لقد قيل كل شيء بخصوص اتفاق الإطار حول البرنامج النووي
الإيراني، الذي وقعته الدول الاستعمارية الكبرى مع إيران تمهيدًا لتوقيع الاتفاق النهائي في حزيران القادم، فحتى المتناقضات ما بين استسلام إيران ورضوخ الغرب قيلت في تحليل هذا الاتفاق لحظة إعلانه قبل معرفة بنوده وتفاصيله، فإيران من وجهة نظر بعض كارهيها في العالم
العربي فتحت أبوابها للوكالة الدولية للطاقة الذرية لتفتيش كل منشآتها ومراقبة كل خطوط إمدادها المتعلقة ببرنامجها النووي، إضافة إلى أن إيران وافقت على خفض أجهزة الطرد المركزي بنسبة الثلثين، والتزام نسبة 3.67 سقفًا لتخصيب اليورانيوم مدة 15 عامًا، وتخفيض اليورانيوم المخصب بهذه النسبة من 10 آلاف غرام إلى 300 غرام مدة 15 سنة.
في المقابل احتفل أنصار إيران لحظة الإعلان عن الاتفاق الإطار، حتى وإن لم يقرؤوا بنوده بعد، في تصرف غريزي يتسم به الجمهور الإيراني في المنطقة العربية، والذي لا يرى في ممارسات إيران وسياساتها إلا الحق والقوة والمبدئىة والانتصارات، إلا أن احتفالاتهم لم تخب هذه المرة، بالرغم من تلك الظلمة المركوزة في وعيهم، فبخلاف قرارات مجلس الأمن التي تطالب إيران بوقف تخصيب اليورانيوم، تسلم الدول الاستعمارية الكبرى اليوم في هذا الاتفاق بحق إيران في تخصيب اليورانيوم في حدود نسبة معينة تتيح لإيران امتلاك دورة وقود نووي كاملة، إضافة إلى حقها في تطوير قدراتها النووية السلمية، وهذا اعتراف فعلي بإيران دولة نووية بقدرات ذاتية، وبما سيجعلها في النهاية دولة حافة نووية قادرة على إنتاج قنبلة نووية في ظرف سنة، باعتراف عالمي هذه المرة، إضافة إلى تفاصيل أخرى في الاتفاق تراجعت فيها الدول الاستعمارية عن قرارات مجلس الأمن.
في النتيجة سترفع العقوبات الاقتصادية عن إيران بموجب هذا الاتفاق الذي يمنحها الحق في امتلاك دورة وقود نووي كاملة، وهو ما يعني توفر سيولة نقدية هائلة لإيران من بعد التوقيع النهائي، وقدرة على بيع النفط بلا عقبات، دون أن يرتبط ذلك بدورها الإشكالي في المنطقة العربية، وبما لا يستجيب للحد الأدنى من تطلعات دول الخليج من حلفائها في الدول الاستعمارية الكبرى، وبهذا يصح القول بأن تلك الدول قد باعت دول الخليج لصالح إيران، بصرف النظر عن الأسباب والدوافع.
في الأسباب والدوافع، ورغم كل ما يمكن أن يقال عن ترتيبات تآمرية بين أطراف الاتفاق، أو عن طبيعة النظرة التي يمايز فيها المستعمر بين إيران كقوة طموحة إلا أنها معزولة عن العالمين العربي والإسلامي بعنصري افتراق هما المذهب الشيعي الإمامي والقومية الفارسية وبالتالي لا تشكل عليه خطرًا حضاريًا بالنظر إلى هذين العاملين وعوامل أخرى، وبين العرب السنة الذين يشكلون قلب العالم الإسلامي وأصحاب الإرث التاريخي في التصادم مع الغرب، ولا يفصلهم عن الجغرافيا الغربية سوى المتوسط؛ فإنه لا بد من الذكير بأن الغرب ليس قوة كلية القدرة لا تتنازل إلا من موضع التآمر المريد، وبأن إيران قد مارست المناورة المقتدرة مع هذا الغرب من موقع المستقل الذي يملك مشروعًا طموحًا، إضافة إلى أن القوى الغربية في حالة تراجع بما يفتح المجال لقوى أخرى مستعدة لملء الفراغ.
وبهذا فإن مشكلة العرب السنة التي تحول دون قدرتهم على امتلاك المشروع الطموح المستقل الذي يصعد بهم إلى مستوى التنافس الحضاري، رغم امتلاكهم لكل المقومات الطبيعية والبشرية اللازمة لبناء هكذا مشروع؛ في افتراقهم وطبيعة الأنظمة التي تحكمهم والتي لا يتجاوز مشروعها في أحسن الأحوال الحفاظ على ذاتها كأنظمة مصالح خاصة، أو أنظمة وظيفية تابعة للمستعمر تبعية عضوية.
