خصصت الفصل الأول من هذه المحاولة لمقدمة بينت فيها الوصلة بينها
وبين محاولة "كشف حساب الثورة" التي شرعت في نشرها للتذكير بما كنت أتوقعه
لمآلها إذا لم تتوفر الشروط التي أحاول هنا بيان ضرورتها.
لذلك فضلت بعد الفصل
الأول من فصولها الخمسة التي وعدت بها أن أوقف التذكير بما مضى لتحليل الوضعية
الراهنة في إفريقيا، ذلك أنه قد يظن أن ما يحدث حاليا هو مسعى حقيقي للتحرر وأن
الثورة ممكنة من دون الشروط التي تتجاوز المطالب المباشرة إلى المطالب غير
المباشرة. وبذلك سيكون التذكير في آن تذكيرا بتوقعات يثبتها الراهن الذي صار أكثر
وضوحا في بيان استحالة الثورة المحققة للتحرير من دون أن تطلب شروط الاستئناف
الإسلامي المخلص من الاحتماء بأحد العدوين المعلومين المستفردين بالسلطان على
العالم والمتنافسين على استعباد بقية البشر.
وفي هذا الفصل الثاني سأنطلق من ملاحظة بدأت بها الفصل الأول:
"هدف المحاولة فهم ما يجري في
إفريقيا حاليا وهل هو حركة تحرر كما قد يظن أم هو من جنس ما حصل عند العرب في
النصف الثاني من القرن المنصرم أي الانتقال من التبعية للغرب أوسطه وأقصاه إلى
الشرق أوسطه وأقصاه؟".
وقبل الشروع في بيان ما بين الظاهرتين من تماثل فلأرد على اعتراض
مضاعف:
الأول ما لك يا أبا يعرب تحاول تاريخ الإنسانية كله إلى الثورة
الإسلامية في حين أنها متأخرة لأن 14 قرنا تكاد تكون لحظة قصيرة جدا ولا يمكن أن
تحتوي على لب المحددات التاريخية للإنسانية من حيث البعدين اللذين أشرت إليهما إي
الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها.
إن ثورة إفريقيا الحالية قد تكون مختلفة عن انقلابات العرب في النصف الثاني من القرن الماضي. ولن يوجد إرهاب في الساحل لأنه من جنس ما صنعه الاستعمار في الهلال وفي كل بلد عربي قسموه، كما فعلوا في ليبيا واليمن والسودان وسوريا والعراق حتى يكونوا حكما في حروب أهلية لا تتوقف بعد أن فتتوا المسلمين. ثورة إفريقيا لن تكون تحريرية إلا بالصلح بين كل أبنائها وخاصة المسلمين المنهم الذين حاول التبشير تنصيرهم ففشل.
الثاني ما لك يا أبا يعرب تتوهم أن الإنساني مقصور على هذين البعدين
وتغفل عن أبعاد كثيرة أخرى يمثلها فلاسفة العدمية بعد فشل الحداثة وفلاسفة ما
بعدها ممن أصابهم داء التوحد الذي ظنوه موقفا فرديا إما صوفيا يزعم الحلول أو مطلق
العدمية ينفي الألوهية ويدعي للإنسان ما القدرة على التأله فيتحرر من شروط القيام
العضوي والروحي فلا يعترف من ثم بهذين المقومين.
فصحيح أن للإنسان علاقة بالمكان تقبل الاعتبار أصلا لقيام الإنسان
العضوي لأن كل كيانه المادي مستمد هواؤه وماؤه وغذاؤه ودواؤه ومناعته العضوية من
الطبيعة لب الثروة (بمفعول الزمان والتوارث العضوي) وهو لا يستطيع أن يعيش لحظة
واحدة من دون أولها وأطول قليلا من اللحظة دون ثانيها وأطول قليلا من دون ثالثها
وقد يطيل رابعها ثالثها وكلها مستحيلة من دونه آخرها.
وصحيح أن للإنسان علاقة بالزمان تقبل الاعتبار أصلا لقيام الإنسان
الروحي لأن كيانه الروحي مستمد ذوقه وفكره وذكره ونقده وحصانته الروحية من التاريخ
لب التراث (بمفعول المكان والتوارث الروحي) وهو لا يستطيع أن يعيش لحظة واحدة من
دون أولها وأطول قليلا من اللحظة دون ثانيها وأطول قليلا من ثالثها وأطول قليلا من
دون رابعها وأخيرا فكلها مستحيلة من دون آخرها.
