هناك عالم عربي جديد أخذ يتشكل مع اشتعال شرارة الانتفاضات "الثورية" التي اجتاحت دول عربية عديدة مطلع 2011م، وهناك نظام عربي قديم بدأ يحتضر وهو يناضل حتى الرمق الأخير لإ عادة بناء الأنظمة "السلطوية"، ولعل الاختلاف في فهم طبيعة "التغيرات" الجارية في العالم العربي تكشف عن خصوصية "الحدث العربي"، فقد زاوجت الفعاليات الثورية العربية منذ البداية بين نهجين مختلفين وهما "الثورة والإصلاح"، فالحركات اللامؤسساتية الشبابية تبنت مطالب ذات طبيعة ثورية أما الحركات المؤسساتية وفي مقدمتها الإسلامية فتمسكت بمطالب إصلاحية.
واجهت فعاليات قوى الثورة في العالم العربي معضلة حقيقية عبر محاولة الجمع بين فضائل النهج الثوري والنهج الإصلاحي، وتجنب رذائل النهجين، ولذلك التبست مسالك فهم وتفسير "الحدث"، وتكشّف الواقع عن ثورة تنشد إصلاح مؤسسات الأنظمة "السلطوية" السابقة دون الوقوع في سلبيات التطرف الثوري، والحفاظ على الأمل بإنجاز تغيرات جذرية حقيقية، إلا أن هذا النهج المزدوج كان يمكن أن ينجح في غياب قوى "الثورة المضادة" التي تتحصن في قلب المؤسسات الحيوية للدولة وتتمتع باسناد قوى دولية وإقليمية تخشى أن تتضرر مصالحها أو تخاف أن تطالها حمى
الثورات.
من عيوب الثورة الإصلاحية في أطوارها الانتقالية أنها لا تمتلك القدرة والفعالية للتأثير على قوى "الثورة المضادة" المتحصنة في أبنية الدولة التسلطية العميقة، التي تعمل من خلال رموزها في النظام التسلطي على إعادة التموضع لإفشال وتخريب الثورة، فعملية اختراق السلطة الإنتقالية من قبل محترفي السياسة أو رجال أعمال أو محرري وسائل الإعلام أو أعضاء الأجهزة الأمنية أو العسكرية أو رجال القانون وغيرهم، لا تتطلب جهدا كبيرا للتلاعب بالرأي العام تحت ذريعة حفظ النظام وتأمين الاستقرار.
العالم العربي يسعى إلى إعادة إنتاج السلطوية عبر البوابة المصرية، فالانقلاب على ثورة 25 يناير 2011 التي جاءت بالإسلاميين إلى الحكم وفق آليات ديمقراطية تمثل "إرادة الشعب" بانتخابات حرة نزيهة من البرلمان إلى الرئاسة مرورا بالدستور،كان يعي طبيعة "الثورة" الحقيقية التي تستهدف في وجدان الشعب المصري التخلص من أبنية الدولة الاستبدادية العميقة وآلتها القمعية العسكرية البوليسية الأمنية، واكسسواراتها الإيديولوجية السياسية والقانونية والإعلامية، ولذلك فقد تفتف عقل "الثورة المضادة" بقيادة السيسي الذي جمع الفرقاء الخاسرين محليا وإقليميا ودوليا عن صناعة "ثورة" ملونة تستند إلى دكتاتورية "شرعية الحشود" في 3 يونيو/ حزيران 2013، المسندة من قبل أجهزة الدولة القمعية والإيديولوجية العميقة تؤسس لعودة الدولة العسكرية الأمنية في 3 تموز/ يوليو 2013 بحجة إنقاذ الثورة والديمقراطية التي استولت عليها "الفاشية" الإسلامية، من خلال تبنى استراتيجية "الحرب على الإرهاب".
بالنسبة للأنظمة السلطوية العربية تبدو الثورات الديمقراطية العربية أشد وقعا وخطرا من هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، فإذا كانت الولايات المتحدة قد ميّزت بين الإسلام الجهادي والإسلام السياسي عقب "الحدث" وقصرت مفهوم "الإرهاب" على أعدائها من الجهاديين وممثلهم تنظيم "القاعدة"؛ فإن الأنظمة السلطوية العربية قد وسعت إدراكاتها العصابية الإرهابوية المتخيلة، فقد وسعت مفهوم "الإرهاب" ليطال حركات الإسلام السياسي وممثله الأبرز جماعة "
الإخوان المسلمون"، حيث قرر مجلس وزراء الانقلاب في مصر بتاريخ 25 كانون أول/ ديسمبر 2013 اعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية وتنظيمها تنظيمًا إرهابيًا.
