بلحظات ثورية مكافئة، بل السؤال الأهم لماذا يرضى قطاع من المصريين – ليس بالقليل – بالاستبداد ويؤيدونه بلا تمهل ويبررون كل ممارساته وانتهاكاته؟
يحكي لي أحدهم عن جرائم التعذيب الذي أفضى للقتل، وتم نشرها مؤخرا في بعض الصحف المصرية ثم يقول لي في نهاية حكايته (بس برده دى أرحم لو كان استمر حكم الإخوان)، ومثل هذا الشخص كان أحدهم يتحدث معي عن سيناء وما يحدث فيها من إرهاب، وصل لأن يصف سيناء بأنها تم احتلالها مرة ثانية ولكنه ختم حديثه قائلا (بس الحمد لله انهم خدوا سيناء بس وما وصلوش القاهرة).
تأملت هذه النماذج المتكررة التي صارت تعتقد أن قدرها أن تختار بين سيء وأسوأ، وألغت من خياراتها الحق في الحصول على كل شيء جيد على المستوى الخاص والعام، فصارت تتعامل بنفسية قبول المتاح والرضوخ له، تحت وهم أنه قد يتغير وحده دون ثمن يتم دفعه وتضحية يتم تقديمها.
ثمة دوافع يمكن تفهمها ونحن نحاول استيعاب هذه الحالة:
أولا: الخوف من القمع، فبعض الناس يؤيدون الاستبداد ويباركون خطواته اعتقادا منهم أن ذلك يحميهم من سطوته وبطشه وأنهم طالما أيدوا – حتى لو على حساب ظلم أخرين – فإنهم في أمان.
ثانيا: الاستفادة من القمع، وهذا ينحصر في طبقات معينة لها علاقة بصراعات السلطة والمال وجماعات المصالح التي تستفيد من قمع مجموعات سياسية معينة للحفاظ على مصالحها وتأمين وتكريس فسادها.
ثالثا: خوف الناس من خطر محتمل يفوق خطر القمع الحالي، عبر الفزاعات الإعلامية التي تروج للناس وينطبق على هذا الآفيه الشهير (مش أحسن ما نبقى زي سوريا والعراق).
رابعا: رغبة الناس في السكون وعدم التغيير؛ خوفا من المستقبل الغامض.
خامسا: عدم وجود بديل واضح أمام الناس يقوى رغبتهم في التغيير ويحفزهم على دفع ثمنه.
سادسا: تفشى اليأس وإحساس اللامبالاة وفقدان الإحساس بملكية الوطن والحق في المشاركة في بنائه.
كل هذه الأسباب مجتمعة أو منفصلة يمكننا ملاحظتها في مجتمعنا الذى يجب أن نترفق به ونتوقف عن جلده، لا يوجد شعب محب للاستبداد بطبعه، ولكن توجد شعوب وضعت بين خوفين وتهديدين فاختارت واحدا منهما، رغم أنها كان عليها رفض الاثنين معا، ليس معنى أن هناك ثلة من الجماهير ارتضت الاستخذاء أن نعلن وفاة الشعب وخضوعه، معركة الحرية يسبقها معركة الوعى، والتي قد تأخذ وقتا أطول، وبشريات التغيير قد تكون غير متوقعة ومفاجئة للجميع ولكن إذا وجد من يمتلكون يقينا جازما بأفكارهم وحريتهم.
صدق الحجاج بن يوسف الثقفي حين قال عن المصريين في وصيته لطارق بن عمرو حين صنف العرب، فقال عن المصريين لو ولاك أمير المؤمنين أمر مصر فعليك بالعدل فهم قتلة الظلمة وما أتى عليهم قادم بخير إلا التقموه كما تلتقم الأم رضيعها، وما أتى عليهم قادم بشر إلا أكلوه كما تأكل النار أجف الحطب،
وهم أهل قوة وصبر وجلد وحمل، ولا يغرنك صبرهم ولا تستضعف قوتهم، فهم إن قاموا لنصرة رجل ما تركوه إلا والتاج على رأسه، وإن قاموا على رجل ما تركوه إلا وقد قطعوا رأسه، فاتق غضبهم ولا تشعل نارا لا يطفئها إلا خالقهم.