مع بدء الانتفاضات العربية ومقتل زعيم تنظيم
القاعدة أسامة بن لادن بداية أيار/ مايو2011، تعاظم التبشير بنهاية تنظيم القاعدة واقتراب حلول عصر الديمقراطية السعيد. لكن تنظيم القاعدة خيّب آمال الحالمين بمساعدة الدولة الاستبدادية العميقة وقوى الثورة المضادة، وعمل على بناء استراتيجية جديدة للتمدد والانتشار وإعادة التموضع في العالم العربي تقوم على دعامتين الأولى: بناء شبكات شعبوية محلية تحت مسمى "أنصار الشريعة" تمهد لبناء منظومة إقليمية متحدة تتبنى آلية سلمية محلية وتناهض الهيمنة الغربية، وتشكل خزانا لجلب أعضاء جدد لتنظيم القاعدة في ظل "عصبة الديمقراطيات" المشوهة هيكليا، والثانية: المزاوجة بين قتال "العدو القريب" و"العدو البعيد" من خلال "دمج البعد القاعدي" العالمي والمحلي.
استراتيجية القاعدة الجديدة أصبحت أشد وضوحا وأكثر خطورة، فقد أسفرت الثورات العربية عن انهيار بعض الأنظمة السلطوية وإضعاف أخرى معادية للسلفية الجهادية والقاعدة، وساهم غياب ابن لادن بتفكك القيادة المركزية والتخطيط العملياتي المعولم وبروز نهج جديد للقاعدة يناهض الغرب والولايات المتحدة بطرائق غير مباشرة عبر مجاميع وشبكات جهادية إقليمية أعادت تمركزها في المنطقة العربية وطوّرت استراتيجية تعتمد على دمج البعدين العالمي والمحلي؛ وهي ظاهرة جديدة تميّز الولادة الثالثة لتنظيم القاعدة وفضائه الإيديولوجي السلفي الجهادي الواسع؛ إذ تميّزت الولادة الأولى بقتال العدو القريب المحلي، وتميّزت الولادة الثانية بقتال العدو البعيد العالمي.
الاستراتيجية الجديدة للقاعدة غيّرت من أولويات الاستهداف بالاعتماد على فروعها وشبكاتها المحلية، فبحسب التنظير القاعدي فقدت الولايات المتحدة جزءا كبيرا من نفوذها في المنطقة بخروجها من العراق وسقوط أنظمة سلطوية موالية وشيوع حالة من عدم الاستقرار عقب الثورات العربية، كما أن أزمات أمريكا الاقتصادية لا تسمح لها بالتدخل المباشر، وباتت تعتمد في حربها المعلنة على "الإرهاب" بشكل أساسي على استحدام طائرات بدون طيار، وهي وسيلة تثير إشكالات قانونية وأخلاقية؛ حققت نجاحات آنية إلا أنها أثبتت فشلها بالقضاء على التنظيم.
كشفت التطورات الأخيرة في العالم العربي عن طبيعة اندماج الأبعاد القاعدية وتمددها، فالفروع الإقليمية التي تطورت تاريخيا من حركات جهادية محلية أصبحت أكثر تحررا من اشتراطات المركزية واللامركزية، وظهرت شبكات وجماعات جديدة تشارك القاعدة في انتمائها الإيديولوجي السلفي الجهادي وأهدافها البعيدة بإقامة الخلافة الإسلامية، ورفع الهيمنة الغربية ومواجهة إسرائيل.
في اليمن ظهرت جماعة "أنصار الشريعة" في أبين بزعامة جلال بلعيدي المرقشي أبو حمزة الزنجباري، وتمكنت من السيطرة على مناطق عديدة في أبين ثم خرجت منها، وهي ترتبط بتنظيم "القاعدة في جزيرة العرب" بإمارة أبو بصير ناصر الوحيشي، وهو الفرع الإقليمي الأنشط على صعيد العمليات الدولية لما له من صلات مباشرة مع التنظم المركزي في باكستان منذ اندماج الفرعين اليمني والسعودي بداية عام 2009، وقد أجبرت تهديداته في شهر رمضان الماضي الولايات المتحدة على إغلاق أكثر من 25 من سفاراتها في المنطقة. وقد بات هذا التنظيم أكثر قوة وأشد فتكا، كما أظهرت عمليته الأخيرة التي استهدفت مجمع وزارة الدفاع في صنعاء وأسفرت عن مقتل أكثر من 57 وإصابة حوالي 215 شخص.
