"هذا
الاتفاق النووي جيد بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أمن العالم بأسره...الاتفاق يجبرهم على تجميد برنامجهم النووي الحالي، وقبول فرق التفتيش الدولية على كل منشآتهم النووية الحالية...الاتفاق لا يعتمد على الثقة، وإنما على التحقق، فسوف تشرف الوكالة الدولية للطاقة الذرية على التحقق من الامتثال لبنود الاتفاق كاملة".
من المفارقات أنّ هذا الكلام لا يعود للرئيس الأمريكي أوباما، والدولة المعنيّة هنا ليست
إيران! هذا الكلام قاله الرئيس بيل كلنتون في وصفه الاتفاق النووي الذي تمّ التوصل إليه عام 1994 مع كوريا الشمالية الدولة المعنيّة به. وبعد مرور 12 عاما عليه أي في العام 2006، أجرت كوريا الشمالية أول اختبار نووي لها، ثم الاختبار الثاني عام 2009، والثالث عام 2013، وهناك تقديرات مختلفة بشأن عدد الأسلحة النووية التي تمتلكها اليوم.
هذه فكرة بسيطة عمّا يمكن أن يؤول إليه اتفاق أوباما مع إيران. ولكنّنا سنتجاهلها لصالح مناقشة ما جاء في مسودة الاتفاق ذاته.
في كلمته التي ألقاها بتاريخ 2 أبريل 2015، كما في خطابه الأسبوعي الذي نشر على موقع البيت الأبيض بتاريخ 5 أبريل 2015، قال الرئيس الأمريكية أوباما في سياق الترويج لاتفاق الإطار النووي والدفاع عنه بقوّة: "كان أمامنا ثلاثة خيارات: إمّا قصف المنشآت النووية الإيرانية، وهو ما سيعيد برنامج إيران النووي عدة سنوات فقط إلى الوراء بالتوازي، ويطلق حربا جديدة في الشرق الأوسط، وإمّا مغادرة المفاوضات، والأمل بالحصول على شيء أفضل عبر
العقوبات، علماً بأنّها قد أدت دوما إلى أن تقوم إيران بتحقيق المزيد من التقدّم في برنامجها النووي، وإما صفقة قويّة، ويمكن التحقق منها، كتلك التي توصلنا إليها، والتي تمنع إيران بطريقة سلمية من امتلاك سلاح نووي".
إذاً، وفقا لأوباما، فإن الاتفاق الذي تم التوصل إليه يمنع إيران بطريقة سلمية من امتلاك سلاح نووي، كما أنّ العقوبات فشلت في تأدية مهمّتها وأدّت دوما إلى أن يحقق النظام الإيراني المزيد من التقدّم في برنامجه النووي.
الآن بالعودة إلى النص المنشور على موقع البيت الأبيض تحت عنوان (JCPOA)، سنلاحظ عمليا أنّه لا يمنع إيران من إنتاج سلاح نووي بالمطلق، وإنما "قد" يؤخر امتلاك النظام الإيراني للسلاح النووي عشر سنوات إذا التزمت إيران، مع بقاء إمكانية حصولها على السلاح النووي خلال فترة الاتفاق (إذا خرقته)، أو بعد انتهاء فترة الاتفاق (اذا التزمت به)، على أنّ ذلك يعود دوما إلى إرادة النظام الإيراني وقراره.
تقييمنا لنص ما جاء في الاتفاق أنّ إيران لم تتخل بموجبه عن أي شيء:
1) لم توقف عملية تخصيب اليورانيوم كما نصّت عليه 6 قرارات دولية من مجلس الأمن، ولا يوجد ذكر في النص لضرورة شحن طهران لمخزون اليورانيوم الذي سيتم تخفيفه إلى الخارج.
2) الاتفاق لا ينص على تدمير أجهزة الطرد المركزي المتطورة (جهاز IR-8، أسرع بـ20 مرة من الأجهزة الحالية) وإنما على تخزينهم (يعني في مستودع مع قفل). وهذا يعني أنّه في حالف خرق إيران للاتفاق، من الممكن استعمالهم وإنتاج قنبلة بوقت قياسي مقارنة بالأجهزة الموجودة حاليا، هناك تصريح علني للجانب الإيراني يقول أنه سيستعملهم في جميع الأحوال بعد انتهاء مدة الاتفاق!
3) الاتفاق لا يفكك أو يدمر منشأة فوردو (المحصّنة تحت الأرض بعمق 200 متر، والتي تمّ بناؤها بشكل سري بعيدا عن أعين العالم، وبشكل مخالف لكل القوانين الدولية)، بل يتيح لإيران إبقاء ألف جهاز طرد مركزي فيها (من الممكن إعادة تشغيلهم حال خرق الاتفاق بل وزيادة عددهم هناك مع التمتع بحصانة من ضربة عسكرية).