وصحيح كذلك أن البشرية كلها خاضعة لهذين المتواليتين من المحددات وهي
من نفس الطبيعة للاستجابة لنفس الحاجات الإنسانية ماديها وروحيها. لكن أليس
للإنسان غيرها من الحاجات المادية والروحية؟
المفروض أن يكون المعترض هو من يقدم الحجة على قصور هذين الزوجين في
السبر والتقسيم الذي قدمته وعليه أن يثبت
أن ما يضيفه لا يقبل الرد إليهما.
ولا يمكن أن يفعل لأني اعتبرتهما متازوجين ولكل منهما أثر في الثاني
بحيث إن العوامل تصبح أربعة ولها أصل مشترك فتكون خمسة:
1 ـ العامل الأول هو ما يستمد من فاعلية
الطبيعة الخارجية
2 ـ العامل الثاني هو ما يستمد من فاعليته
الذاتية والتاريخية
3 ـ العامل الثالث هو أثر المستمد الأول في
المستمد الثاني هو ما يترتب عن وحدة المكان في مدة كافية من الزمان: هو ما ينتج
الخبرة المشتركة عن وحدة المتوالية الثانية وما يمكن الإنسان منه في طلب سد
الحاجات الأولى من تنظيم المتوالية الثانية لتنتج بالاعتماد على التراث
"العلمي" و"التقني" العفويين في التعامل مع الطبيعة ليس للعيش
الحيني فحسب بل لادخار ما يزيل الخوف من الغد: وهو العامل الأساسي الذي يفسر به
ابن خلدون كل التاريخ الإنساني وأدوات الاستعداد له.
4 ـ العامل الرابع هو أثر المستمد الثاني
في المستمد الأول هو ما يترتب عن وحدة الزمان في امتداد مكاني كاف: ينتج التجانس
المشترك الناتج عن وحدة المتولية الأولى أي ما يمكن الإنسان منه طلب تنظيم
المتوالية الأولى فتصبح الجماعة متماثلة عضويا وبتأثير الهواء والماء والغذاء
والدواء والمناعة في ذوق الإنسان وفكره
وذكره ونقده وحصانته الروحية.
وأصل هذه العوامل الأربعة وحقيقة البنية العميقة لوجودها وتفاعلها يجعل
هذه المحددات الأربعة شبه فضاء مادي وروحي في آن. وهما باجتماعهما يمثلان ما ما
يسميه ابن خلدون "نحلة العيش"، أي النظام الذي يجعل الجماعة تصبح وكأنها
كيان حي طبيعي وتاريخي واقتصادي ومعرفي يتحول بالتدريج إلى ما سميته الدولة
المجردة التي تتعين في انتخاب القيمين عليها ممن تختاره لملء خاناتها التي تحقق كل صيانة سياسية لوظائف
الرعاية الخمس والحماية الخمسة التي تقوم بها الجماعة الحرة فتكون بذلك حاكمة
نفسها بنفسها .
ولا يكتمل هذا الفضاء من دون نسبته إلى قوة غيبية هي الربوبية أصل
كل الأديان طبيعية كانت أو منزلة، بحيث إن هذه البنية المخمسة وما يترتب عنها من
وظائف مضاعفة هي جوهر الدولة المجردة التي هي في آن معادلة وجودية لا يخلو منها
عمران جزئي أو كلي لأن البنية واحدة:
1 ـ فلا بد من الأفق الخارجي الطبيعي
2 ـ ولا بد من الأفق الذاتي التاريخي
3 ـ ولا بد من كيان الإنسان العضوي في علاقة بالأفق الأول خاصة: أي
بالهواء والماء والغذاء والدواء والأصل هو المناعة العضوية التي تحصل من التكيف مع
الأفق الطبيعي
4 ـ ولا بد من كيان الإنسان الروحي في علاقة بالافق الثاني خاصة أي
بالإدراك الحسي والتصور الذهني والتراكم الخبرة والتواصل البشري والاصل هو الحصانة
الروحية التي تحصل مع الأفق التاريخي.
5 ـ ولا بد من وصل لهذه الأبعاد الأربعة بما يتعالى عليها فيعد أصلها
جميعا هو المرجعية الدينية سواء كانت صادرة عن الدين الفطري أو عما يماثله أي الدين الفلسفي.
