صحافة إسرائيلية

جنود إسرائيليون من معتقل "سدي تيمان": هذا ما فعلناه بأسرى غزة

الاحتلال ينكل بأسرى قطاع غزة حسب ما كشفت عنه تقارير حقوقية وأممية- الأناضول
كشفت شهادات أطباء وجنود إسرائيليين عملوا في معتقل "سدي تيمان" الإسرائيلي سيئ السمعة عن مشاهدة مروعة من التنكيل بالأسرى الفلسطينيين من غزة، الذين اختطفهم الاحتلال الإسرائيلي من القطاع المحاصر خلال عدوانه الوحشي المتواصل.

وكان معتقل "سدي تيمان" تصدّر خلال الأسابيع الأخيرة عناوين الأخبار، عقب تقارير عن الانتهاكات وأساليب التعذيب الوحشي التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيين هناك على أيدي سجاني الاحتلال، والتي تضمنت الاغتصاب والعنف الجنسي.

وكانت القناة" 12" العبرية، نشرت مشاهد مسربة من تسجيلات الكاميرات الداخلية في معتقل "سدي تيمان" الذي يخضع لمسؤولية جيش الاحتلال، وثقت اعتداء جنود الاحتلال جنسيا على أسير فلسطيني.

ونقل تقرير نشرته صحيفة "هآرتس" العبرية، 8 شهادات أدلى بها جنود وأطباء وعاملون إسرائيليون عملوا في المعتقل الإسرائيلي سيئ السمعة.

وتاليا ترجمة كاملة للتقرير الإسرائيلية والشهادات التي تضمنها:

في الأيام التي أعقبت الهجوم المفاجئ على جنوب إسرائيل في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، تم اعتقال ما مجموعه 120 من مقاتلي وأعضاء الجناح العسكري لحماس ومدنيين فلسطينيين من قطاع غزة في إسرائيل، وتم إرسالهم إلى معتقل أنشئ خصيصًا في قاعدة للشرطة العسكرية في معسكر سديه تيمان الواقع بين بلدة أوفاكيم وبئر السبع في النقب. في الأشهر التي تلت ذلك، اعتُقل أكثر من 4500 شخص إضافي من سكان القطاع، من بينهم مقاتلون من منظمات مختلفة ومدنيون.

بعد وقت قصير من فتح المعتقل، نُشرت شهادات في وسائل الإعلام الإسرائيلية والأجنبية على حد سواء، تفيد بأن المعتقلين هناك يتعرضون للتجويع والضرب والتعذيب. كما تم الادعاء بأن ظروف الاعتقال لا تتوافق مع القانون الدولي، ووردت ادعاءات أخرى تتعلق بالمعاملة في المستشفى الميداني الذي أقيم على مقربة من المكان، حيث شهد الموظفون بأن المرضى المحتجزين يتناولون الطعام عبر شفاطة، ويُجبرون على قضاء حاجتهم في حفاضات، وتُقيد أيديهم بإحكام لمدة 24 ساعة في اليوم، إلى درجة حدوث عدد من حالات بتر الأطراف.

قبل شهرين، تم الكشف عن أن الجيش الإسرائيلي يجري تحقيقًا جنائيًا ضد جنود يُزعم أنهم متورطون في وفاة 36 معتقلًا في المعسكر. وفي الشهر الماضي، تم اعتقال 10 من جنود الاحتياط هناك للاشتباه في قيامهم باعتداء جنسي وحشي على أحد المعتقلين. ويخضع الجنود النظاميون أو جنود الاحتياط المعينون في معسكر سديه تيمان للشرطة العسكرية التي لها السلطة المطلقة على ما يجري هناك.

في أعقاب الشهادات العديدة التي ظهرت للعلن، تقدّمت خمس منظمات حقوقية بالتماس إلى محكمة العدل العليا تطالب بإغلاق الموقع. وفي مطلع حزيران/ يونيو، أعلنت الدولة ردًا على ذلك أنها تعتزم نقل معظم المعتقلين إلى منشآت تديرها مصلحة السجون الإسرائيلية وإعادة المعسكر إلى مهمته الأصلية “كمنشأة [احتجاز] مؤقت وقصير الأمد لأغراض الاستجواب والتصنيف فقط”. وفي رد آخر لمحكمة العدل العليا في وقت سابق من هذا الشهر، أعلنت الدولة أنه لا يوجد الآن سوى 28 معتقلاً في المنشأة.