وفي المغرب العربي برز تنظيم "قاعدة الجهاد في المغرب الإسلامي" عام 2007 بإمارة أبو مصعب عبد الودود وهو سليل تنظيمات محلية بدأت مع "الجماعة الإسلامية المسلحة" 1994 وتحولت إلى "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" 1998، وقد ساهم سقوط نظام القذافي بتطوره وانتشار فرعه في إمارة الساحل والصحراء، وتمكنت كتيبة "الموقعون بالدم" بزعامة خالد أبو العباس من تنفيذ هجوم كبير في يناير/ كانون الثاني 2013 في الجزائر على منشأة "عين أميناس" للغاز، مما أسفر عن مقتل 38 من العمال، ووبرزت جماعة "أنصار الدين" بإمارة إياد حاج غالي، في مالي وظهرت جماعة "التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا"، وهي جماعات تتمتع بصلات مع القاعدة في المغرب الإسلامي وإمارة الصحراء والساحل، وقد تعاونت على فرض سيطرتها على شمال مالي قبل أن تتدخل قوات فرنسية وإفريقية، وانضمت جماعة "بوكو حرام" في نيجيريا بزعامة أبو بكر شيكاو إلى قاعدة المغرب.
وفي العراق تنامت قدرات تنظيم القاعدة بعد عسكرة الثورة السورية. ولعل من المفيد هنا –والحديث عن سورية- استرجاع تاريخ تنظيم القاعدة في منطقة العراق والشام؛ قد ظهر تنظيم "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين" بزعامة أبو مصعب
الزرقاوي بداية باسم جماعة "التوحيد والجهاد" عام 2003، وغيّر التسمية بعد الانضمام لتنظيم القاعدة عام 2004، وتحول إلى "دولة العراق الإسلامية" عام 2006 بزعامة أبو عمر البغدادي، ثم تولى الإمارة أبو بكر البغدادي عام 2010. وفي سوريا ظهرت "
جبهة النصرة لأهل الشام" بزعامة أبو محمد الفاتح الجولاني بداية عام 2012، وفي إبريل/ نيسان الماضي أعلن أبو بكر البغدادي عن دمج الجماعتين باسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وقد تمكنت الجماعة من تنفيذ عمليات نوعية من أبرزها الهجوم على سجني أبو غريب والتاجي في شهر رمضان وتحرير أكثر من 500 من قيادات القاعدة، وباتت تسيطر على مساحات واسعة غرب العراق وشمال شرق سوريا.
أما الصومال فتشهد عودة أشد عنفا لـ "حركة الشباب المجاهدين" بإمارة مختار عبد الرحمن أبو الزبير، وكانت الجماعة قد أعلنت انضمامها لتنظيم القاعدة وبايعت الظواهري عام 2012، وقامت بعملية استهداف خارجية في كينيا. وفي ليبيا تنامت الجماعات الجهادية ومنها جماعة أنصار الشريعة، وتمكنت من قتل السفير الأمريكي في ليبيا في أيلول /سبتمبر2012. أما في مصر، فقد باتت شبه جزيرة سيناء ملاذا لعدد من الجماعات الجهادية من أبرزها "مجلس شورى المجاهدين في أكناف بيت المقدس". وفي تونس برزت جماعة "أنصار الشريعة" ودخلت مجموعات قريبة من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في صدام مع الدولة في منطقة الشعانبي.
ومن هذا الاستعراض المختصر، يبدو واضحا إن تنظيم القاعدة بات أكثر تمددا ونشاطا في العالم العربي عقب تعثر مسارات الانتقال الديمقراطي وإعادة بناء الدولة التسلطية البوليسية.