عندما يتعلق الأمر بالمعارضة الشديدة التي تبديها عدّة أطراف للجهود التي يقوم بها الرئيس الأمريكي أوباما للتوصل إلى اتفاق نووي شامل مع النظام
الإيراني، نلاحظ خلطا عجيبا في المواقف لدى شريحة واسعة من المتابعين. في العالم العربي عموما، لا تزال شريحة من المتابعين تصدر أحكامها في الغالب بشكل غير منطقي، خاصّة عندما تكون
إسرائيل حاضرة في المشهد، فما بالكم إذا كان الأمر يتعلق بنتن ياهو أيضا هذه المرة!
هذه الشريحة عادة ما تقيس المواقف ليس استنادا إلى المعطيات الموضوعية وانما استنادا إلى الموقف الإسرائيلي، فإذا كان الموقف الإسرائيلي (مع) قضية معينة، فهذا يعني أنّه لا بد من أن نكون (ضد) هذه القضية وإلا فإننا نصطف مع إسرائيل!
هذا النوع من المعادلات التي تتضمن "خداعا استراتيجيا" يحبّذه في الغالب دعاة الشعبوية الذين لطالموا ضحكوا على الغالبية الساحقة من الشعوب العربية تحت مسمى مقاومة إسرائيل ومحور الممانعة وغيرها من المصطلحات البراقة، وذلك لسبب بسيط ألا وهو أنها تعفي الناس من التفكير، ولذلك فنحن نرى الآن نتائج هذه المعادلة المدمرة ليس على إسرائيل وإنما على العرب أنفسهم دولا وشعوبا.
هناك ثلاث جهات حتى الآن ترفض بقوّة
الاتفاق النووي المزمع عقده بين إدارة أوباما وبين نظام الخامنئي، الأولى هي الجمهوريين في الداخل الأمريكي، والثانية هي إسرائيل عبر نتن ياهو، والثالثة هي بعض الدول العربية (وإن لم تفعل ذلك علنا). هذه الأطراف لا تمتلك نفس الدوافع والمحفزات في رفض الاتفاق النووي الأمريكي – الإيراني وهذا أمر هام جدا إذا ما أردنا أن نفهم المسألة بشكل جيد، لكنّ ما يجمعهم هو عامل واحد فقط لا غير، عدم الثقة بإدارة الرئيس أوباما ومن أنّه جاد في السعي لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي.
ويمكنكم أيضا أن تلاحظوا أنّني لم أضم "المتشددين الإيرانيين" إلى قائمة الرافضين للاتفاق النووي، وذلك لسبب بسيط وهو أنّه بغض النظر عمّا إذا كان ذلك صحيحا أم لا، فإنه لا يمكن لمفاوض إيراني إصلاحي أو محافظ أو متشدد أو معتدل أن يجري أية مفاوضات أو أن يعقد أي اتفاق من دون أن يكون المرشد الأعلى علي الخامنئي قد أجاز وأيد ودعم ذلك، وهذا يعني أنّ كل ما يأتي فيما بعد هو توزيع للأدوار فقط لا غير.
وبالعودة إلى قائمة الرافضين، فإن الجمهوريين يرفضون الاتفاق بسبب قائمة طويلة من الدوافع أبرزها الحسابات السياسية الداخلية وخصومتهم لأوباما والصراع الجاري أيضا على تفسير حدود صلاحيات الرئيس والكونغرس في الموضوع، واعتقادهم أنّ أوباما لا يملك خطّة وأنّ كل ما يسعى إليه هو تحقيق إرث في السياسة الخارجية الأمريكية عبر الملف النووي الإيراني وعلى حساب المصالح القومية للولايات المتحدة الأمريكية.
صحيح أن عددا من الجمهوريين موالون لإسرائيل، لكن ذلك لا يفسر كل الموقف، والقول بذلك هو تسطيح للموضوع خاصة أنّ اللوبي الإسرائيلي نفسه في واشنطن (AIPAC) لم يعكس توافقا على الخطوات التي اتخذها نتن ياهو ومنها إلقاء كلمة في واشنطن من دون موافقة أوباما أو حتى دعوته من قبله. كما أنّ المعارضة ليست مقتصرة على الجمهوريين، فهناك عدد من الديمقراطيين أيضا يتم العمل معهم على استصدار قانون يجبر الرئيس أوباما على تمرير أي اتفاق مع إيران إلى الكونجرس أولا وأن يلعب الكونغرس دورا أكبر في تحديد مصير هذا الاتفاق.
أمّا بالنسبة إلى دوافع نتن ياهو في رفض الاتفاق المزمع عقده بين إيران وأمريكا، فأبرزها الدافع السياسي والذي ثبت أنّه ناجع بالفعل، والذي أدى إلى إعادة انتخابه بأغلبية رغم أنّ التوقعات خلال الأشهر الأخيرة كانت تقول إن فرص نجاحه ليست كبيرة. وبالرغم من ذلك، استطاع عبر معارضته الشديدة وتحديه الشخصي لأوباما أن يحفّز الناخب الإسرائيلي للتصويت لصالح العامل الأمني.
