الإسلام في
القرآن أوسع دلالةً من حصرِه في شريعة
الرسولِ محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم ووصفِ أمَّةٍ واحدةٍ به دون غيرها من الأمم،
فالإسلام هو الدِّين الحقُّ الذي يقبله الله من الناسِ من كلِّ الأممِ وفي كلِّ
العصورِ، وهو يتعلَّق بحالةِ القلب وليس بتفاصيلِ الشريعة.
وحين ادَّعى اليهود والنصارى احتكار الجنَّةِ، بيَّن
اللهُ تعالى أنَّ دخول الجنة لا يتعلق بالانتسابِ إلى هويَّةٍ قوميَّةٍ إنَّما
يتعلق بحالةِ النفسِ والقلبِ، فإسلام الوجهِ مع الإحسان هو ما يدخل الناس الجنة:
"وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ
كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ
فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة:
111-112).
يدعو القرآن أهل الكتاب إلى الإسلام، ليس بمعنى ترك
شريعتهم، إنما بمعنى
الاستسلام والتوجه إلى الله، مع بقاء الهوية الثقافية
المميِّزة لهم:
"فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ
لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ
أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا
عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (آل عمران: 20).
يتبيَّن في هذه الآيات أن الإسلام فعلٌ وحالةٌ وليس
اسم علم.. الإسلام في اللغة العربية مزيج من الاستسلام والسلام، وأيُّ ترجمةٍ لهذه
الكلمة إلى لغاتٍ أخرى ينبغي أن تراعي الطبيعة التركيبيَّة للكلمة لا أن تقتطعَ
دلالةً أحاديةً لها تنال من روحها.
الإسلام يتمثل في الاستسلام لإرادة الله والتحرر من حالة التنازع والشقاق الداخليِّ، وهو ما ينتج السلام والتناغم.
لكنَّ الاستسلام الذي تشتق منه كلمة الإسلام ليس نقيض الحرية، وليس نقيض العقل والتفكر والتساؤل، بل هو نقيض التشتت والحيرة
ومن هذا المدخل اللغوي نستطيع أن نقارب جوهر الإسلام،
فالإسلام يتمثل في الاستسلام لإرادة الله والتحرر من حالة التنازع والشقاق
الداخليِّ، وهو ما ينتج السلام والتناغم.
لكنَّ الاستسلام الذي تشتق منه كلمة الإسلام ليس نقيض
الحرية، وليس نقيض العقل والتفكر والتساؤل، بل هو نقيض التشتت والحيرة.
بعد أن يستنفد العقلُ حيلته ويبذل الإنسان أقصى جهدٍ
مستطاعٍ، تظلُّ هناك مساحةٌ في حياته لا يملؤها إلا القبول والرضى، لذلك يأتي
التسليم حين تنتهي حدود العقل لينقذ الإنسان من السخطِ والعجزِ والحيرة.
الإسلام هو الحالة التي يخرج المرء بها من تيارات
الحياة المتعاكسة وصراعات النفس الممزقة فيقرر السكون والتناغم مع حركة الوجود.
والسلام هو الغاية الأخيرة التي يبغيها البشر، قد يخوض
الإنسان رحلة بحث معرفي وفلسفي شاقةً ويضنيه الشك والسؤال، لكنه وهو في هذه الحال
يتطلع إلى شاطئ السلام ويشتاق أن تبلغ نفسه السكون.
السؤال والجدل لا يمثل غاية الإنسان إنَّما يمثِّل
الطريق، أما غاية الإنسان التي يتطلع إلى بلوغها فهي السكون والسلام.
الإسلام قانونٌ وجوديٌّ ينظم حركة المخلوقات جميعها،
فالنجم والطير والشجر والجبال كلُّها خاضعة لله تعالى لا تحيد عن مسارها ولا تعاند
قانون الحياة:
"أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ
أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُونَ" (آل عمران: 83).
ما دام من في السماوات والأرض أسلموا لله، فإنَّ دعوة
الإنسان إلى الإسلام هي دعوةٌ له إلى التناغم مع إيقاعِ الكون.
إنَّ كلَّ ما نراه من انضباطٍ دقيقٍ في حركةِ الوجودِ
من الذرّة إلى المجرّة هو تجلٍّ لقانون الإسلام. يتحدث القرآن عن تسبيح المخلوقات
لله:
- "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ
مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ
وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (النور: 41).
- "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ
دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا
أَتَيْنَا طَائِعِينَ (فصلت: 11).
تشير آياتٌ كثيرةٌ في القرآنِ إلى تسبيح وسجود وطاعة
كلِّ أرجاء الكون في السماوات والأرض إلى الله!
من تجليات معنى التسبيح أنَّ كلَّ المخلوقات في حالة
تناغم مع حركة الكونِ وتوافقٍ مع القانونِ الذي يضبطها، وأنَّ الكون يسير وفق
إيقاعٍ متجانسٍ طائعاً لإرادة مكوِّنه.
والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يملك القدرة على
العصيان ومعاندة قانون وجوده، لذلك لا نجد اضطراباً أو تناقضاً وإخلالاً بالتوازن
في حركة النجوم والكواكب أو في أعماق البحار أو الغابات البعيدة عن يد الإنسان،
بينما يظهر الفساد في الأماكن التي وصل الإنسان إليها بما كسبت أيدي الناس.
الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعصي ويخرج عن القانون
ويعاند فطرة الله، لذلك حين ذكر الله سجود الخلائق له كان بعض الناس هم الاستثناء
من هذا القانون الشامل:
"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ
وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ
عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ
اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ" (الحجّ: 18).
السجود هو مظهر الإسلام وتجلِّي حالة القلب بالخضوع
لإرادة الله، والإسلام يعني أن يكون الإنسان منسجماً مع حركة الوجود، فكما أن
النهر لا يكف عن جريانه وكما أن الزهرة لا تتأخر عن تفتح براعمها، فإن المسلم هو
الذي يتصل بروح الطبيعة ويثق بالحكمة الناظمة لها ويجذبه الجمال المتجلي في كل
ثناياها، فلا يعاند ولا يقاوم إنما يستسلم لحكمة الوجودِ تقوده حيث تشاء، فيورثه
هذا الاستسلام طمأنينةً ورضىً، ويحرره من الشقاق والاختلاف!
نقتربُ هنا من معنى "الاختلاف" الذي يذكره
القرآن، فالاختلاف الذي يعنيه القرآن هو اختلافٌ داخل النفس الواحدةِ، وهو نقيض
الوحدةِ والاجتماع، فالنفس في حالة انسجامها تكون مجتمعةً، فإذا اختلفت كان
التشتُّت والتناقضُ والشقاق، ثم يؤسس الاختلاف داخل النفس الواحدةِ إلى اختلاف
الجماعة الخارجيَّة وتنازعها وتقاتلها..
الاختلاف الذي يعنيه القرآن هو اختلافٌ داخل النفس الواحدةِ، وهو نقيض الوحدةِ والاجتماع، فالنفس في حالة انسجامها تكون مجتمعةً، فإذا اختلفت كان التشتُّت والتناقضُ والشقاق، ثم يؤسس الاختلاف داخل النفس الواحدةِ إلى اختلاف الجماعة الخارجيَّة وتنازعها وتقاتلها
يعيننا في فهم معاني القرآن ملاحظة مقابلاتِها،
والإسلام في القرآنِ يقابله التولِّي:
".. فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20:
آل عمران).
والتولِّي هو الإعراض والإدبار بدافعِ الاستكبارِ،
فمقتضى معرفة الحقِّ أن يستسلم المرء لمقتضاه، ونقيض ذلك أن يُعرض ويُدْبر
ويستكبر، فإذا كان الإسلام هو الفعلُ التلقائيُّ الذي تقتضيه معرفة الحقِّ، فإنَّ
التولِّي هو فعلٌ قصديٌّ يقتضي بذل طاقةٍ عنفيَّةٍ لأنَّه تنكُّرٌ للحالةِ
الطبيعية التلقائيَّة.
الحياة تقوم على قانون التلقائية؛ توقف عن الحرص على
الأشياء تأتيك صاغرةً؛ هذه الحكمة الشائعة بين الناس لم تأت من فراغ إنما تختزن في
باطنها تجارب غنيةً من الحياة، حين نحرص على الظفر بشيء يفلت من أيدينا، وحين
نتركه ونعيش حياتنا ببساطة يأتينا دون عناء، كلنا لاحظ هذا في حياته، هذا هو قانون
الإسلام، ثق بالتدبير الكونيِّ الشامل، وتوقف عن الجزع واللهاث في الحياة واترك
للمدبر الأعلى أن يدبر أمورك.
ويتصل بمعنى الإسلام معنى
الرضى، فالإنسان إذا سلَّم
أمره سكنت صراعات نفسِه ورضي بتدبير الأقدار.
تذكر سورة مريم في قصتي يحيى وعيسى عليهما السلام
مثالين للشخصيَّة الإنسانية: شخصية الجبار الشقيِّ العصيِّ، وشخصية البَرِّ
الرضيِّ.
تتحدث السورة عن يحيى عليه السلام:
- "وَاجْعَلْهُ
رَبِّ رَضِياً" (مريم: 6).
- "وَبَراً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً
عَصِياً، وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ
حَياً (مريم: 14-15).
وتتحدث عن عيسى عليه السلام:
"وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي
جَبَّاراً شَقِياً، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ
وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَياً" (مريم: 32-33).
الجبار العصيُّ الشقيُّ الذي يضادُّ شخصيَّتي يحيى
وعيسى عليهما السلامُ هو الذي يعيش حالة تمرد وعصيانٍ وتنافرٍ وشقاقٍ داخليٍّ،
فيكون ساخطاً شقيَّاً في حياته.
