كتب

المجتمع الفلسطيني من التعبئة السياسية إلى الاستقطاب.. كتاب جديد

منظمة التحرير الفلسطينية نموذج استثنائي استطاع تحقيق إنجاز كبير رغم كل التحديات التي واجهتها وتمكنت من تجاوزها..
الكتاب: "الاستقطاب وتصفية التعبئة، إرث السلطوية في فلسطين"
المؤلف: دانا الكرد
المترجم: محمود محمد الحرثاني
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات


تبحث دانا الكرد، أستاذة السياسة المقارنة والعلاقات الدولية، في هذا الكتاب تأثير القمع والاستبداد على إبطال عمليات التحشيد في المجتمعات التي تخضع لمستويات عالية من التدخل الدولي. وتدرس في هذا السياق، بشكل مستفيض، حالة السلطة الوطنية الفلسطينية التي لعب البعد الدولي، أو التدخل والنفوذ الخارجي، الذي كان في معظمه أميركيا، دورا كبيرا في نشأتها ونموها. وترى الكرد في المناطق الفلسطينية حالة مثيرة للانتباه والاهتمام، إذ كانت تضم فيما مضى مجتمعا شديد التحشيد، لكنه لم يعد كذلك، ودراسته بالتالي يمكن أن تكشف عن الديناميات التي جعلت هذا التغيير ممكنا، وبناء استنتاجات بشأن حالات مماثلة.

وإلى جانب بحثها في تداخل العلاقة بين الدولي والمحلي وترسيخ التسلط، تحاول الكرد استنباط الآثار السلوكية طويلة الأمد على المجتمعات، وتفسير آليات عمل هذه العلاقة في البيئات المخترقة، وتأثيرها على التماسك الاجتماعي والتحشيد على المدى الطويل. وتطرح في فصول الكتاب مجموعة من الأسئلة التي تستكشف من خلال الإجابة عليها واقع الحال، منها على سبيل المثال؛ ما تأثير التدخل الدولي على تفضيلات القيادة الفلسطينية مقابل تفضيلات جمهور الفلسطينيين؟، وما تأثير الاستراتيجيات التسلطية للسلطة الفلسطينية على الاستقطاب داخل المجتمع، وكيف يؤثر هذا الاستقطاب على العمل الجماعي؟. كما تطبق في أحد الفصول نتائج تقييمها على حالتين إضافيتين هما حالة كردستان العراق والبحرين، وتبحث في أثر التدخل الدولي، ولا سيما الأميركي، في تطور هاتين الحالتين ومساراتهما.

قبل أوسلو وبعده

بعد حرب 1967أخضع الفلسطينيون في المناطق المحتلة لقيود قاسية شلّت قدرتهم على التنظيم السياسي، وواجهوا القمع في كل مرة حاولوا فيها التنسيق فيما بينهم لتحقيق أهداف سياسية، مثل الاعتقال العسكري، وهدم المنازل، والإبعاد، والقتل. ونتيجة لذلك تركز نشاط منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج، لا سيما في مجتمعات اللاجئين في الأردن ولبنان وغيرها من الدول العربية. ورغم محاولة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة التنسيق مع منظمة التحرير، فقد ظلوا معزولين إلى حد ما، بسبب ما يتعرضون له من قمع، ما اضطرهم إلى الاعتماد على "المنظمات القاعدية ذات الصلات المحتملة بالمنظمة". لكنها، كما تقول الكرد، كانت منظمات تعمل على المستوى المحلي، ما منحها قدرا من الاستقلالية، والمرونة، والحيوية.

