يحفر نهر التاريخ الدافق عميقًا في أرض وإنسان المنطقة العربية منذ اشتعال الشرارة الأولى للثورة العربية الكبرى الراهنة التي غطت المجال العربي كله وأشغلت العالم كله، حتى يبدو لنا أن كل شيء يتغير، بما في ذلك أفكارنا ومشاعرنا التي تهتز كل يوم على وقع ارتدادات هذا الزلزال العنيف الذي يخلخل كل شيء، ويبعثر في كل لحظة ما في نفوسنا كما يبعثر ما في أرضنا، فلم نعد اليوم نحن الذين كنا حين سقوط كل من بن علي ومبارك، فمع كل دفقة من هذا النهر الكاسح، ومع كل هزة من هذا الزلزال المفتوح، يتولد يقين جديد غامض على أنقاض يقين سابق قد سحقته دفقات التاريخ الهائلة، الساخرة من يقينياتنا الساذجة، والجادّة في قلب وجه العالم، وفتح باب جديد للتدافع الإنساني تتغير فيه مواقع الأمم والشعوب وحتى أسماؤها وصفاتها.
يتداعى بنيان اليقينيات السابقة، فتتصدع أركان دولة ما بعد الاستعمار العربية، وتسقط أساطيرها التي شيدت منها صرح مقولاتها، حتى يستحيل ما كان راسخًا إلى وهم أو ما يشبه الوهم، بينما يلف الغموض تلك التي لا تزال تمسك بأذيال اليقينيات المتداعية، كما يلف المنطقة كلها، بل وكما يلف العالم كله.
في ليبيا والعراق وسوريا واليمن، تنهار الدولة بأشكال مختلفة، ويبدو الانهيار السوري/
العراقي أكثرها دلالة مع التغير الحاصل في حدود الدولة الوطنية التي اصطنعت هويتها على الحدود التي رسمها المستعمر، وما لا يقل عن ذلك دلالة، وإثارة، أن هذا الانهيار تحصل على يد قوى هامشية ومنبوذة كانت منعزلة في صحاري العراق ولا تحظى بأي قدر من الاعتراف من قبل عناصر التراتبية في النظام الدولي، ابتداء من الوحدة السياسية الدنيا، عبورًا بالمنظومة الإقليمية، ومع ذلك فإن "داعش"، تلك الهامشية والمنبوذة، تعيد تشكيل المشهد التاريخي المتشكل منذ نهاية حقبة الاستعمار، وتجعل من نفسها تحديًا مركزيًا وثقيلاً للمنطقة والعالم، في إنجاز تاريخي مذهل بصرف النظر عن قدرتها على الاحتفاظ بالمشهد الذي شكلته، أو بذاتها التي طورتها، ومع الأخذ بعين الاعتبار دائمًا بقية العوامل التي ساهمت في إحداث التغيير الكبير الذي أتاح لـ"داعش" التقاط اللحظة التاريخية، وإحداث الفارق على مستوى التاريخ والوعي.
في مصر، يتخذ الانهيار حتى اللحظة شكل تحطم أيقونات الدولة، وتعري البنى التي تنسج منها الدولة هويتها ومقولتها، بما يستغرق كل أركانها، لكن الجيش والقضاء هو أهم ما يتداعى فيها، على النحو الذي يضرب في صورتها كدولة، بينما تستمر الحركة الثورية وتكشف عن قدرة عالية على الصمود، ويتكثف فشل قيادة الدولة وافتضاحها، وتتصاعد هزيمتها في سيناء، بما يجعل الاحتمالات مفتوحة على إمكانات انهيار أكبر، تتفكك فيها الدولة، أو تسقط بالكلية، أو تنهار في سيناء، بما يؤشر على احتمالات زحف الفوضى إلى حدود دولة العدو، وتطويق هذه الدولة بالفوضى العارمة والمستعصية على التنبؤ بما تحمل في أحشائها.
