عقب ثلاث سنوات عجاف من "
الثورة السورية"، بات المرض بالطائفية وباءا متفشيا في الجسد السوري سرعان ما انتقلت عدواه لتطال دول الجوار القريب والبعيد، فقد هيمن المنظور الهوياتي الطائفي على خطاب معظم القوى والفعاليات والحركات والتوجهات محليا وإقليميا ودوليا، في تصوير طبيعة الصراع في
سوريا، وأصبحت "
الطائفية" إلى جانب "الإرهاب" كلمة مفتاحية أساسية في حرف طبائع الصراع وأداة فعالة تستخدمها الأنظمة والجماعات لتحقبق أهداف إيديولوجية وسياسية.
محليا عمل نظام الأسد منذ البداية على ترويج خطاب التخويف الطائفي لتحويل مسار الصراع من ثورة ضد فساد واستبداد النظام إلى صراع طائفي بين الأكثرية السنية والأقليات المسيحية والعلوية والدرزية، لجلب الدعم الإسلامي الشيعي، كما استثمرت القوى السلفية الجهادية على اختلاف مسمياتها موضوعة الطائفية في توصيف نزاعها وطبيعة حربها ضد النظام لجلب الدعم والتأييد الإسلامي السني.
إقليميا استثمرت القوى الإقليمية خطاب "الطائفية" لتثبيت شرعيتها المتآكلة بفعل "ربيع الثورات العربية"، وللمحافظة على وجودها وبقائها في السلطة وتمديد نفوذها، فالثورات العربية التي عصفت بمحاور ما قبل الثورة التي اختزلت بمحوري دول "الاعتدال العربي" ومحور "الممانعة والمقاومة" عملت على إعادة بناء المحاور على أساس "الطائفية" لتحل مكان الأسس "الجيوسياسية".
دوليا عززت الدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الروسي خطاب الثقافة الطائفية فروسيا أعلنت مبكرا على لسان وزير خارجيتها بأنها لا تريد حكومة إسلامية سنية الطابع في سوريا، أما الولايات المتحدةالأمريكية والدول الغربية فقد شهدت عودة إلى السياسات الاستعمارية التي تمثلت بدعم وإسناد خطاب "الطائفية" تحت ذريعة حماية الأقليات، وعادت بقوة التنظيرات الاستشراقية والثقافوية بالنظر إلى المنطقة من خلال المقاربة "الطوائفية" واستراتيجيات "الفوضى الخلاقة" لتفتيت المنطقة بهدف السيطرة والهيمنة والاخضاع .
مفردات الخطاب الطائفي على الجانب السني تتلخص بنعت نظام الأسد وحلفائه في إيران وحزب الله اللبناني والمليشيات العراقية بالشيعية، والنصيرية، والرافضة، والمجوس، والصفويون، وحزب اللات، وحزب الشيطان، وعلى الجانب الآخر الشيعي مفردات الخطاب تصف التحالف المقابل بالسني، والناصبي، والتكفيري، والأموي، والوهابي، وهي جملة من النعوت والأوصاف التاريخية باتت تستعمل بكثافة في تصوير وتمثيل الهويات كأعداء، واعتبارهم كفارا يهدفون إلى تحريف الإسلام عن أصوله النقية المتخيلة، وبهذا فإن
القاعدة في حروب الهوية تقوم على أن التقتيل هو جزاء التكفير.
يبدو أن خطاب "الطائفية" الذي عصف بتنظيم "القاعدة" في سوريا انتقلت عدواه إلى كافة الفصائل السنية السلفية المعارضة، كما عصفت بالقوى والفعاليات والجماعات الشيعية، فجوهر الخلاف الذي قاد إلى تمرد تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" بزعامة البغدادي على تنظيم "قاعدة الجهاد" المركزي بقيادة الظواهري هو المسألة "الطائفية" فقد أصر البغدادي على منطق الحروب الجديدة التي تقوم على سياسات الهوية ومنطقها الطائفي المتنامي بين السنة والشيعة، وفرض السيطرة والنفوذ على الأرض بالقوة المسلحة، أما الظواهري الذي لا يزال يتمسك بتكتيكات واستراتيجيات حرب الأنصار، فقد أصدر بيانا يعتبر دليلا ومنهاجا لعمل القاعدة بعنوان "توجيهات عامة للعمل الجهادي"، مشددا على على أن: "العمل العسكري (للقاعدة) يستهدف أولا رأس الكفر العالمي أمريكا وحليفتها إسرائيل، وثانيًا حلفائها المحليين الحاكمين لبلادنا"، ومؤكدا على: "عدم مقاتلة الفرق المنحرفة مثل الروافض والإسماعيلية والقاديانية والصوفية المنحرفة ما لم تقاتل أهل السنة، وإذا قاتلتهم فيقتصر الرد على الجهات المقاتلة منها، مع بيان أننا ندافع عن أنفسنا".