منذ اندلاع الحرب، خدم الآلاف من الجنود الإسرائيليين في القوات النظامية والاحتياطية في سديه تيمان. وقد تم نشر معظمهم هناك في إطار مهمة كُلفت بها وحدتهم، وتطوع آخرون للخدمة هناك لأسباب متنوعة. وفي الأشهر الأخيرة، وافق عدد من الجنود والعاملين في المجال الطبي على التحدث مع هآرتس عن الفترة التي قضوها هناك. وفيما يلي ثمان من هذه الشهادات، دون الكشف عن هويتهم، وبترتيب زمني من أول مهمة إلى آخرها.

ن.أ، طالب من الشمال، جندي احتياط
تم تعبئتي مع الكتيبة بأكملها في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وإرسالنا لتأمين التجمعات السكانية في النقب الغربي. وبعد أسبوعين، انتقلنا إلى بئر السبع. كنت منخرطًا في نشاط لا علاقة له بالكتيبة عندما رأيت على مجموعة الواتساب الخاصة بالسرية إعلانات بأن لدينا مهمة أخرى – مهمة جديدة: مهمة حراسة في سديه تيمان. لم يكن الأمر واضحًا في البداية.

عندما عدت إلى السريّة كان الجنود يتهامسون بالفعل عن المكان. سألني أحدهم إن كنت قد سمعت بما يحدث هناك، وقال شخص آخر: “هل تعلم أنك يجب أن تضرب الناس هناك”، وكأنه كان يسخر مني ويريد اختبار ردة فعلي إن كنت يساريًا أو شيئًا من هذا القبيل. كان هناك أيضًا جندي في السرية يتباهى بأنه كان يضرب المعتقلين في المنشأة، وقال لنا إنه ذهب مع ضابط مناوبة من الشرطة العسكرية وضربوا أحد المعتقلين بالهراوات. كنت أشعر بالفضول تجاه المكان، وبدا لي أن القصص حوله مبالغ فيها بعض الشيء، لذلك تطوعت للذهاب إلى هناك.

كنا نحرس أماكن احتجاز المعتقلين في “سدي تيمان”. كنا نعمل في مناوبات لمدة 12 ساعة خلال النهار والليل، وكان أطباء الكتيبة ومسعفوها يقومون بمناوبات على مدار 24 ساعة في المستشفى الميداني، وفي نهاية كل مناوبة كنا نعود إلى بئر السبع للنوم.

كان المعتقلون في حظيرة كبيرة ذات سقف وجدران على ثلاثة جوانب. وبدلاً من الجدار الرابع الذي يواجهنا، كان هناك سياج ببوابة مزدوجة وقفلين، كما هو الحال في حدائق الكلاب. وكان هناك سياج من الأسلاك الشائكة يحيط بكل شيء. وكانت مواقعنا قريبة من زاويتي السياج بشكل شبه مائل، خلف كتل خرسانية على شكل حرف U. وكان هناك جندي يقف عند كل نقطة يراقب المعتقلين ويحرس أفراد الشرطة العسكرية المسؤولين عن إدارة المكان. كنا نعمل في مناوبات من ساعتين عمل وساعتين راحة. وإذا لم تكن تقوم بالحراسة كان بإمكانك الذهاب إلى منطقة الاستراحة، وهي نوع من الخيام التي تحتوي على مشروبات ووجبات خفيفة.

