من اللافت جدًا، أن رد الفعل الغريزي، لدى جزء واسع من جمهور
حزب الله، بعد اغتيال العدو الصهيوني، لمجموعة من كوادر حزب الله والحرس الثوري الإيراني في الجولان يوم الأحد الماضي؛ كان هجومًا فائضًا بالمزاودة على حماس، أو نقدًا عنيفًا لجمهور الحركة، وكأن حماس هي التي قامت بعملية الاغتيال هذه!
إلا أن هذا الموقف بدا فاقدًا لقدرته على المفاجأة، بل كان متوقعًا تمامًا، بالنّظر إلى السجالات الطويلة بين الجمهورين منذ بدايات الثورة السورية، حينما تصرفت حماس بصورة متمايزة عن المحور الإيراني، كما ظهر جمهور الحركة مختلفًا تمامًا عن جمهور المحور الإيراني، وتحديدًا يمكن القول إن جمهور حماس يتمتع بذات مستقلة، وعصية على التماهي مع ذات أخرى أو الذوبان فيها.
لم تكن المشكلة بين الجمهورين ناشئة عن الاختلاف في الموقف من الثورة السورية، مع أهمية هذا الحدث الكبير في كونه كاشفًا للمشكلة لا مؤسسًا لها، ولكن الاختلاف كان موجودًا أساسًا، وتحديدًا فإن هذا الاختلاف هو جوهر المشكلة، بمعنى أن المشكلة لدى جمهور حزب الله في عجزه عن تصور حركة مقاومة تتمتع بذات مختلفة ومستقلة، وتؤسس لشرعية مقاومة خارج السياق الخاص بحزب الله، أو خارج المشروع الخاص بإيران، والمشكلة هنا أن هذه الذات المقاومة والمستقلة تشوش على وعي جمهور حزب الله الذي يرى فيه الدالّ الوحيد على المقاومة، أو التجسيد الوحيد للمقاومة، أو المصدر الوحيد للمقاومة، أو هو المقاومة نفسها، وكل فعل مقاوم من كيان آخر إنما هو فيض من حزب الله إلى خارجه، في حالة مغالية من التقديس تشبه القول بأن الرجل الذي يصلي هو الصلاة نفسها، وأن كل أفعاله صلاة حتى وإن زنا وإن سرق، وأنه الوحيد الذي يملك الحق في تصحيح صلاة الآخرين!
مشكلة حماس هنا بالنسبة لجمهور حزب الله، أنها وحينما تتمايز في موقف ما عن الحزب، أو يعبّر جمهورها بصورة مختلفة تمامًا حيال ذلك الموقف عن جمهور الحزب؛ تشكك من حيث الأمر الواقع، أي بلسان الحال، في صحة مواقف الحزب الذي يُعتبر في وعي جمهوره معيارًا وحيدًا للصواب والخطأ، ويُنظر إلى كل أفعاله على أنها مقاومة، فوجود حركة مقاومة تبدو مختلفة عن الحزب يربك هذا الوعي المؤسَّسِ على النظر إلى حزب الله كأصل لكل فعل مقاومة، فعلى حماس في وعي هذا الجمهور، أن تعتقد في ذاتها وفي حزب الله ما يعتقده هذا الجمهور، أي أن ترى حزب الله وجودًا وتسليحًا وتدريبًا أصلاً لها كحركة مقاومة!
ومن هنا يأتي التذكير الدائم بحزب الله حينما تخوض حماس حروبها، فيصير مصدر السلاح أهم من المقاتل به، وشكر الداعمين أهم من الصمود وعملية المقاومة ذاتها! ومن هنا أيضًا يأتي اتهامها بترك المقاومة حتى وهي تخوض حربًا شرسة كما حصل في حرب "حجارة السجيل" في العام 2012، وكذلك الادعاء بأن كل ما تملكه حماس من أداء أو سلاح أو تخطيط مرجعه المحور الإيراني بما فيه حزب الله، ونفي القدرات الذاتية للحركة، ونفي أي مصدر آخر لهذه القدرات، كما حصل في حرب "العصف المأكول" في صيف العام الماضي، حتى لو كان دعم المحور الإيراني قد توقف قبل هذه الحرب بسنتين على الأقل، ومن هنا أيضًا يأتي اتهامها بالخيانة والإرهاب، وتبرير إجراءات عبد الفتاح السيسي ضدها كما في مقالة إيلي شلهوب المنشورة في صحيفة الأخبار
اللبنانية الموالية للحزب يوم 9 كانون الثاني 2015.