أما الدوافع الأخرى فمنها ما يتعلق بموضوع كسر الاحتكار النووي في الشرق الأوسط، إذ لا شك أنّ هناك مصلحة إسرائيلية في أن لا تمتلك دول أخرى في المنطقة قدرات نووية، لكن ذلك لا يعني أيضا أن علينا أن نوافق على وجود قوة نووية أخرى لأن إسرائيل تمتلك اسلحة نووية، خاصة إذا كانت هذه القوة الوليدة تحتل بالأساس دولا عربية وليس إسرائيل. فقادة وأعضاء "فيلق القدس" وميليشياتهم لا يقاتلون الصهاينة ويموتون على أسوار القدس كما يعتقد البعض متوهما، وإنما يقتلون العرب ويموتون على أسوار دمشق وبغداد وصنعاء!!
على العموم، هناك وجهات نظر متعددة في إسرائيل إزاء موضوع النووي الإيراني، ونتن ياهو لا يمثل إلا إحداها، إذ هناك من يقول إنّ امتلاك إيران لسلاح نووي سيجعل منها دولة عقلانية تعتمد أكثر على الحسابات وهذا أيضا يناسب إسرائيل لأنه سيشجع طهران على فتح تواصل رسمي مع تل أبيب تحت شعار الخوف من حصول مواجهة نووية.
تاريخيا وحديثا، سابقا والآن، العدو الحقيقي لإيران في المفهوم الإيراني هم العرب وليس إسرائيل. ولا أريد أن أشير هنا إلى تصريحات "المعتدلين" الإيرانيين الأخيرة التي أطلقها البعض كعلي يونسي، مستشار الرئيس "المعتدل" حسن روحاني، والتي تحدث فيها عن استعادة الإمبراطورية الفارسية لأمجادها وعاصمتها بغداد (إذا كان هذا المعتدل فيهم فلا تتصوروا المتشدد)، ولكن لمن يحب التوسّع ولا تقنعه الوقائع والحقائق على الأرض، أنصحه بالضرورة بالعودة إلى كتاب كنت أوّل من قدّم له قراءة في العالم العربي حتى قبل أن تصدر طبعته العربية تحت عنوان "حلف المصالح المشتركة التعاملات السرّية المشتركة بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة" من تأليف الإيراني "تريتا بارسي" الذي أصبح بالمناسبة يتزعم اللوبي الإيراني في واشنطن منذ سنوات قليلة.
أمّا بالنسبة إلى العرب، ولاسيما دول مجلس التعاون الخليجي والمملكة العربية السعودية بالتحديد، فلديهم كل المبررات الموضوعية لمعارضة هذا الاتفاق. لديهم أرض محتلة من قبل إيران (الجزر الإماراتية) وتطالب أيضا بين الفينة والأخرى بضم البحرين. ويقوم نظام الملالي بمحاصرتهم الآن من جميع الجهات بما فيه حديقتهم الخلفية، اليمن.
تحوّل إيران التي تمتلك نزعات توسعيّة غير مبيّتة وفوقية عنصرية إلى قوة نووية بمباركة أمريكية سيؤدي إلى توسيع الفجوة في ميزان القوى، وهذا يعني إما انطلاق سباق تسلّح نووي في منطقة هشّة للغاية، أو البحث عن إقامة تحالفات عسكرية جديدة إقليمية أو دولية وهو في كلتا الحالتين أمر غير مطمئن.
وبالرغم من أنّ مشكلة توازن القوى من الممكن حلها نطريا بسيناريوهات متعددة تتضمن إما المظلة النووية الأمريكية أو الحصول على سلاح نووي أو حتى إنتاج قدرات نووية (عدد من الدول العربية بدأ في الخطوات الأولى لهذا المسار)، لكن الأخطر بالنسبة إلى الدول العربية هو أنّ إيران ستصبح محصّنة من أي عقاب على سلوكها السيئ الذي يتضمن استخدام جماعات إرهابية مسلحة (الميليشيات الشيعية) وتنفيذ عمليات إرهابية في المنطقة، وهو الأمر الذي لن يتضمنه الاتفاق بالتأكيد، بل قد يمنحها الشرعية والاعتراف بنفوذها غير الشرعي في العالم العربي، خاصّة أن الدول العربية لا تثق بإدارة الرئيس أوباما بعد كل ما جرى في السنوات الماضية لاسيما نكث الوعود، وإجراء مفاوضات سرّية وتبادل رسائل سريّة ومعارضة الإطاحة بالأسد عمليا والسماح لإيران بابتلاع العراق رسميا، وبالتالي ليس هناك من مؤشرات على أنّه صادق في وعوده أو أنه يسعى فعلا إلى اتفاق مع إيران يأخذ بعين الاعتبار مصالحهم وهواجسهم.