ونرى في صفات يحيى وعيسى الربط بين البرِّ بالوالدين
وبين حالة الرضى والسلام، لأنَّ الوالدين هما مرآة الوجود وفيهما تتجلى صفات
الرحمة والجلال الإلهيِّ، فإن كان الولد متصلاً بهذه الصورة بعلاقة الرضى
والانسجام والتوافقِ كان ذلك مؤسِّساً لحالة توافقه مع الوجودِ الكليِّ، وإن كان
جباراً معهما كان ذلك مؤسساً لحالة العصيان والتمرد والشقاء مع الوجودِ الكليِّ. وهذا
مما يخبره الناس بكثرةٍ وتواترٍ وتكرارٍ تنتفي معه الحاجة إلى التمثيل عليه، في
الفرق بين شخصيَّتي الجبار والبارِّ والسمات النفسيَّة لكلٍّ منهما، فالأول يعيش
حالة صراع وشقاقٍ والثاني يعيش حالة انسجامٍ وسلامٍ.
الاستسلام هو مرحلةٌ فوق الوعي تتمثل في صمت الضوضاء
والشتات الداخليِّ وبلوغ حالة السكون التي تأخذ صاحبها إلى العمق حيث جوهر كيانه:
"وله ما سكن في الليل والنهار".
هذه الحالة يسميها المعلم الألمانيُّ الكنديُّ إيكارت
تول "الوعي المستسلم". يقول في محاضرة بعنوان "أعمق حقائق الوجود
الإنساني":
"حالة الوعي المستسلم هي حقيقة كل الأديان، إنه
حيزٌ من الحضور الواعي يتجاوز الأفكار، استسلم لأي شكل تتخذه هذه اللحظة لأن الكون
بأسره قد جلب لك هذا، لكن هناك "أنا" ضئيل بداخل الرأس لديه جدال في هذا
ويقوي ذاته عبر هذا الجدال وهذا هو سبب المعاناة الإنسانية، حين تستسلم لما هو
كائن، هذا هو الاستسلام للربِّ، سيتوارى هذا البناء الأنويُّ الذي يعيش على
المقاومة والرفض، ويكون هناك عمقٌ لكيانك فجأةً وسلامٌ في داخلك".
يقترب هذا الاقتباس من حقيقة الإسلام دون أن يسميه
باسمه، فهو يمزج في عبارةٍ واحدةٍ بين مكوني "الاستسلام والسلام"،
ويتحدث عن "الأنا بداخل الرأس" الذي هو الاستكبار بلغة القرآن، ويتحدث
عن الجدال الذي هو الاختلاف والشقاق بلغة القرآن!
وإيكارت تول ليس الوحيد في مقاربة معنى كلمة
"الإسلام" في سياق التجربة الإنسانية، فهناك كثيرٌ من المفكرين
الغربيِّين والشرقيِّين يعبرون عن ذات المعنى بطرقٍ لغويَّةٍ متعدِّدةٍ، وهناك
العديد من الكتب التي تتحدث عن معاني "القبول"، "التسليم"، "الرضى"
كانت في السنوات الأخيرة بين الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة، وهو ما
يؤكد أن هذه المعاني الأصيلة في القرآن تلامس حاجةً إنسانيَّةً جوهريَّةً، حتى وإن
اختلفت لغة التعبيرِ عنها.
يعد كتاب التاو أعظم الكتب تأثيراً في تكوين التراث
الثقافيِّ للأمة الصينية، وفي هذا الكتاب يتكلم الحكيم الصينيُّ لاو تسو عن معنى
"اللا فعل واللا جهد" وهو مصطلح مقارب في معناه لمعنى الاستسلام
والتوكل.
يؤكد لاو تسو على معنى التلقائية الكونية، فالماء
ينبثق من نبعه ويجري وفق قانونه الذاتي الخاص دونما خطة مرسومة مسبقاً، ويشق لنفسه
مجرىً في الأماكن المنخفضة ليصل إلى مصبه بسهولة ويسر ومن غير جهد يبذله أو ممارسة
للقسر.
يدعو الحكيم لاو تسو إلى التماثل مع العفوية الكونية
ويقول في تعبير جميلٍ: "الصلابة والجمود من علامات الموت، واللين والرقة من
علامات الحياة، من هنا فسلاح القوة لا ينفع والشجرة التي لا تنحني تُكسر بسهولة".
مبادئ التاو تقول لنا إن الأنبياء والحكماء عبر
التاريخ يعبرون عن نفس الحقائق بكلمات مختلفة وإن هذا الحكيم الصيني يقترب كثيراً
من جوهر الإسلام بالمعنى الفطري القلبي لكلمة الإسلام، فدعوته إلى التماثل مع
العفوية الكونية هي بالضبط فكرة الاستسلام إلى إرادة الله وإسلام القلب له.
twitter.com/aburtema