لا أنسب شيئا من هذا لنفسي عدا كوني ابنته في القرآن أولا وفي مقدمة
ابن خلدون ثانيا. فهو كامن في مقدمة ابن خلدون كما شرحتها عديد المرات عندما
حررتها من تخريف من يحاول أن يجد فيه كونت أو ماركس أو حتى هيغل.
فهو فريد النوع وليس له مثيل لأنه في الحقيقة حاول أن يشرح الآية 53
من فصلت (فرضيتي) لينقل علم الكلام الذي حرف القرآن بقيس الغيب على الشهادة فأرجع
الأمور إلى نصابها وصار يقيس عالم الشهادة على عالم الغيب: فينظر إلى حيث طلبت
السبابة القرآنية النظر أي إلى آيات الآفاق وآيات الأنفس(وذلك هو موضوع الآية 53
من فصلت).
أعود إلى المقارنة:
كنا نتصور الثورات العربية بعد هزيمة 48 قطعت دابر قياداتها
هزيمة 67. لكن الأهم من ذلك كله هو أن الوحدة والتحرر من الاستعمار كانا مجرد شعار
لأن ما حصل هو المزيد من التفتت وطغيان الاستعمار الذي التهم كل الديار وكان غربيا
وشرقيا مباشرة فصار بتوسط كلبيهما أي إسرائيل وإيران وعملائهما في الأقليم من اهل
الإقليم.
لكن لما أسأل هذا السؤال لا يعني أني ضد الوحدة والثورة على
الاستعمار. أو حتى أنني ضد التحالف مع الشرق أو مع الغرب إذا كانت الغاية تحقيق
شروط التحرر منهما كما فعلت الهند أو الصين مثلا أو حتى تحقيق بعض شروط السيادة من
التقدم العلمي والاقتصادي كما فعلت اليابان أو كوريا أو المانيا أو جنوب شرق آسيا.
وكنا نتصور قيادات هذه الشعارات الذين اختاروا الحلف مع السوفيات سيحققون شروط
هذين المطلبين فماذا حصل؟ هل ازدادنا قربا من الوحدة ومن التحرر من الاستعمار؟
ومثلهم من اختاروا الحلف مع الأمريكان لأن الثروة الطبيعية التي تبدو
حاصلة ليست لهم بل هم غوافير عليها بعضه يشترون به خردة الاستعمار والباقي يهربوه
إلى بنوكه ولا شيء من شروط السيادة الحقة حصل لأنهم ما زالوا محميات تتسول الرعاية
والحماية مثلها مثل فقراء العرب من حيث فقدان شروط الحرية والكرامة. لذلك ناصبوا
الثورة العداء .
وقبل أن أقوم بالمقارنة بين هذه الوضعية وما يجري في إفريقيا حاليا
فينبغي ألا ننسى أن الاستعمار الغربي كان له ما يشبه فاجنار ـ فرنسا عندها ما يسمى
بالليجيون انترنجار ولم تكن بحاجة لإخفاء علاقتها بالدولة مثل روسيا الحالية ـ لأن
التقاليد الحالية غير التقاليد في ذلك الوقت ولها إمكانية استعمال أبناء إحدى
المستعمرات ضد أي حركة في المستعمرات الأخرى ولما كنت شباب كان أكثر جيوش فرنسا
تخويفا لنا هو من نسميه "السيلجان" يعني السينغاليين.
وكل المحميات العربية سواء اختار السوفييت أو الأمريكان خاضعة لنفس
النسق من خلق حرب أهلية فيها ليكون الحامي حكما بين المتقاتلين فيكون أما مقدما المشورة
والمعونة للبعض ضد البعض أو مجندا البعض ضد البعض مثل روسيا في ليبيا وفي السودان
مثلا. ولا بد من الوظيفتين لدى طرفي الحرب الأهلية سواء في نفس القطر أو بين
الأقطار المتجاورة.
كنا نتصور الثورات العربية بعد هزيمة 48 قطعت دابر قياداتها هزيمة 67. لكن الأهم من ذلك كله هو أن الوحدة والتحرر من الاستعمار كانا مجرد شعار لأن ما حصل هو المزيد من التفتت وطغيان الاستعمار الذي التهم كل الديار وكان غربيا وشرقيا مباشرة فصار بتوسط كلبيهما أي إسرائيل وإيران وعملائهما في الأقليم من اهل الإقليم.
