من أكثر الأعراض السيئة بروزا في علاقة
الإرهاب في تونس هو
الاستثمار السياسي فيه. عنوان ذلك جملة تم تكرارها بشكل آلي ودون أي تفكير أو تمحيص في الوقائع حتى أصبح النطق بها من بديهيات التأريخ للارهاب في الخطاب السائد: "غياب الإرادة السياسية لمقاومة الإرهاب".
تم تخصيص هذا الاتهام الخطيرمن قبل فئة سياسية معارضة تجاه أخرى في الحكم خلال مرحلة ائتلاف "الترويكا". وهنا لا يتم انتقاد أداء أي سلطة بشكل معقول من زاوية "التقصير" بل يتم الحديث عن "غياب إرادة" بما يعنيه ضمنيا من اتهام خطير بالتواطئ مع الإرهاب.
يصبح الأمر خطيرا بشكل خاص عندما نستمع الى هذه التهمة المسيسة من قبل قيادات امنية او عسكرية "محايدة" في الظاهر. ينطبق ذلك على تصريح منسوب منذ ايام قليلة لرئيس الاركان السابق الجنرال رشيد عمار الذي تخلى عن مهامه في ماي 2013، اذ قال بمناسبة نجاح قوات الحرس الوطني نهاية الاسبوع الماضي في كمين "سيدي عيش" (محافظة قفصة) في تصفية قيادات #كتيبة_عقبة بن نافع، التابعة لتنظيم #القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي، خاصة منها اميرها لقمان ابو صخر (خالد الشايب) بأن: "الاستعلامات الميدانية حققت نجاحا وهذا بفضل الارادة السياسية وهذا ما كان ينقص سابقا، وعندما وجدت الارادة السياسية والقرار السياسي تحقق النجاح".
ليس هذا التصريح فريدا من نوعه بالنسبة للاخير. اذ سبق له بمجرد تخليه عن مهامه التركيز في ماي 2013 على "الخلل في العمل الاستخباراتي" (ربطه في تصريحات لاحقة بـ"غياب الارادة السياسية") كسبب مباشر لنجاح الارهاب وهو ما ادى الى رد من مصادر امنية شاركت في مقاومة الارهاب قبل وبعد الثورة قالت انذاك بالحرف: "بأنه لم يتم التفطن الى العناصر المتحصنة بالشعانبي (اخر سنة 2012) عن طريق الصدفة وانما كان على خلفية اعترافات احد العناصر الذي تم ايقافه بولاية جندوبة والذي تبادل اطلاق النار مع وحدات الحرس الوطني قبل وفاة انيس الجلاصي بايام قليلة. وشدد على انه منذ ذلك الوقت انطلقت عملية تمشيط جبل الشعانبي من طرف وحدات الحرس والجيش الوطنيين. وعن احداث سليمان التي كانت بدايتها 26 ديسمبر 2006 ذكر مصدرنا ان هذه الخلية الارهابية المورطة في عملية سليمان هي التي تم اكتشافها عن طريق الصدفة" (موقع "حقائق اونلاين" 26 جوان 2013).
إذا بعيدا عن تصريحات هذا الشخص او ذاك سنحاول اعتماد منهجية بسيطة في الاجابة على الجملة المكررة، من سياسيين او غيرهم، الخاصة بـ"غياب الارادة السياسية" خلال فترة الترويكا، منهجية لا يحتملها منهج
التضليل، وهي ببساطة عرض الوقائع والمعطيات كما هي حول العمليات الامنية والايقافات والابحاث الخاصة بالموقوفين، تحديدا في العلاقة بكتيبة عقبة بن نافع منذ بدء الحديث عنها.
سنطرح هنا ثلاثة اسئلة مباشرة لاختبار اطروحة "غياب الارادة السياسية" في مقاومة الارهاب في فترة تولي الترويكا المؤسسات السيادية الثلاثة اي من منتصف ديسمبر 2012 الى نهاية جانفي 2014:
أولا، هل توقفت العمليات الامنية الناجحة ضد الارهاب عموما وكتيبة عقبة والمناصرين لها قبل قدوم الترويكا واستؤنفت بمجرد خروجها؟
ثانيا، هل ان الايقافات الاهم التي ادت لتحصيل معلومات اساسية حول كتيبة عقبة تمت قبل الترويكا
وبعدها ولم تتم خلالها؟
ثالثا، هل كان هناك تعطيل لقانون محافحة الارهاب ومن ثمة فراغ قانوني متعمد في فترة الترويكا يحرم الامن والقضاء من ملاحقة الارهابيين؟
رابعا، هل انضمت العناصر الاساسية التونسية في الكتيبة للتيار "السلفي الجهادي" خلال فترة الترويكا؟
للاجابة على السؤال الاول استعرض هنا ببساطة حصيلة العمليات الناجحة عموما وخاصة منها التي أدت لتصفية واعتقال قيادات ارهابية خاصة.