تصنيف الجماعة باعتبارها إرهابية كان خطوة طبيعية لاستكمال خطتها الانقلابية التي تعاملت مع الجماعة منذ البداية على هذا الأساس، وكانت محكمة مصرية قضت في 23 أيلول/سبتمبر 2013 بحظر أنشطة جماعة الإخوان المسلمين وكافة المؤسسات المتفرعة عنها والتحفظ على جميع أموالها ومقارها.
تهمة الإرهاب تتدرج مع أجهزة الانقلاب في مصر لتشمل حركة حماس، فقد أصدرت محكمة القاهرة للأمور المستعجلة يوم الثلاثاء 4 آذار/ مارس 2014 قرارا بالتحفظ على مقرات حركة حماس وحظر انشطتها، استنادا إلى دعوى إلى أن حركة حماس تحولت من حركة مقاومة إلى .منظمة "إرهابية"، نظرا لارتباط الحركة بعلاقات مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر.
كارثة 11سبتمبر 2001 الأمريكية، أعيد اكتشافها عربيا عبر ثورات 2011، إذ تم إعادة النظر مرة أخرى في مفهوم "الإرهاب" وتوسيعة ليطال قوى وفعاليات معارضة للنهج السلطوي، ففي السعودية صدر قانون جديد "قانون الإرهاب" بتاريخ 31 كانون الثاني/ بناير 2014، ودخل حيز التنفيذ في 1 شباط/ فبراير 2004، وهو نسخة مشددة عن مسودة قانون الإرهاب لعام 2011،
وبحسب منظمة هيومن رايتس ووتش يسهل هذا القانون على الحكومة ملاحقة وسجن النشطاء السلميين.
وفي الأردن أحالت الحكومة الأردنية إلى مجلس النواب في 4 آذار/ مارس 2014 قانونا معدلا لقانون لمكافحة الإرهاب، أعادت فيه تعريف الإرهاب الوارد في القانون الأصلي رقم 55 لسنة 2006، كما وسعت فيه الحالات التي يجرمها القانون، وبموجب مشروع القانون المعدل اتسعت جرائم الإرهاب التي يشملها القانون بحيث ضمت "الالتحاق أو حتى محاولة الالتحاق بأي جماعة مسلحة أو تنظيمات إرهابية أو تجنيد أو محاولة تجنيد أشخاص للالتحاق بها وتدريبهم لهذه الغاية سواء داخل الأردن أو خارجه".
يبدو أن ربيع الثورات الديمقراطية العربية كان له وقع كارثة 11 سبتمير بالنسبة للأنظمة السلطوية، فقد أعاد "
الربيع العربي" تشكيل الأنظمة الوطنية والإقليمية عبر مدخل "الإرهاب" الذي أصبح جرى توسيعه ليشمل جماعات الإسلام السياسي بالإضافة للإسلام الجهادي، وبدت المنطقة منقسمة بين ثلاثة محاور، المحور التركي القطري المؤيد لجماعة "الإخوان المسلمين"؛ ومحور إيران المتحد مع الشيعة؛ ومحور المملكة العربية السعودية والملكيات المؤيدة للوضع الراهن، ساحة صراع إعادة إنتاج السلطوية مختبرها في مصر ومعركتها في سوريا، وفي هذا السياق يأتي سحب السعودية والإمارات والبحرين سفراءها من قطر بتاريخ 5 آذار/ مارس 2014 تحت ذريعة "المحافظة على أمن واستقرار دول مجلس التعاون الخليجي"، فبحسب منظومة الأمن القومي للملكيات العربية يمثل "الإخوان" و"إيران" خطرا وجوديا لا يمكن إدماجه ويجب استئصاله.
هل سينجح النظام السلطوي العربي في إعادة إنتاج نفسه والانبعاث من جديد، لا أعتقد ذلك فالعالم العربي بعد الثورات ليس هو ذات العالم القديم فهناك نظام ديمقراطي جديد يتشكل، السلطوية تحتضر وهو ما تشي به إجراءاتها العصابية القمعية، وتصور عالم عربي بدون إسلاميين تلك خرافة أشبه بعنقاء مغرب.