كان المعتقلون يجلسون في ثمانية صفوف على الأرض، في كل منها حوالي ثمانية أشخاص، وكانت إحدى الحظائر تتسع لـ 70 شخصًا، والثانية لحوالي 100 شخص. أخبرتنا الشرطة العسكرية أن عليهم الجلوس. لم يكن مسموحًا لهم بإلقاء نظرة خاطفة خلف عصابة أعينهم، ولم يُسمح لهم بالحركة، ولم يُسمح لهم بالتحدث. وما قالته [الشرطة العسكرية] هو أنه يُسمح بمعاقبتهم إذا خالفوا القواعد”.

كيف كانوا يعاقبون؟
بالنسبة للأمور البسيطة، يمكن إجبارهم على الوقوف في مكانهم [لمدة 30 دقيقة تقريبًا]، وإذا استمر الشخص في إثارة المتاعب، أو في حالة ارتكاب مخالفات أكثر خطورة، يمكن لضابط الشرطة العسكرية أيضًا أن يأخذه جانبًا ويضربه بالهراوة.

هل تتذكر مثل هذه الحادثة؟
في إحدى المرات، اختلس أحدهم النظر إلى مجندة – على الأقل هذا ما ادعته… قالت إنه اختلس النظر إليها من تحت عصابة العينين، وكان يفعل شيئًا ما تحت بطانيته. الأمر هو أن الوقت كان شتاءً وكان لديهم “بطانيات جرب”… مثل بطانيات الجيش [بطانيات خشنة وثقيلة]. وكانوا دائمًا يهرشون تحتها. كنت في الموقع الآخر ولم أكن أنظر في ذلك الاتجاه. ثم اتصلت بالضابط وأخبرته. كان المحتجز جالسًا في الصف الأول وكان مثل… حسنًا، كان رجلًا مثيرا للمتاعب نوعًا ما. بعد كل شيء، لم يكن مسموحاً لهم بالتحدث. وبدا لي أنه بمرور الوقت، أصبح بعضهم متوترًا… غير مستقر. أحياناً كانوا يبدأون بالبكاء، أو يفقدون أعصابهم. كان هو أيضاً واحداً من هؤلاء، الذين لم يبدوا مستقرين جداً.

عندما وصل ضابط الشرطة العسكرية، حاول الشاويش [مصطلح مهين له دلالات كثيرة في اللغة العربية، ولكنه يستخدم لوصف سجين تم تعيينه مسؤولاً عن السجناء الآخرين هنا] أن يشرح له: “اسمع، الأمر صعب. إنه هنا منذ 20 يومًا. إنه لا يغيّر ملابسه وبالكاد يستحم”. حاول الرجل التوسط له. لكن المجندة قالت مرة أخرى إنه نظر إليها. طلب الضابط من الشاويش أن يحضر الرجل إلى البوابة المزدوجة ويأخذه إلى الخارج. في هذه الأثناء قام [الضابط] باستدعاء جندي آخر من سريته كان حينها في منطقة الاستراحة، وكان يتحدث دائمًا عن رغبته في ضرب المعتقلين.

أمسك الجندي هراوة وأخرجوا المعتقل من الحظيرة واقتادوه إلى مكان مخفي نوعًا ما خلف المراحيض الكيميائية بالقرب من استراحتنا. بقيت في موقعي، لكنني سمعت أصواتًا مثل الطَرْق. مرت دقيقة، أو دقيقة ونصف تقريبًا، ثم عادوا بالرجل. كان علامات حمراء واضحة على ذراعيه وحول معصميه. عندما أدخلوه إلى الحجز صرخ بالعربية: “أقسم أنني لم أنظر [إليها]”. رفع قميصه وكانت هناك كدمات وقليل من الدم حول أضلاعه”.

قمت ببضع مناوبات أخرى هناك، وكان ذلك كافياً بالنسبة لي. تم تسريحنا بعد ذلك، ولم تكن تلك مهمة مطلوبة في السرية. يمكنك القول إنها كانت مهمة شبه تطوعية بسبب تعقيدها، وكان هناك هذا الوعي بين الجنود بأنها مهمة صعبة… كانت الرائحة الكريهة هناك في تلك الحظائر. كانت الرائحة كريهة، لذلك كانوا يرتدون الأقنعة طوال اليوم، وهو ما لم يساعدهم أيضًا.

