هل الظروف السياسية هي التي تشكل ثقافة المجتمع، أم أن الحالة السياسية ليست سوى إفراز طبيعي للثقافة الحاكمة في المجتمع؟
هل
إسرائيل هي سبب مشكلاتنا الداخلية؟ أم أن انهيار جهاز المناعة العربي الداخلي هو الذي أتى بإسرائيل إلى بلادنا؟
العامل الداخلي هو أساس تفسير الظواهر الإنسانية، ذلك أن الله تعالى منح الإنسان قوةً حتى لا يكون لأحد سلطان عليه إلا إذا تخلى هو ذاته عن قوته وقبل باستعباد الآخرين له، إن أحداً لا يستطيع امتطاء ظهرك إلا إذا وجده محنياً يقول مارتن لوثر كينغ، والقرآن يعمق هذا المفهوم فيبرز دائماً دور العامل الداخلي فيما يصيب الجماعات البشرية من انتكاسات، ففي غزوة أحد يحيل سبب مصاب المسلمين إلى أنفسهم: "قل هو من عند أنفسكم"، حتى الشيطان رمز الشر في الوجود لا يستطيع أن يضل أحداً إلا إذا كانت فيه القابلية الداخلية للغواية: "وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي"، "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين"، وهذا مقتضى العدل الإلهي ألا يعاقب الناس بعدو خارجي إلا إذا أحدثوا خللاً داخلياً: "ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون".
هذه ليست مجرد معان دينية غيبية، بل هي تلخيص للقوانين التي تحكم حركة النفس والمجتمع والحضارة والتاريخ، فالشيطان رمز للشر والتآمر الخارجي، لكن مخططاته لا تنجح إلا حين يكون هناك تجاوب داخلي معها وقابلية لاحتضانها، إن المجتمعات المحصنة تبطل كل
المؤامرات الخارجية، ذلك أن ارتفاع مستوى الشفافية الأخلاقية والوعي السياسي داخل المجتمع يحصن المجتمع ضد أي اختراق ويعزل أي مخطط غريب ويحرمه من الغطاء الذي يبحث عنه.
المؤامرات الخارجية موجودة، لكن العنصر الحاسم في إنجاحها أو إفشالها هو الموقف الداخلي منها: "وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً"، والتقوى يشمل معناها فيما يشمل الحذر واتخاذ الأساليب السياسية الفاعلة لإفشال المخططات المضادة.
تصوروا مثلاً أن يخطط الموساد لتفجير الأوضاع الداخلية في دولة مثل السويد هل سينجح في ذلك؟ ربما ينجح في شراء ضمائر بعض المواطنين السويديين ويوعز إليهم مهمات تخريبيةً، لكن حتى لو نفذوا هذه الأفعال التخريبية فستظل مساحة تحركهم محدودةً بسبب الوعي الوطني الذي يعزلهم ويجعل أي أفعال لهم تبدو غريبةً مستنكرةً، لكن لن تنجر البلاد إلى انفجار شامل إلا في حال وجود بذور كامنة في المجتمع تنتظر الظروف الملائمة.
المؤامرة الخارجية لا تصنع الانقسام الداخلي، لكنها تكشف الاستعداد الكامن له وتجلي ما في النفوس ليخرج إلى العلن.
إن الدماء والحروب والانقسام والكراهية التي تتجلى اليوم في سوريا والعراق واليمن وليبيا وغيرها ليست سوى إعلان رسمي عما كان مختبئاً تحت السطح طوال العقود الماضية، لا نبرئ التدخلات الخارجية ولا نستبعدها لكنهم يستفيدون من قابليتنا ويستثمرون في أوضاعنا الداخلية الهشة، إن إسرائيل ذاتها لم تكن لتقوم لولا أنها جاءت في ظل أوضاع عربية متردية فاستثمرتها في إقامة دولتها، وإلا كيف استطاعت دولة صغيرة غريبة أن تصمد لأكثر من ستين عاماً وسط بحر من الأعداء!
حين دعوت إلى تعزيز ثقافة الحوار واحترام التعدد الفكري والسياسي ونشر مفاهيم الشراكة والتعايش بدل الإقصاء من أجل توفير بيئة اجتماعية صحيحة تتصدى للممارسات القمعية للأجهزة الأمنية في الساحة
الفلسطينية قال فريق من الناس إن هذا تسطيح للمشكلة لأن هذه الأجهزة ذات ارتباطات خارجية، وإن المشكلة ليست مجرد حب وتفاهم بين الناس، وأنا أعترف أنها حجة منطقية، وأن الواقع السياسي معقد ومتداخل العوامل المؤثرة فيه ، لكن السياسة ليست سوى إفراز للمجتمع، وحين تتعزز في نفوس القطاع الشعبي الأكبر قناعة بأن الآخر هو شريك وطني وأن محاربة إنسان من أجل رأيه جريمة أخلاقية فلن تستطيع أي قوة سياسية مهما كانت ارتباطاتها الخارجية أن تتجاوز هذا الوعي المجتمعي، وستضطر لمسايرة المجتمع حتى لو بهدف منافقته، لأن الجاسوس ذاته لا يستطيع أن يعمل إلا في بيئة مجتمعية مساعدة، وحين تجفف المستنقع فلن يجد البعوض ما يتغذى به.
إذا كان عنصر الأمن يمارس قمعه بقرار سياسي فوقي، فإن البيئة الثقافية التي يأتي منها ودائرة العائلة والأصدقاء له تتفهم فعله مما يعني أن هذا الجندي لا يستطيع ممارسة دوره إلا بمظلة اجتماعية، ماذا لو نبذته العائلة والمجتمع هل سيظل قادراً على ممارسة ذات الدور بنفس الأريحية؟
تتجلى جدلية الثقافي والسياسي في ظاهرة الارتباط بالاحتلال، فالاحتلال يوظف إمكانياته الأمنية والسياسية والمالية في توريط ضعاف النفوس وابتزازهم للعمل معه، لكن لا يمكن إسقاط اعتبار الواقع الاجتماعي من العوامل المؤثرة في اتخاذ العميل قرار الارتباط بالاحتلال، فالأوضاع الاقتصادية القاسية التي يعاني منها المجتمع ممزوجةً بمشاعر الإحباط واليأس دافع رئيس للتورط في مستنقع العمالة، وهذه الأوضاع بدورها نتيجة لاختلال العدالة الاجتماعية ولفساد الإدارة، والناس تتحمل حياة الفقر والكفاف بشرط أن يتساوى الجميع في تقاسمها، لكن حين تزداد الفجوة الطبقية داخل المجتمع فتتنعم طبقة بالرفاهية على حساب أكثرية تعاني من الحرمان والقهر فإن كثيرين من أبناء الطبقة المسحوقة سيشعرون بالظلم وسينظرون إلى الوطن بأنه شركة خاصة ينعم بامتيازاتها علية القوم وليس لهم فيه مكان محترم وسيتأثر شعورهم الوطني سلباً مما يمثل بيئةً ملائمةً للعدو يستغل فيها هذه المشاعر السلبية ويوجهها لتحقيق أهدافه الخبيثة.
إن الاكتفاء بتحليل الأحداث السياسية دون نفاذ عميق إلى المكونات المجتمعية والثقافية التي تحتضن المستوى السياسي وتفرز مواقفه، يشبه أمر الطبيب الذي يكتفي بإعطاء الكمادات لتخفيض الحرارة دون أن يعطي دواءً لقتل الفيروس الذي ينشط في الخفاء.