أبو محمد الجولاني زعيم "جبهة النصرة" الذي أعلن بيعته للظواهري في 10 نيسان/ابريل 2013، وبات ممثلا للقاعدة في بلاد الشام، قدم رؤية طائفية للصراع في مناسبات عديدة أخرها في مقابلته مع قناة "الجزيرة" بتاريخ 18كانون الأول/ ديسمبر2013، التي قال فيها: إن كل الانظمة السنية مهددة بالخطر خصوصاً بعد التحالف الأميركي الإيراني والتخلي عنهم كحلفاء مقابل الحليف الجدي، وهناك صراع في المنطقة بين قوى اليهود وبين القوى الصفوية، الأمريكيون متفقون سراً ومنذ زمن مع إيران بدليل أنهم سلموهم العراق، وبحسب توقعات الجولاني الاستراتجوية الغرائبية: "عندما يشكل أهل السنة خطراً لكي يشكلوا نفوذ لهم في المنطقة يتحالف
حزب الله ومن يمثله مع الغرب ضد السنة، والتقارب الأميركي الإيراني كان متوقعاً لنا وكان على حساب الخليج، إن المناطق الشرقية في السعودية قد تقتطع لصالح النظام الصفوي إن هو أراد".
وفي المقابل السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله في خطابه بمناسبة "يوم القدس" في آب/أغسطس 2013، أكد على أن "حزب الله" لا يقاتل في سوريا في صراع طائفي، بل يحارب المشروع التكفيري السني المتطرف الذي له علاقات مع تنظيم "القاعدة" الذي "تموله وتدعمه أمريكا"، وبحسب تصورات نصر الله الاستراتجوية الغرائبية أيضا، فإن النظام السوري يواجه "محوراً تقوده الولايات المتحدة التي من المؤكد أنها صانعة القرار فيه"، بل ذهب إلى ترويج ثيمة "المؤامرة" الأثيرة لدى الأسد، مؤكدا على طبيعتها الكونيّة التي يشترك فيها كل من البريطانيين والفرنسيين والإيطاليين والألمان والعرب والأتراك لصالح الأمريكان، وبحسب نصر الله العالم بأصول المؤامرة: "نحن نعرف أيضاً أن هذا المحور يحظى بدعم ضمني من إسرائيل نظراً لأن المشروع الأمريكي في المنطقة إسرائيلي بامتياز".
المرض بوباء الطائفية طال الجميع فنظرة سريعة لتصريحات قادة "الجيش السوري الحر" والناطقين باسمه تكشف عن تواتر الخطاب الطائفي، والفصائل الإسلامية الأقوى المنضوية في إطار "الجبهة الإسلامية" تصف صراعها بالطائفي فزعيم "أحرار الشام" حسان عبود (أبو عبدالله الحموي) صرح في حزيران/يونيو 2013، في مقابلة على قناة "الجزيرة" بأن ما يحدث في سوريا هو أن الدولة في سوريا نصيرية شيعية عملت على ىتثبيت حكمها من خلال التمييز ضد السُّنة. وفي تموز/يوليو 2013، قدم زهران علوش وهو زعيم "جيش الإسلام" رؤية طائفية لطبائع الصراع ومآلاته بالقول: "سوف يغسل مجاهدو الشام أقذار الرافضة والرافضة من الشام، سوف يغسلونها إلى الأبد، بإذن الله، إلى أن يطهروا بلاد الشام من أقذار المجوس الذين حاربوا دين الله .. ونرحب بالمجاهدين من جميع أنحاء العالم ليكونوا عوناً ودعماً لنا، للقتال في صفوفنا، صفوف السنة. سنة رسول الله، الذي رفع راية التوحيد عالية، إلى أن يتم إذلال المجوس والقضاء عليهم، والذين هم أعداء الله".
لسنا بحاجة لسرد الخطابات الطائفية المكثفة داخل الفصائل المنخرطة في القتال المباشر على الساحة السورية بشقيها السني والشيعي، فقد طال المرض بوباء "الطائفية" قوى وفعاليات وتوجهات كانت لا تزال حتى وقت قريب تحتفظ بسلامتها العقلية وتركن إلى صلابتها الأخلاقية، وقد أن الآوان للتوقف عن الانخراط في مشروع "الثورة المضادة" المسند محليا وإقليميا ودوليا لتحقيق أهداف استراتيجية مختلفة تقوم على ترسيخ منظومات الفساد والاستبداد وإعادة بناء الدول السلطوية الدكتاتورية القمعية، وهي شريك لا يزال مؤتمنا على تثبيت دعائم وأركان منظومة الهيمنة والسيطرة الإمبريالية الدولية.