ظاهرة "أنصار الشريعة" .. من التكيّف إلى الكمون

مع بدء "الانتفاضات العربية" السلمية في تونس وانتقالها لمصر ثم ليبيا فاليمن وصولا إلى سوريا والبحرين، ودخول البقية الباقية من الدول العربية آفاق "الحراك الشعبي"، وعلى الرغم من  قطع مسارات سلمية الانتفاضات وعسكرتها لاحقا كما حصل في ليبيا وسوريا واليمن بطرائق مختلفة، فقد بشر خبراء ومحللون بهزيمة إيديولوجيا "تنظيم القاعدة" العنيفة وأفول برادايم "السلفية الجهادية" المتشدد، إلا أن السلفية الجهادية كان لها رأي مختلف فقد واجهت حالة "إعلان الوفاة" بظاهرة ميلاد "الأنصار".

وبعد الانتفاضات العربية التي أفضت إلى تحولات ميدانية عميقة تمثلت بزوال بعض الأنظمة "السلطوية" الديكتاتورية مؤقتا، والدخول في أفق اللعبة "الديمقراطية" التعددية، توصلت الاستراتيجية الجديدة للسلفية الجهادية وعقلها المدبر "القاعدة" إلى خلاصة أساسية تنص على ضرورة التكيّف مع التحولات البنيوية عبر الانتقال من "النخبوية" إلى "الشعبوية".

فتنظيم القاعدة بقيادته المركزية في باكستان وأفغانستان وفروعه المنتشرة في أرجاء العالم الإسلامي أدرك منذ بداية "الانتفاضات" العربية التغيرات الموضوعية والفائدة الحيوية للتحولات، من خلال تأييد هذه الانتفاضات وإسنادها والمشاركة في حراكاتها، حتى باتت راياتها "السوداء" لاحقا جزءا من المشهد العام، بل إن القاعدة ادعت بأن مناوشتها للعدو "القريب" وصراعها مع العدو "البعيد" مهدت الطريق لحقبة "الثورات" العربية. 

"أنصار الشريعة" التي شهد اليمن ميلادها مع بداية حركة الاحتجاج 2011، سرعان ما استنسخت وانتشرت في تونس والمغرب ومصر وليبيا وفي مالي مع جماعة "أنصار الدين"، وقد بات مصطلح "أنصار الشريعة" الأكثر شيوعا وتداولا عقب الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي واتهام جماعة محلية باسم "كتيبة أنصار الشريعة" بتنفيذ الهجوم، وهي تهم أنكرتها الجماعة واعتبرتها مسيّسة.  

 لكن التسمية بـ "أنصار الشريعة" ظهرت ابتدءا في اليمن مع مرحلة مبكرة من بدء الانتفاضات في العالم العربي، وهي إحدى ابداعات تنظيم "القاعدة في جزيرة العرب" الفرع الإقليمي الأقوى والأكثر تنظيما وابتكارا بين الفروع الإقليمية، وهو يتفوق على التنظم المركزي في باكستان وأفغانستان على الصعيدين النظري والعملياتي، وخصوصا منذ توحد الفرع اليمني والسعودي بداية 2009.

ولا نعلم إذا كانت التسمية والاستراتيجية بالتشاور مع التنظيم المركزي، إذ لم ترد في خطابات الزعيم السابق أسامة بن لادن ولا خليفته أيمن الظواهري، بل ظهرت عندما أعلن المسؤل الشرعي لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، عادل بن عبد الله بن ثابت العباب المكنى بالشيخ "أبو الزبير" في الثاني والعشرين من أبريل/ نيسان عام 2011 عن تأسيس "أنصار الشريعة".

ويعتمد "الأنصار" على جذب القبائل والسكان المحليين في اليمن إلى إيديولوجية القاعدة أو التيار السلفي الجهادي عبر "تحويل تحكيم الشريعة من عمل نخبوي إلى عمل شعبوي"، وكانت الجماعة قد سيطرت على محافظات أبين وشبوة وأعلنت عن تأسيس "إمارات" في مناطق عديدة قبل أن تنسحب بعد تدخل الجيش اليمني بمساعدة أمريكية سعودية؛ عقب اختيار عبد ربه هادي منصور كرئيس توافقي خلفا لعلي عبدالله صالح وفق "المبادرة الخليجية" المدعومة "أمميا".  

ويعرّف أمير أنصار الشريعة في أبين جلال بلعيدي المرقشي المكنى بـ "حمزة الزنجباري" الجماعة  باعتبارها طيفا واسعا يحتمل جميع التنظيمات والفئات بشرط أن يكون تحت مظلة الشريعة، وفي هذا السياق تبنت "السلفية الجهادية" المعولمة التسمية وأخذت تعممها في الفضاءين الافتراضي والواقعي، إذ أن أحد أبرز المنظرين الجهاديين العالميين في الفضاء الافتراضي المعروف بالشيخ أبو المنذر الشنقيطي، وهو أحد أبرز أعضاء اللجنة الشرعية في موقع "منبر التوحيد والجهاد" التابع للشيخ أبو محمد المقدسي، نظّر للموجة الجديدة لجماعات "أنصار الشريعة" عبر مقالة صدرت في منتصف حزيران/يونيو بعنوان "نحن أنصار الشريعة" داعياً المسلمين لإقامة جماعاتهم الدعوية المسماة بـ "أنصار الشريعة" كلٌ في دولته ثم الاتحاد في كتلة واحدة. 