لكن في بعض الأحيان كان هناك نوع من الأجواء المسلية. خاصةً في النهاية، حيث أصبحت المهمة نوعًا من المزاح، حيث كان الجنود يطلقون النكات الساخرة أو يصورون مقاطع فيديو للمعتقلين أو يتداولون النكات عن الشاويش. فقد كنا دائمًا نطلب القهوة في أروما [مقهى] في بئر السبع، وكان أحدهم يخبر أمين الصندوق أن اسمه شاويش – وكان الجميع ينفجرون ضحكًا عندما ينادى عليه عبر مكبر الصوت [لاستلام طلبه].



لم أجد الأمر مضحكاً. كنت أعتقد أن وضع الشاويش كان مفجعًا. كانت هناك أوقات يصرخ فيها الحراس “اصمتوا!” لأنه لم يكن مسموحًا للسجناء بالتحدث. وعندها كان ضابط الشرطة العسكرية يقول للشاويش: “اسمع، إذا لم يصمتوا، سنوقفهم جميعًا على أقدامهم الآن! لذا قل لهم أن يصمتوا”. وبعد ذلك كان الشاويش يقول لهم: “اسمعوا، اسمعوا، اسكتوا، وإلا سيعاقب الجميع”. كان يحاول أن يكون لطيفًا، على الرغم من أن الموقف كان مستحيلًا من وجهة نظره. وعندما كانت الغمغمة تستمر كان ينزعج ويصرخ عليهم مرة أخرى ولم يعد واضحًا ما إذا كان ذلك من القلق – حتى لا يتعرضوا للضرب – أم أنه شعر كما لو أنه كان في الجانب الآخر مع الحراس.

كانت ظروفه مشابهة إلى حد كبير لظروف المعتقلين الآخرين، لكنه لم يكن مقيد اليدين أو معصوب العينين، ولم يكن مضطرًا للجلوس منتصبًا على الأرض. وكان في الواقع حر الحركة تمامًا، ولكن فقط داخل الحجز. رأيته ذات مرة، بعد أن انتهى الجميع من تناول الطعام، يأخذ شريحة أخرى من الخبز المتبقية لنفسه. لا أعرف ماذا كان يفعل في غزة، ولكن في ظل ظروف كهذه… من الواضح أنه لم يكن من النخبة أو من حماس.

عندما كنت هناك، كنت أصارع نفسي حول ما إذا كان عليّ البقاء ومحاولة القيام بالشيء الصحيح، بأفضل ما أستطيع كشخص أخلاقي، أو ما إذا كان عليّ أن أنهض وأعلن رفضي المشاركة في ذلك. إن فكرة أن هذا المكان كان سيستمر في العمل بعد مغادرتي أصابتني بالاكتئاب، وأن الكثير من الجنود سينتهي بهم الأمر إلى العمل في هذا الموقع الخرساني. ورغم أنني لم أمكث هناك سوى فترة قصيرة، إلا أنني خرجت بشعور ثقيل بالذنب.

د. ل.، طبيب في مستشفى عام
وصلت إلى المرفق الطبي في سديه تيمان خلال فصل الشتاء. في إحدى خيام الاستشفاء، لم يكن هناك أكثر من 20 مريضًا. جميعهم كانت أطرافهم الأربعة مكبّلة بالأغلال إلى أسرّة فولاذية قديمة، مثل تلك التي كانت تستخدم في مستشفياتنا منذ سنوات. كانوا جميعًا في وعيهم وكانوا جميعًا معصوبي الأعين طوال الوقت.

كان هناك مرضى في حالات مختلفة. كان بعضهم قد وصل بعد وقت قصير جدًا من إجراء عملية جراحية خطيرة. وكان العديد منهم مصابين بطلقات نارية، وكان هناك شخص أصيب بطلق ناري في منزله في غزة قبل ساعات قليلة فقط. يعرف كل طبيب أن هذا الشخص يحتاج يوما أو يومين في العناية المركزة ثم يُنقل إلى جناح وهناك فقط يبدأ التعافي الفعلي. لكن هذا الشخص تم إرساله إلى حظيرة في “سيدي تيمان” بعد ساعتين من إجراء العملية الجراحية – إلى خيمة. في المستشفى، كانوا يقولون إنه يمكن إخراجه، وكنت أعارض ذلك. مرضى كهؤلاء في المستشفيات يوضعون في العناية المركزة، هذا أمر واضح تماماً.