فلنعد الآن إلى دعوى تحرير إفريقيا المزعومة استدلالا بما يحصل في
الساحل ودعوى التحرر من الاستعمار الفرنسي بالاستعمار الروسي أو الصيني. وحتى نثبت
أن ما يحدث ليس شبيها بما حدث عندنا في النصف الثاني من القرن الماضي لا بد من
الشروط التالية:
1 ـ هل كانت الأنظمة الأفريقية تحتمي منهم من أبناء الساحل أم هم كما
يزعمون إرهاب آت من خارجه؟ أليست إذن حرب أهلية يستغلها الأعداء مع ميل للإفساد
بحيث إن الأنظمة تدعي محاربة جماعة من مجتمعهم يتهمونهم بالإرهاب حتى لو شاركهم
بعض المقاومين المؤمنين بوحدة دار الإسلام.
2 ـ هل المقابلة بين روسيا والصين حاليا والاستعمار الغربي والسوفيات
سابقا ليست من نفس الطبيعة؟ يعني هل الصين وروسيا يدافعون عن الحقوق وياتون لعمل
الخير.؟
3 ـ هل الأقطار الإفريقية تريد حقا الوحدة وإخراج الاستعمار أم هي
شعارات من جنس شعارات العرب الذين قاموا بانقلابات عسكرية متهمين الأنظمة السابقة
بالخيانة؟ يعني هل الجزائر والمغرب مستعدون للتعاون ما يغنيهم عن إسرائيل وإيران؟
4 ـ هل حقق هؤلاء الثوار وضعية أفضل مما كان أم أسوأ فيكون من
يحاكيهم قابلا لأن يؤدي إلى نتيجة أفضل أم إن التدخل الأجنبي هو لقتل ما يمكن أن
يجعلهم يتعاونون ويتحدون لأن أفارقة الساحل أغلبهم مسلمون وهم في وضعية لا تختلف
كثيرا عما يجري في السودان ولكن بمنطق ما يجري في بلاد الربيع حاليا أي إن مقاومية
الاستعمار هم من يتهمون بالإرهاب لتبرير الحضور الأجنبي كما حدث في الهلال مثلا.
5 ـ وأخيرا هل لم يتبين أن الثوار هم أنفسهم كانوا من اختيار
الاستعمار بديلا ممن لم يعد قادرا على تحقيق أهدافهم ومصالحهم، ومن ثم كيف نميز
بين الثوار حقا وعملاء الاستعمار وربما الاستعمارين المتخاصمين في الظاهر كالحال
مع إيران وإسرائيل في الهلال وفي الخليج بل وفي كل دار الإسلام.
ولما كان الجواب عن كل هذه الأسئلة سلبيا فحكمي أن اللعبة ملعوبة
وعلامتها ما يجري في السودان: فروسيا والصين وأمريكا والعرب والأفارقة كلهم يعلمون
أن ضرورة التخلص من الإسلاميين في السودان -لأن جل الجيش ذو ميول إسلامية واليسار
الشبيه بالوطد والقوميين الشبيهين بالبراميل في توتس مع سارح الإبل ومع حفتر ومع السيسي ومع مهبول تونس ومع كل بهاليل الحكام العرب من الماء إلى الماء
توابع إيران وإسرائيل مباشرة ومن يحمي إيران وإسرائيل وهي حماية يشترك فيها الشرق
والغرب لأن الهدف هو منع الاستئناف الإسلامي.
وإذن فكل حكام العرب والنخب التابعة لهم مجرد غوافير وعسس على ما لا
يزال ملك الاستعمار في كل الديار ـ من مصلحتهم القضاء على أي بارقة استئنافية
وخاصة في الإقليم ـ لكنها موقف عام في كل دار الإسلام ـ لا بأس من ترك الأمر يتعفن
حتى يحتاج إليهم الجميع فيكونوا الحكم في الغاية.
إن ثورة إفريقيا الحالية قد تكون مختلفة عن انقلابات العرب في النصف
الثاني من القرن الماضي. ولن يوجد إرهاب في الساحل لأنه من جنس ما صنعه الاستعمار
في الهلال وفي كل بلد عربي قسموه، كما فعلوا في ليبيا واليمن والسودان وسوريا
والعراق حتى يكونوا حكما في حروب أهلية لا تتوقف بعد أن فتتوا المسلمين. ثورة إفريقيا
لن تكون تحريرية إلا بالصلح بين كل أبنائها وخاصة المسلمين المنهم الذين حاول
التبشير تنصيرهم ففشل.
اقرأ أيضا: تلازم الحرب والسلم وكلاهما عالمي بالجوهر.. مقدمات لقراءة المشهد الإفريقي