يجب على الفلسطينيين العمل بشكل جاد لإعادة تنشيط المجلس الوطني من خلال انتخابات جديدة، بحيث يضم أيضا جميع التيارات بما فيها الإسلامية، ويكون ممثلا لكل قطاعات الشعب. عدا ذلك فإنه قد يكون من المستحيل إنشاء مؤسسات جديدة من الصفر في بيئة مجزأة ومستقطبة استقطابا حادا.
وهذه الاستقلالية هي التي أتاحت للفلسطينيين تنظيم الانتفاضة الشعبية الأولى، حيث بادرت هذه المنظمات إلى تنظيم استراتيجيا سلمية مشتركة، بالمقاطعة، والإضرابات، والاحتجاجات للضغط على الاحتلال ومحاسبته على الساحة الدولية، وكل ذلك في إطار تنسيق عال بين الجماعات المختلفة، التي تقاسمت التوجهات ذاتها والأهداف. وتلفت الكرد إلى أن الاستقطاب كان في حده الأدنى، وأن القيادة الموحدة للانتفاضة كانت في غاية التجاوب والتفاعل مع الضغط الشعبي من أجل تحقيق أعلى درجات المشاركة في أنشطة الجماعات السياسية.

أما بعد أوسلو، ورغم حضور القوى الدولية في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي ـ قبل العام 1994، فإن مستوى هذا الانخراط في الديناميات والسياسات الفلسطينية الداخلية ازداد بشكل كبير بعد إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية. وقد سيطرت السلطة على المجال العام ما جعل المنظمات القاعدية تتلاشى بالتدريج، سيما بعد عودة الكثير من أعضاء المنظمة إلى الأراضي المحتلة، الذين شاركوا في مشروع "بناء الدولة" بالعمل كبيروقراطيين وإداريين، وُزّعت عليهم العديد من المناصب العليا، والرواتب المجزية، ما خلق توترات بين العائدين والقيادة المحلية. في تلك المرحلة قدم الرعاة الدوليون العديد من حزم المساعدات للسلطة الفلسطينية، وكان ينظر إليها باعتبارها ضرورية لتأمين المؤازرة الشعبية للسلطة وعملية السلام، لكن الاحتلال استمر في سياساته الضاغطة على الفلسطينيين ولم تثمر كل هذه المساعدات في التخفيف من الظروف المعيشية الصعبة التي يرزح تحتها الفلسطينيون.

بل إن المساعدات الأمريكية والأوروبية المشروطة أعاقت التطور السياسي الفلسطيني وساهمت في إدامة الصراعات الداخلية، بحسب ما تقول الكرد، إذ عملت على تمكين جماعات معينة في المجتمع على حساب أخرى يمكن تصنيفها بأنها تمثل أصوات معارضة أو منتقدة لاتفاقيات أوسلو، وبالتالي كانت "غير مؤهلة" لتلقي المساعدات الخارجية أو دعم السلطة الفلسطينية.

وهكذا تم تحييد دور المجتمع المدني، وأي معارضة محتملة، بطريقة قاسية وقمعية في أحيان كثيرة. من جهة أخرى فقد كان الضغط الأميركي في عهد ياسر عرفات متواصلا وعدائيا في كثير من الأحيان. فقد اشتكت الولايات المتحدة من افتقار مؤسسات السلطة إلى الاحتراف والمهنية، واتهمت عرفات بأنه يدعم المقاومة ضد التوغلات والهجمات الإسرائيلية، ويتسامح مع التنظيمات الإسلامية، وكثيرا ما هددت وحلفائها بقطع المساعدات كلما سار عرفات في اتجاه يخالفهم. وتضيف الكرد أن المانحين لطالما شددوا على ضرورة بناء نظام "حكم رشيد"، لكن طبيعة اتفاقات أوسلو قصد منها في الواقع أن تكون السلطة مقيدة بالكامل في قدرتها على بناء دولة حقيقية سياسيا واقتصاديا. وبالنتيجة ضمنت إسرائيل أمنها بالتأكد من إبقاء فلسطين تحت السيطرة.