4) لم يتم تفكيك منشأة آراك رغم إدخال بعض التعديلات عليها، (علما أنّها صممت في الأصل لإنتاج البلوتونيوم الذي لا مبرر له في البرامج النووية السلمية على الإطلاق).
5) حتى وإن اعتبرنا أن الاتفاق يفرض قيودا ما على إيران، فهو في الأصل محدد زمنيا ، وهذا يعني أنّ إيران ستكون في حلّ من كل ما يمكن اعتباره قيودا عليها عند انتهاء المدة الزمنية. (لو كان الاتفاق جيدا فعلا، وليس استراحة، لماذا لا يكون طويلا، لخمسين عام مثلا؟!)
ومع كل ما ذكرناه أعلاه، إلا أنّ أوباما يعدّ الاتفاق جيّدا، وأنّه سيمنع وحتى لو تجاهلنا كل ما ذكر أعلاه، فإن أوباما يعتبر أنّ الاتفاق جيّد، وأنّه سيمنع إيران من الوصول إلى السلاح النووي بسبب الضمانات الموضوعة فيه.
يرى أوباما انّه وبفضل نظام المراقبة والتفتيش الذي سيتم تطبيقه على إيران خلال فترة الاتفاق، فإنها لن تستطيع امتلاك القنبلة النووية، وإذا حاولت الغش، فسيتمكن العالم من معرفة ذلك مبكراً، ما يتيح اتخاذ الإجراء المناسب ضدها، وهذا الإجراء كفيل بردعها عن الغش، ومنعها من خرق الاتفاق.
أمّا إذا خرقته فعلا، ولم تلتزم به، فسيتم إعادة العقوبات عليها فورا، وهذا أيضا يعدّ الخط الدفاعي الثاني الذي يجبر إيران على التفكير مرتين قبل القيام بمثل هذه الخطوة. لكن هل هذا الكلام صحيح؟
للأسف لا، على الإطلاق. نظام المراقبة والتفتيش ليس فعالا مهما كان قويا، ولا يضمن التزام إيران أو يردعها، لأنه ليس "العصى" بحد ذاته، وإنما هو وسيلة مراقبة، أي بمثابة "كاميرا".
إيران دولة شبه قارة من الصعب جدا مراقبة نشاطاتها بشكل كامل، وحتى لو تم ذلك فمن الصعب جدا القطع بنتيجته النهائية. من سيكون قادرا على القول إنّ إيران لم أو لن تغش مطلقا، أو أنها لم تخف أو لن تخفي شيئا؟ وإذا خرقت الاتفاق، فمن سيكون قادرا على إعطاء الدليل القاطع على ذلك؟
وعلى كل حال، فالاتفاق لا ينص أصلا على وجود عمليات تفتيش فجائية، كما أنه لا ينص على أنّ فرق التفتيش يحق لها الوصول إلى أي مكان (البروتوكول الإضافي عليه جدل)، بل إنّ الجانب الإيراني يشدد على عدم وجود صلاحيات لفرق التفتيش للدخول إلى منشآت عسكرية، خاصة تلك التابعة للحرس الثوري! كما أن لا شيء يمنع إيران في النهاية في حال حصول خلل من طرد المفتشين واستئناف برنامجها.
لدينا تجربة العراق، المفتشون كان لديهم كل الحقوق بالدخول إلى أي مكان في العراق في أي مكان وزمان بشكل مفاجئ ولسنوات طويلة، ومع ذلك لم يكونوا متأكدين من أنّ العراق لا يمتلك أسلحة دمار شامل حتى بعد الحرب التي شنت عليه، فما بالك بدولة معقدة مثل إيران؟
ولو تجاوزنا هذه النقطة، فهناك سؤال يطرح نفسه، من هي الجهة التي تمتلك مثل هذه الموارد للقيام بهذه المهمة، وهل الوكالة الدولية للطاقة الذرية مؤهلة؟ وهل النظام الأممي الذي تتبع له يعمل بشكل جيد وناجح حتى نقول إنّ المهمة ستكون ناجحة؟ (انظروا مثلا الحالة الكيماوية السورية)، ناهيك أصلا عن أنّ إيران لم تتخصّص بشيء بقدر تخصصها في خرقها لنظام العقوبات وفي تعاملها مع السوق السوداء.
وبالتالي، فإن إيران تمتلك الخبرة اللازمة للقيام بذلك، وحقيقة أنه سبق لها وإن فعلت ذلك مرارا وتكرارا، فهذا يجعلني لا أطمئن نهائيا إلى أي كلام عن التزامها الطوعي.
وحتى لو افترضنا أنّه حصل خرق أو تجاوز أو التفاف أو تلاعب بالاتفاق من قبل إيران، فبالتأكيد سيحصل تجاذب وأخذ ورد في المسألة بين من يقول إنه خرق جزئي لا يؤثر وبين من يقول إنه خرق يجب المعاقبة عليه، ونعود بعدها إلى لعبة التجاذبات وإلى المحاور الدولية المعروفة والى لعبة القط والفأر، ويمضي الوقت كما مضى حتى اليوم 12 عاما منذ اكتشاف أن إيران تمتلك برنامجا نوويا.