وإذا كان الأمر في
سوريا بات معروفًا، وكانت لبنان دائمًا هي دولة الاستقرار الهش، الذي تبقى احتمالات تداعيه قائمة بحكم الاحتقان الداخلي والتداخل مع الحالة السورية والتوتر القائم مع دولة العدو، فإن الأردن المتدخل بقوة في الحرب على "داعش"، والموجود في عين العاصفة العراقية/ السورية، لن يكون أحسن حالاً كنموذج لدولة ما بعد الاستعمار، الأمر الذي يبقيه رهينة الانفجارات الإقليمية، والتطورات المفاجئة.
هذا الانهيار يدلل على حقيقة الأزمة التي عانتها هذه الأمة من مشروع الدولة الوطنية الحديثة، التي فشلت في كل وعودها أيًا كان خطاب هذه الدولة وأيديولوجيتها المدعاة، فإنها في النهاية فشلت على مستوى وعودها الداخلية وعلى مستوى تحدياتها الخارجية، حتى أنها فشلت في أن تحافظ على نفسها كدولة، وبذلك كان فشل هذه الدولة السبب الرئيسي في انفجار الجماهير، واستمرار حركة التغيير العاتية على مستوى البشر والجغرافيا، والتي وإن كانت لا تزال غامضة ومربكة، فإنها بطبيعتها تحمل ممكنات التصحيح الذاتي بالقدر الذي تبدو فيه مخيفة ومدمرة.
أما دول الخليج، والتي هي أكثر ادعاء للاستقرار، فإنها هذه المرة وللمفارقة التاريخية، وبعد أن كانت حبيسة مخاوفها الأزلية من دول الجوار الكبيرة؛ تكشف الآن عن عجزها إزاء ما هو دون ذلك من جماعات تملأ الفراغ الناجم عن انهيار الدولة في محيط الجزيرة العربية.
حينما تنهار الدولة تنفتح الممكنات لبدائل الدولة، وفي هذه الحالة يتصدر المشهد فقط هؤلاء الذين يملكون مشروعًا محمولاً على إرادة صلبة، فيتمددون في الفراغ، ويملؤونه على صورتهم، ثم يتسيدونه، وهذا الذي يفسر هيمنة الحركات والميليشيات والجماعات التي تنضوي في خطة المشروع الإيراني على المشهد العربي في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وكيف أن "
حزب الله" يدير عددًا من الملفات الإقليمية الهامة في هذه الدول، بينما تحل الميليشيات الشيعية محل الدولة في العراق من خلال "الحشد الشعبي"، إضافة إلى قتالها في سوريا وفق الخطة الإيرانية، وأما حكاية الحوثيين، تلك الجماعة الهامشية المعزولة، فباتت معروفة وهي تحكم الآن صنعاء!
وإذا كان تمدد الجماعات الشيعية على حساب الدولة العربية، يرتكز إلى وجود دولة إقليمية تمثل قاعدة للمشروع هي إيران، إضافة إلى ما يمكن قوله عن التداخلات والعوامل المختلفة وموازين القوى المتبدلة، فإن تمدد "القاعدة" في اليمن و"داعش" في سوريا والعراق وسيناء ناجم عن إرادة تملك مشروعا يتجاوز سقف الدولة نفسها، إذ لا يمكن التمدد في فراغ الدولة الإقليمي، والتقاط اللحظة التاريخية التي تكشف فيها الدولة عن عجزها ثم تبدأ بالانهيار، إذا كانت هذه الدولة هي سقف حركة الفعل، وهذا هو نفسه الذي يفسر سبب تخلف حركات تاريخية كبرى، بقيت أسيرة إلى تجربتها التاريخية، وإلى صورة الدولة السالفة، وإلى مجال حركتها الذي قيدته بطلب الاعتراف من الدولة والمنظومة الإقليمية والنظام الدولي.
ولكن ولأن الدفق لا يزال مستمرًا وبقوة، والتحولات لم تتوقف، ولأن ملء الفراغ القائم يبقى طارئًا ولا يخلو من الشذوذ، فإن إمكانيات التغيير والتحول تبقى قائمة أيضًا، شرط إدراك اللحظة التاريخية، وامتلاك الإرادة التي تناسبها وتجيب على شروطها وتحدياتها.