أولويات النخبة

في عهد محمود عباس عززت السلطة سيطرتها على السياسة والمجتمع الفلسطيني بأساليب قمعية متزايدة. وأصبح الفلسطينيون أكثر اعتمادا على رواتب وخدمات السلطة، وحتى تلك القطاعات التي كانت تعارض مشروع بناء الدولة في إطار أوسلو تم إسكاتها إما بضمها إلى شبكات المحسوبية التابعة للسلطة، أو بالقمع المباشر، في ظل سيطرة مركزية على الأجهزة الأمنية ودرجة عالية من التنسيق مع الحكومة الإسرائيلية. وفي تلك الأثناء اكتسبت حركة حماس زخما في الأراضي المحتلة بإصرارها على الحق في المقاومة ورفضها القبول بحل الدولتين، لذلك أيدت الولايات المتحدة وحلفائها قمع الحركة رغم فوزها بالانتخابات وتعهدها بالاعتدال.

تقول الكرد أنه بمرور الوقت أدى التدخل الأميركي المتزايد إلى تكوين معسكرين في السياسة الفلسطينية؛ معسكر مؤيد لاتفاقات أوسلو والتنسيق الأمني ومتحالف مع الولايات المتحدة، ومعسكر معارض لكل ذلك. وبدا واضحا أن هذا التدخل الأميركي منح النخب السياسية شعورا متزايدا أنها غير مسؤولة أمام الرأي العام. وفي الوقت نفسه ساعدت "المساعدة الفنية" الأميركية لإصلاح قطاع الأمن على زيادة التنسيق بين السلطة وإسرائيل، وزيادة القمع والتسلط في المشهد الساسي الفلسطيني. وجدير بالملاحظة أن السلطة تنفق ثلث ميزانيتها على أجهزتها الأمنية، وتوظف أكثر من 80 ألف شخص، وهو ما يعني أن لكل 48 فلسطينيا شرطيا أو ضابط أمن.

في عهد محمود عباس عززت السلطة سيطرتها على السياسة والمجتمع الفلسطيني بأساليب قمعية متزايدة. وأصبح الفلسطينيون أكثر اعتمادا على رواتب وخدمات السلطة، وحتى تلك القطاعات التي كانت تعارض مشروع بناء الدولة في إطار أوسلو تم إسكاتها إما بضمها إلى شبكات المحسوبية التابعة للسلطة، أو بالقمع المباشر، في ظل سيطرة مركزية على الأجهزة الأمنية ودرجة عالية من التنسيق مع الحكومة الإسرائيلية.
ترى الكرد أنه وكنتيجة مباشرة للتدخل الدولي تنشغل النخب في فلسطين بضغوط مختلفة تماما عن الجمهور الذي تمثله. فالولايات المتحدة لا تعطي أولوية للممارسات الديمقراطية، بل تخلق جيوبا من الفساد وتسهّل تضخيم دور مجموعات داخل السلطة غير خاضعة للمساءلة أمام جماهيرها، حتى لو كان خطابها (الولايات المتحدة) مؤيدا للديمقراطية. وتبعا لذلك تعطي هذه النخب الأولوية للاستقرار، وتعبر عن زهدها في دعم الديمقراطية. وينسحب ذلك على الرأي العام الذي يبدو أنه مشروط بعلاقة الفرد بالنظام السياسي. فالذين ينتمون إلى السلطة يكررون رأي هذه النخب. تقول الكرد أن هذه الظروف الاستبدادية القمعية ولدت استقطابا حادا في المجتمع، وسنجد أن مجموعات المعارضة المستهدفة، مثل اليساريين والإسلاميين، كانت أكثر عرضة للاستقطاب ورفض التنسيق مع الحركات الأخرى، وهو أمر أثر بدون شك على التماسك الاجتماعي، والقدرة على تنسيق استجابة فعالة للتحديات.