أمّا بالنسبة إلى ادّعاء أوباما بأنّه "في حال حاولت إيران الغش فإن العالم سيعلم وسيتحرّك حينها"، فهذا مردود عليه من باب الواقع ذاته تاريخا وحاضرا. ليس من المؤكد أنّ العالم سيعلم، وإذا علم ليس من المؤكد أو الحتمي انّه سيتحرّك، ولدينا تجارب عن ذلك مرّة أخرى.
حتى العام 2003، لم يكن أحد يعلم أنّ إيران تمتلك برنامجا نوويا، وعندما عُلِمَ الأمر لم يتم فعل شيء حقيقي. ولم يعلم العالم أنّ إيران شيّدت فيما بعد منشأة آراك لإنتاج البلوتونيوم الذي لا يستخدم في البرامج النووية السلمية، وعندما علم العالم لم يفعل شيئا حقيقيا. كذلك لم يعلم العالم أنّ إيران بنت منشأة سرّية تحت الأرض بعمق 200 متر محصّنة ضد الضربات الجوّية ولا علاقة لها بنشاط سلمي، ومع ذلك فعندما علم بقي متفرجا، وهكذا حتى وصلنا إلى مرحلة أنّ إيران (باعتراف أمريكا ذاتها) تبعد فقط حوالي شهرين عن فترة الاختراق النووي. إيران منذ عقود تتجاوز القوانين والأنظمة والتزاماتها بشكل مستمر ودائم، والعالم عرف ويعرف ذلك ولم يفعل شيئا. وعليه فليس هناك من شيء جديد يقنعنا بأنّه سيفعل شيئا هذه المرة أيضا أن هي خرقت الاتفاق.
في العام 1994 تم توقيع اتفاق بين كوريا الشمالية والولايات المتّحدة الأمريكية يقضي بانّ تجمّد كوريا الشمالية برنامجها النووي مقابل إمدادها بالنفط وتفعيل العلاقات الاقتصادية معها وبناء مفاعلين حديثين لها يعملان بالمياه الخفيفة، على أن يتم في النهاية تفكيك منشآتها الأخرى وشحن الفيول إلى خارج البلاد. بعد فترة من الزمن تفاجأ الجميع بأنّ كوريا الشمالية كانت بموازاة ذلك تعمل في برنامج سرّي، وفي العام 2006 أي بعد حوالي 12 عاما من الاتفاق اختبرت أول قنبلة نووية لها!
تبقى الأسطورة الأكبر التي يناقض أوباما نفسه فيها ألا وهي مسألة العقوبات. هناك اختلاف في الطرح الأمريكي والطرح الإيراني في هذا الموضوع الذي يعد الأهم وربما الأصعب خلال الشهرين القادمين. وفقا للنص الأمريكية المنشور سيتم إراحة إيران من العقوبات إذا تم التأكد من أنها ملتزمة بتعهداتها، وسيتم تعليق العقوبات الأمريكية والأوروبية عندما تتأكد الوكالة الدولية للطاقة الذرية من أنّ إيران قامت بكل ما يجب عليها أن تقوم به، وأنّه في حال لم يتم الالتزام أو تبيّن أن الأداء غير مقنع بشكل تام فسيتم إعادة فرض العقوبات عليها.
إذا افترضنا أن إيران التزمت لمدة 5 سنوات، ورفعت عنها العقوبات وتدفقت إليها أموال النفط والغاز والاستثمارات الاقتصادية والتجارية ثم قررت بعد ذلك عدم الالتزام أو حصل اختلاف على التطبيق، وإذا سلمنا جدلا أنّ جهد عقدين من الزمان في تطوير نظام عقوبات صارم سيتم إعادته على إيران حينها في شهر أو حتى يوم بعد أن تمّ إلغاؤه أو تعليقه لخمس سنوات ( أمر مستحيل ولكن نفترض ذلك) ، فهل يوجد عاقل يصدق أنّ نظام عقوبات مهما بلغ من قوّة سيكون قادرا على التأثير على الوضع الإيراني حينها؟!
هناك تجاهل تام بأنّ وضع الاقتصاد الإيراني بعد الاتفاق سيكون مختلفا عن وضعه قبله. وإذا كان أوباما نفسه يقول كما نقلنا في أول المقال "أن العقوبات لم تؤد النتائج المطلوبة وكانت تؤدي دوما إلى تقدّم البرنامج النووي الإيراني"، فكيف تكون العقوبات "خشبه" سابقا أو الآن ويريد منها أن تتحول إلى "سيف" لاحقا، علما أنّ جسد إيران سيكون عصيّا على التقطيع لاحقا.
عموما، هذا المقال يأتي ضمن سلسلة المقالات التي أكتبها عن الاتفاق وتفاعلاته وانعكاساته الإقليمية والدولية، وسيكون لنا ما بعده إن شاء الله.