وتشير ظاهرة "أنصار الشريعة" وانتشارها وتعميمها مؤخرا إلى ديناميكية الفضاء السلفي الجهادي وأجنحته العديدة، فهي تعيد طرح استراتيجيات التغيير إلى سيرتها الأولى خلال حقبة الثمانينيات وآليات التعامل مع الأنظمة المحلية الموسومة بـ "العدو القريب" قبل أن تتبلور "الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين" عام 1998 وفق نظرية أولوية التصدي لـ "العدو البعيد".

وبين الحقبتين وما بعدهما لم ينقطع الجدل حول أولوية الدعوي والقتالي أو المزاوجة بينهما. ولكن التطور الجديد يلغي المسافات ويقطع الخلافات التاريخية ويدشن لمرحلة تتكشف ببطء ولكن بثبات، عنوانه أن القاعدة كتنظيم مركزي نخبوي مسلح باجندة معولمة يوشك على الزوال، لتحل مكانه شبكات شعبوية محلية تحت مسمى "أنصار الشريعة" تمهد لبناء منظومة إقليمية متحدة تتبنى الحوكمة المحلية وتناهض الهيمنة الغربية.

 أظهرت "أنصار الشريعة" في محيط سيطرتها وهيمنتها التزاما بتقديم الخدمات وحل المشكلات، إلا أن المرحلة الانتقالية حددت شكل تنظيم "القاعدة" المستقبلي، عبر تبنيه استراتيجية جديدة تقوم على "اندماج الأبعاد"، النخبوي بالشعبي والمحلي بالعالمي، فاعتماد الوسائل والأدوات التي انتهجتها الأنظمة "السلطوية" والتي استنسختها بدورها من الراعي "الأمريكي" تحت غطاء ما أطلق عليه "الحرب على الإرهاب"، لا تزال تهيمن على آليات التعامل مع ظاهرة "أنصار الشريعة"، وهي سوف تؤدي لنتائج كارثية، فقد بات العالم العربي خزانا لا ينضب لاستقطاب أعضاء جدد لتنظيم لقاعدة في ظل "عصبة الديمقراطيات المهدورة" التي انقلبت على حركات "الإسلام السياسي" بعد فوزها في كافة الاستحقاقات الانتخابية الديمقراطية.

 لا شك بأن أحد مهمات "أنصار الشريعة" كانت تقوم على ممارسة أكبر قدر من الضغط على الإسلاميين الذين وصلوا إلى السلطة وفق الاليات الديمقراطية من خلال موضوع "تطبيق الشريعة"، وهو الشعار الذي نادي به الإسلام السياسي لعقود طويلة عندما كان في موقع المعارضة، وبهذا فإن قبول الإسلام السياسي باللعبة الديمقراطية والدخول في نهج "الدولة المدنية"، ثم الانقلاب عليه والتعامل مع حركاته باعتبارها "إرهابية" قد فُهم لدى "أنصار الشريعة" باعتباره تأكيدا على صوابية نهجها الإيديولوجي والعملياتي.

أنصار الشريعة يمارسون سياسات الأدلجة التي مارسها من قبل الإسلام السياسي نفسه على الأنظمة السابقة، ولعل هذه المعضلة ستسبب قلقا عميقا وإحراجا بالغا لحركات الإسلام السياسي عقب الانقلابات أمام قواعدها التنظيمية والانتخابية، فالإشكال الأساسي لدى حركات الإسلام السياسي هو الدخول في أفق الممارسة السياسي وغياب التنظير المعرفي، فالمخيال الإسلامي الذي تستثمره شبكات "أنصار الشريعة" بفعالية يستند إلى تراث دولة "الخلافة" أو "السلطنة" أو "تطبيق الشريعة"، وليس إلى تراث الحداثة السياسية الذي يستند إلى "الدولة ـــ الأمة"،  وعلى صعيد العلاقات الخارجية تعمل "أنصار الشريعة" على إحراج "الإسلام السياسي"  في صياغة علاقاته مع "الغرب" الذي طالما اتهمته بالنفاق ودعم الأنظمة الاستبدادية البائدة وعدائه لها وسعيه للهيمنة، والمشكل الأكبر يتمثل بالتعامل مع "إسرائيل" التي تمثل عدوا لا ترجى صداقته، في ظل إتفاقيات مبرمة لا سبيل إلى التنصل منها.

لقد باتت جماعات "أنصار الشريعة" تشكل قلقا على الصعيدين الداخلي والخارجي. فقد وضعتها الولايات المتحدة على "قوائم الإرهاب"، أما الأنظمة المحلية فهي تتخبط في طرق التعامل معها بين المغازلة والمنازلة: ففي تونس واليمن تم وضعها على قائمة الحركات الإرهابية، وفي ليبيا يقوم النظام الهش بمغازلتها ويخشى سطوتها وانتشارها. ومع ذلك، فإن "أنصار الشريعة"، على ما يبدو، دخلت في مرحلة كمون وهي تنتظر الفرصة المواتية في أمكنة عديدة لاقتناص اللحظة والعودة بطرائق جديدة.