إحياء المجلس الوطني

تلفت الكرد الانتباه إلى أن الضغوط المحلية والدولية، في السنوات الأخيرة، على السلطة غير مسبوقة، إلى الحد الذي يجعل توقع انهيارها أو نهايتها ممكنا. ضغوط تشمل إجراءات قمعية وتعسفية متزايدة من قبل الحكومات اليمينية في إسرائيل ضد الفلسطينيين، وضد السلطة نفسها إذ يتكرر منع إسرائيل لتحويل إيرادات الضرائب الفلسطينية مما قد يتسبب بانهيارها ماليا، عدا عن حديث السياسيين الإسرائيليين علانية عن ضم الضفة الغربية، ومواقف وقرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في فترة ولايته الأولى. وتشير إلى أن سياسة ترامب شجعت أنظمة عربية على تجريب التطبيع مع إسرائيل، والتحول تدريجيا نحو مزيد من الانفتاح على التنسيق مع الحكومة الإسرائيلية بشأن ما يعدونه مصالح مشتركة. وقد جاء هذا على حساب القضية الفلسطينية، حيث اعتبرت هذه الأنظمة أن التهديد الأكبر لها ليس إسرائيل إنما المعارضة المحلية، وإيران إقليميا.

وتقول الكرد إن الفلسطينيين باتوا على نحو متزايد وحدهم في مواجهة كل هذه الضغوط، والسلطة الفلسطينية بدون الدعم التقليدي من الحلفاء العرب أصبحت أكثر ضعفا، لكن ربما لن يكون من السهل على الفلسطينيين إيجاد بديل لها. فالتدخل الدولي والقمع خلق ظروفا صعبة من الاستقطاب، إلى التحشيد المنزوع الفاعلية، إلى الافتقار للتماسك الاجتماعي، ما يجعل الفلسطينيين أمام خيارين فقط إما الاحتفاظ بالسلطة أو الدخول في فراغ سياسي نتائجه قد تكون عنيفة.

مع ذلك فثمة مخارج من هذا الوضع، على أكثر من مستوى، يمكن التعامل معها بجدية وبشيء من التفاؤل، فالعديد من الشباب ينخرطون اليوم في العمل الجماعي والعصيان المدني، غير مرتبطين بالمؤسسات وهياكل السلطة القائمة، وهم على استعداد للنظر في وسائل بديلة للمقاومة، وينظرون إلى السلطة باعتبارها جزء من المشكلة.

لكن من دون هيكل تنظيمي لا يمكن لحركاتهم الاجتماعية الاستمرار طويلا، ورغم ذلك فإن عدم ارتباطهم يعني أن هناك مجالا لتطوير منظمات جديدة قادرة على الاختلاف وتطوير استراتيجيات إبداعية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي. إضافة إلى ذلك هناك نشاط ملحوظ للفلسطينيين في الشتات، يحصد نجاحا متزايدا، مثل "حركة المقاطعة" ومنظمة "الشبكة" التي تم تشكيلها لإجراء البحوث وربط الأكاديميين الفلسطينيين وصناع القرار في جميع أنحاء العالم لخلق وعي جديد بالسردية الفلسطينية، والكثير من المبادرات الأخرى.

لكن الكرد تعود للتأكيد على أن منظمة التحرير الفلسطينية نموذج استثنائي استطاع تحقيق إنجاز كبير رغم كل التحديات التي واجهتها وتمكنت من تجاوزها، ويبدو من الصعب جدا أن تحل أي مؤسسة أو منظمة محلها، فضلا عن أن مثل هذه المحاولة قد تؤدي إلى نتائج عكسية وتبدد موارد قيمة. وتضيف أن المنظمة لديها بالفعل المؤسسات التي تمكّن الفلسطينيين من مساءلة قيادتهم (المجلس الوطني)، والتي يمكن من خلالها التغلب على محاولة تركيز السلطة في يد عباس والسلطة التنفيذية للسلطة الفلسطينية. لذلك يجب على الفلسطينيين العمل بشكل جاد لإعادة تنشيط المجلس الوطني من خلال انتخابات جديدة، بحيث يضم أيضا جميع التيارات بما فيها الإسلامية، ويكون ممثلا لكل قطاعات الشعب. عدا ذلك فإنه قد يكون من المستحيل إنشاء مؤسسات جديدة من الصفر في بيئة مجزأة ومستقطبة استقطابا حادا.