لم يكن كمين "سيدي عيش" اول عملية امنية ناجحة بعد الثورة. يجب ان التأكيد هنا على أنه رغم الاخفاقات والشهداء فإن النجاحات العسكرية والامنية في تصفية وتفكيك شبكات الارهاب تواصلت منذ الثورة بمعزل عن تغير الحكومات. من ذلك مواجهات الروحية في ماي 2011 التي اسفرت عن القبض على عناصر ارهابية والكشف عن وثائق تؤكد نوايا استهداف مواقع سياحية ومواجهات وادي الزاوي في معتمدية بئر علي بن خليفة في فيفري 2012 بعد استرابة مواطنين في وضع إحدى السيارات، وتصفية عنصرين واكتشاف شبكة من مهربي السلاح الى الاراضي التونسية. وكشف مخازن اسلحة هامة في مدنين والمنيهلة بين شهري جانفي وفيفري 2013. واحباط العملية الانتحارية في المنستير في أكتوبر 2013.
وكمين "سيدي يعيش" ليس اول كمين ناجح ينتهي باعتقال او تصفية قيادات ارهابية في تونس. منها عملية الوردية في 4 اوت 2013 التي تم فيها الكشف عن مخبأ ارهابيين وايقاف احد اهم عناصر خلية الاغتيالات السياسية في الجناح العسكري لتنظيم أنصار الشريعة اي عزالدين عبد اللاوي. هذه العملية ساهمت في الكشف بشكل اوضح عن الجناح العسكري من خلال اعترافات العناصر الموقوفة. وهذا ما ادى بعد ايام قليلة الى عملية السيجومي في العاصمة في 9 اوت 2013، تم فيها ايقاف اهم عناصر الجناح العسكري للتنظيم اي محمد العوادي المعروف بـ"الطويل" وتصفية احد اهم مساعديه عادل السعيدي. ايضا عملية 17 اكتوبر 2013 في قبلاط والتي اسفرت عن تصفية تسعة عناصر ارهابية من بينها لطفي الزين احد اهم عناصر خلية الاغتيالات وحجز كمية هامة من المواد المستعملة في اعداد التفجيرات. العمليات التي تمت بين 23 و24 اكتوبر 2013، والتي اسفرت عن تصفية واعتقال عنصار قيادية منشقة عن ارهابيي الشعانبي وحجز شاحنات مفخخة، ما ادى على الارجح لاحباط عملية انتحارية ضخمة ضد مقر اقليم الحرس الوطني في سيدي بوزيد. القضاء في فيفري 2014 بين عمليتي رواد وحي النسيم في اريانة على عناصر ارهابية مختبئة قرب العاصمة، من بينهم اخطر عناصر خلية الاغتيالات السياسية كمال القضقاضي. اردت استعراض هذه التفاصيل للتأكيد على ان الاجهزة الامنية والعسكرية كانت في حرب متواصلة ضد الارهاب بما يعني ان الارادة السياسية لم تبدأ الان وكانت دائما متواجدة عبر مختلف هذه الحكومات بعد الثورة بما في ذلك خلال حكم الترويكا مثلما كانت هناك خسائر خلالها جميعا. المشكل كان دائما في التجهيزات والخبرة العملياتية الميدانية الخاصة بمواجهة هذا النوع من المجموعات (counter-terrorism tactics) التي لا يمكن اكتسابها الا بالتدرب مع اجهزة دول صديقة والعمل الحربي الميداني.
للاجابة على السؤال الثاني سنحاول التعرف على مؤشرات العمل الاستعلاماتي عن الكتيبة عبر الاختراقات والايقافات والاعترافات، هل هي جديدة وطارئة ام ناتجة عن مجهود امني يرجع لحكومات سابقة بما في ذلك مرحلة الترويكا. هنا يجب التأكيد على أن اول قائمة تم اعلانها عن العناصر المنضوية في الكتيبة كانت في ندوة صحفية لوزارة الداخلية في ماي 2013 خلال حكومة الترويكا، وبقيت القائمة عموما دقيقة منذ ذلك الحين (باستثاء الخلط في كنية عنصرين او ثلاثة). لم يكن التوصل اليها مصادفة بل نتيجة لعمل استعلاماتي ناجح، بما في ذلك نجاح اعتقال واعترافات احد اولى العناصر المهمة في الكتيبة في القصرين بداية ماي/ أيار 2013 ويتعلق الامر بأحمد المباركي.
في الحقيقة اهم المعلومات فيما يخص المجموعة ناتجة عن اعترافات عدد من الموقوفين والتي توصلت اليها الابحاث وتم عرضها في محاكمة 77 متهما (اغلبهم في حالة فرار) في قضية ذبح جنود من الجيش الوطني اخر جويلية 2013. المحاكمة التي تمت في شهر ديسمبر 2014 نشرت عددا من الصحف التونسية في ذات الشهر وشهر جانفي/ كانون ثاني 2015 الاعترافات التي وردت في الابحاث الخاصة بها.