فالمشكلة في الأساس ليست مع إيران، والتي تملك في الأصل وجودًا طبيعيًا في المنطقة، تجاوز حدوده إلى الهيمنة على العرب وبصورة تمعن في إذلالهم وتفتيت مجتمعاتهم بسبب من السياسات العربية الحاكمة التي لم تكن تملك أي رؤية لبناء قدرات ذاتية تحول دون اختراق المشروع الإيراني بلادنا، وبما لا يجعل العرب رهينة الحماية الغربية والتي لم تكن في أي يوم سوى غطاء استعماريًا يخفي أسفله الاستمرار التاريخي للوجود الاستعماري في بلادنا.
هذا الاتفاق الغربي/ الإيراني سواء انتهى إلى توقيع نهائي في حزيران أم عاد بالعلاقة بين الطرفين إلى الخلف، يكشف عن رؤية الطرفين المشتركة إلى بلادنا، فإذا كان الغرب يرى فينا التهديد الحضاري له بالنظر إلى جوهرنا القادر على الانعكاس في صورة الأمة وتاريخنا ومقوماتنا الطبيعية والبشرية في حال امتلكنا الوحدة والمشروع الطموح، فإن إيران ترى في شرذمتنا وضعفنا واستمرار تبعيتنا شرطًا لاستمرار مشروعها وهيمنتها الإقليمية، وبهذا يلتقي الغرب وإيران على ضرورة إبقاء هذه المنطقة ضعيفة وممزقة وخاضعة للهيمنة، وفي هذا الصدد لا يضر إيران أن تكون بعض بلادنا تابعة للغرب، ذلك لأن التابع لا يمكنه أن يملك مشروعًا مناوئًا وهو يتكل بالكلية على حاميه الغربي.
بدت هذه السياسات الإيرانية واضحة في أفغانستان، فقد كان تدمير طالبان مكسبًا إيرانيًا أكثر مما هو مكسب أمريكي، وللمفارقة بعد ذلك اشترك الطرفان في نفس الحلفاء الأفغان، ثم في العراق الذي شكل تاريخيًا حائط الصد الأول في وجه الطموحات الإيرانية، وللمفارقة أيضًا اشترك الإيرانيون والأمريكان في نفس الحلفاء العراقيين، وبعد ذلك اتضحت الرؤية الإيرانية في سياسات تمزيق المجتمع العرقي وتعزيز الافتراق الأهلي بين أطيافه والذهاب به إلى أبعد مدى، وبصورة تبقي شيعة العراق في موقع المحتاج الأبدي إلى الأخ الإيراني الكبير، وبعد ذلك في سوريا التي توجت فيها إيران تحالف الأقليات، وأخيرًا في اليمن التي لا يمكن فهم السياسات الإيرانية فيها بواسطات شعارات الموت لأمريكا و"إسرائيل"، والتي ارتكزت أيضًا بتغليب عنصر مذهبي على النسيج اليمني المتآلف بما يخلق صراعًا داميًا بين أطرافه ينتهي بشرخ مجتمعي مزمن.
بهذا أحالت إيران نفسها إلى ركن في الثورة المضادة، لأن أي مشروع تحرري في هذه الأمة سيعيق بالضرورة الطموحات الإيرانية المستندة إلى مشروع مفارق لعموم الأمة، فحتى في مصر التي كانت على خلاف تاريخي مع إيران منذ "الثورة الإسلامية"، كانت المواقف الإيرانية غامضة، وإن كانت واضحة في بعض جوانبها من خلال دعم إعلام المحور الإيراني لانقلاب عبد الفتاح السياسي، وبتمويل إيران لبعض الشخصيات والتيارات السياسية في مصر والتي شكلت لاحقًا العمود الفقري للجناح الشعبي في الانقلاب العسكري، لتلتقي الجهود الإيرانية مع الجهود
السعودية والإماراتية في النهاية، مع فارق جوهري في أن إيران التي تملك رؤية ومشروعًا تعرف ماذا تريد بالضبط، فمصر تابعة، حتى لو كانت تابعة للغرب أو لـ "إسرائيل" هي المطلوب لمنع صعود مشروع تحرري مستقل في قلب الأمة يعيق المشروع الإيراني الخاص.
بهذا يتضح أن إيران تلتقي مع الغرب في الأساس في طبيعة النظرة إلى العرب المسلمين، إلا أن هذا الالتقاء لم يكن من موقع التبعية، وإن كان قابلاً للتطوير في حال تم التوقيع نهائيًا على الاتفاق النووي، إذ لا يوجد ما يمنع إيران الآن، خاصة بعد تعافيها الاقتصادي، من تعزيز هيمنتها في المنطقة العربية.
وإذن فإن قدر هذه الأمة أن تناضل على ثلاثة محاور، يأتى في مقدمتها الاستعمار وفي طليعته دولة العدو الصهيوني التي تؤدي دورًا تاريخيًا في تمزيق الأمة ومنعها من امتلاكها مشروعها التحرري ومن ثم النهضوي، ثم الأنظمة التي وجدت أن ضمانة استمرارها في تنفيذ المخططات الاستعمارية، وأخيرًا إيران ذات المشروع المستفيد الأبرز من تلك المخططات ومن أداء الأنظمة العربية.