فالهجوم الغريزي على جمهور حماس بعد عملية الاغتيال التي نفذها العدو الصهيوني، يستبطن إرادة انتقامية من هذه الحركة التي تشوش على هذا الوعي، ومن جمهورها الذي "لا يتورع" عن إظهار الاختلاف مع "مطلق المقاومة: حزب الله"، فلم تكن عملية الاغتيال فرصة وحسب لتعزيز صورة حزب الله كحزب مقاوم، ولكنها كانت أيضًا فرصة لإثبات صحة موقفه في
سوريا، بدلالة أن العدو استهدف كوادره على الأرض السورية! ومن هنا كان الهجوم على جمهور حماس الذي يتبنى موقفًا مخالفًا بخصوص تدخل حزب الله في سوريا، وهذا الهجوم يندرج في سياق حالة تبشيرية بالحزب كمجسد مطلق للمقاومة، تفترض وجوب النظر إلى الحزب ومواقفه وقضاياه بنفس العين المقدِّسة التي ينظر بها جمهور الحزب إليه.
قد لا يبدو هذا النقد الموجه لجمهور الحزب مناسبًا في هذه الساعة التي يستهدف فيها الحزبَ عدوُنا المشترك، لكن هنا مجددًا تتضح الإشكالية التي تعبر عن نفسها في حالة فصام طبيعية ما دام التقديس هو أصل التصورات، فقد كان مقبولاً على هذا الجمهور اتهام حماس بترك المقاومة، أو بالخيانة، حتى وهي تقاوم في مشهد جلي لا يعتريه أي التباس.
بل وحتى في موضوع الرد على جرائم الصهاينة، فقد كان امتناع حماس عن الرد في بعض الأوقات، أو تهديدها بالرد دون تنفيذ سريع، أو التزامها بالتهدئة مع الصهاينة؛ محل تندر وتشكيك واتهام من طرف جزء واسع من جمهور الحزب، ومن طرف منابر إعلامية معروفة محسوبة على الحزب، وشخصيات أتيحت لها تلك المنابر، بينما يُسْفِر هذا الجمهور عن عدوانية مغالية حين توجيه ذات الانتقادات للحزب، ذلك لأنه في وعي جمهوره هو المقاومة ذاتها، بما يسمح لهذا الجمهور بالاعتداء والتطاول على حركة مقاومة خاضت ثلاث حروب منذ العام العام 2008 حتى الآن.
شخصيًا؛ لا أرى مشكلة في امتناع حركة مقاومة، بما في ذلك حزب الله، عن الرد على استهداف العدو لها، ولا أرى المقاومة عملية قتال متواصل، أو استجابة قتالية دائمة لاستفزاز العدو، ولا أرى قضية الرد هذه سببًا للمزاودة، أو لاعتبار أي حركة مقاومة قد صارت خارج حالة المقاومة للعدو، إلا أن انتهاج جمهور الحزب لخط من الخليط الفجّ بين البراغماتية في تبرير كل سياسات الحزب وتقديمها على أنها مقاومة، وبين الديماغوجيا في توثين الحزب والتبشير به كمطلق مقاومة؛ سيستدعي بالضرورة مواقف مقابلة مستفزة لجمهور الحزب.
ومن ناحية ثانية، فإن الصراع داخل سوريا، بمكوناته العربية والإسلامية، كما أرى، صراع داخل الأمة، مهما كان رأيي في أطراف هذا الصراع، بينما الصراع مع العدو الصهيوني هو صراع الأمة كلها ضد عدو خارجي، وهذا الموقف على النقيض من دعاية الحزب وجمهوره التي تجعل كل المختلفين معه في الموضوع السوري وجهًا آخر للعدو الصهيوني، لكن وبصرف النظر عن ذلك فعلى جمهور الحزب أن يفهم بأن دعايته في الترويج لدور حزب الله داخل سوريا لن تكون مقنعة للجميع، وأن هذا الدور بالضرورة سيجعل صورة حزب الله كحركة مقاومة محل التباس، لأن من طبائع الأشياء أن يجد جمهور الحزب في هذا العالم من لا يشاركه ذات النظرة للحزب، ومن ينفر من هذه النزعة التبشيرية في الدعوة لعبادة الحزب!