بعض من أهم المتهمين الموقوفين والذين قدموا وصفا تفصيليا في اعترافاتهم لكتيبة عقبة تم اعتقالهم خلال مرحلة الترويكا. مثلا اضافة الى أحمد المباركي في بداية ماي 2013، من اهم الاعترافات والمعلومات عن الكتيبة وردت عن محمد الحبيب العمري الموقوف في 7 أوت/ حزيران 2013، وفريد البرهومي الموقوف في 21 جانفي/ كانون ثاني 2014 (اسبوع قبل نهاية عهدة اخر حكومة للترويكا).
للاجابة على السؤال الثالث والادعاء ان البلاد بقيت في فراغ تشريعي فيما يخص مقاومة الارهاب في السنوات الاخيرة، فقد أقر وزير العدل الحالي محمد صالح بن عيسى اكثر من مرة على عدم وجود فراغ تشريعي في ما يتعلّق بالقضايا الارهابية، باعتبار أنّ جميع الحالات في هذه القضايا تتم وفق قانون عدد 75 لسنة 2003 المتعلق بدعم المجهود الدولي لمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال. الطريف أن عبادة الكافي (محامي عائلة بن علي سابقا) ونائب عن حزب نداء تونس في البرلمان صرح في احد الاذاعات هذا الاسبوع: "من قال ان تم ايقاف التعامل بقانون الارهاب لسنة 2003". للتذكير جوهر الحملة الانتخابية لحزب نداء تونس كان عملية التضليل الشاملة حول ان الدولة خاصة زمن الترويكا لم تكن تقاوم الارهاب، وانه لا يوجد قانون مكافحة الارهاب والترويكا تعطل اصدار القانون الجديد. في حين لم يتم ابدا تعليق القانون القديم في انتظار اصدار الجديد وكل الايقافات التي تمت كانت ضمن القانون القديم.
أخيرا للاجابة على السؤال الرابع فإن اهم العناصر التونسية في كتيبة عقبة بن نافع لم تنضم للتيار "السلفي الجهادي" ومن ثم للارهاب خلال مرحلة الترويكا. مثلا اخطر العناصر التونسية والذي يلعب دورا قياديا في الكتيبة مراد الغرسلي (ابو براءة) سبق له أن حوكم في قضية متعلقة بالارهاب سنة 2008. وحوكم في ذات القضية نفس السنة محمد المبروكي المورط في ذبح الجنود في الشعانبي اخر جويلية 2013. وصابر بوعقي ويعقوب دخيلي وقابيل القحلوزي والذي ورد في الشهادات والابحاث "أنهم من يعملون على استقطاب الاخوة للفكر السلفي وتجنيدهم للالتحاق بالجماعة المرابطة" جميعهم تورط في قضايا ارهاب قبل الثورة. وهم امثلة حية على ما ورثته الثورة من استتباعات لسنوات من القمع والتجهيل والتضييق على الحريات الدينية خلقت اجواء مناسبة للتطرف. وللاسف يريد البعض العودة الى ذات السياسات رغم انها السبب الرئيسي للبلاء الذي نعاني استتباعاته الان.
ما صرح به الارهابي التونسي ابو بكر الحكيم قاتل الشهيد محمد البراهمي في حوار اجرته معه "دابق" المجلة الناطقة بالانجليزية باسم "داعش" في عددها الاخير حول تأثير سياسات بن علي في توسيع دائرة الارهاب والمساهمة في خلق حاضنة له ليست خاطئة. اذ يقول الاخير: "الطّاغية المغفّلُ بن علي لم يترك لأحدٍ الفرصةَ لممارسة شرائع الدّين حتّى وإن كانت الممارسة على منهج خاطئ فلقد أقامَ على جميعهم حربا ووضعهم في السّجن، وهذا كانَ جيّدا بالنّسبة للإخوة لنشرِ العقيدة السّليمة والمنهجِ القويم في تونس". أحمد الرويسي (أبو زكرياء) احد اهم العناصر التي ساهمت في الاغتيالات والشخص المشبوه لعدة اعتبارات انضم للتيار في سجون بن علي.
في سياق كل الوقائع اعلاه تدعم شهادة الارهابي ابو بكر الحكيم ايضا حول ان عمليات الاغتيال السياسي التي قاموا بها خلال مرحلة الترويكا كانت تهدف للفوضى و"التوحش"، وانه تعرض للحصار مباشرة بعد اغتياله الشهيد البراهمي بما اجبره على المغادرة، تدعم كلها بديهة ان الترويكا كانت هدفا للارهاب وانها قاومته وحاصرته وان النجاحات الامنية الحالية ليست معزولة، وانها مرتبطة بتراكمات لنجاحات سابقة ساهمت فيها الحكومات السابقة بما في ذلك الترويكا.