كان هناك مريض آخر يعاني من عدوى جهازية – تعفن الدم – وكان في حالة حرجة، وحتى وفقًا للبروتوكول، لم يكن ينبغي أن يكون هناك. من المفترض أن يتم إدخال المرضى ذوي الحالة المستقرة تمامًا فقط إلى مستشفى سديه تيمان. لكنه كان هناك وقالوا إنه لا يوجد بديل.

بخلاف حقيقة عدم وجود جرّاح هناك، وهو أمر لا يمكن تصوره في مكان كهذا، كان الفريق الطبي محترفًا للغاية لقد حاول الجميع حقًا – إذا تجاهلنا حقيقة أن احتجاز شخص دون السماح له بتحريك أي من أطرافه، ومعصوب العينين، وعاريًا، وتحت العلاج في وسط الصحراء… هو في النهاية أمر لا يقل عن التعذيب، فهناك طرق لممارسة معاملة سيئة أو حتى تعذيب شخص ما دون إطفاء السجائر في جسده. واحتجازهم هكذا، غير قادرين على الرؤية أو الحركة أو الكلام، لمدة أسبوع أو 10 أيام أو شهر… هذا لا يقل عن التعذيب. خاصة عندما يكون من الواضح أنه لا يوجد سبب طبي.

لماذا تقيد أرجل شخص مصاب بجرح في بطنه منذ يومين؟ ألا يكفي تقييد اليدين؟

تكمن المشكلة في أنني عندما كنت هناك، بدا لي كل شيء طبيعيًا بطريقة ما، لأن هناك أعذارًا [لإرسالهم إلى مستشفى المخيم]، والعمل الطبي يتم في مكان طبيعي ومألوف. ولكن في النهاية، ما يحدث هناك هو تجريدهم بالكامل من إنسانيتهم. فأنت لا تتواصل معهم كما لو كانوا بشرًا حقيقيين. من السهل أن تنسى ذلك عندما لا يتحركون ولا يتعين عليك التحدث إليهم. عليك فقط التحقق من بعض الإجراءات الطبية التي تم اتخاذها، وعلى طول الطريق تزيل البعد الإنساني للطب بأكمله.

هل تفاعلت بأي شكل مع المرضى؟
لا، قطعاً لا. لا يُسمح لهم بالتحدث، والمترجمون موجودون فقط للمساعدة عندما يتعلق الأمر بالمواضيع الطبية البحتة. [المرضى] لا يعرفون حتى من أنا، سواء كنت جنديًا أو… لم يروني، ربما سمعوا وشعروا فقط أن شخصًا ما قد وصل لفحصهم، أو شيئًا من هذا القبيل.

لقد شعرت بإحباط شديد لأنني لم أستطع النظر في أعينهم. هذه ليست الطريقة التي تعلمت بها علاج المرضى، بغض النظر عما فعلوه. والأمر الأكثر إثارة للصدمة هو أنني عندما كنت هناك، يجب أن أعترف… لم أكن حتى حزينًا. بدا الأمر كله سرياليًا بالنسبة لي، على بعد ربع ساعة بالسيارة من بئر السبع. لقد كان كل ما تعلمته عن كيفية علاج الناس طوال السنوات في الجامعة والمستشفيات موجودًا، ولكن في بيئة يتم فيها احتجاز 20 شخصًا عراة في خيمة. إنه شيء لا يمكنك تخيله. أعتقد أنه لو كنا نقاتل في أفغانستان، ربما كنت لأتفهم بطريقة ما سبب [وجود] مستشفى ميداني كهذا. ولكن هنا؟
بالنظر إلى الوراء، أصعب ما يزعجني هو ما شعرت به، أو في الواقع ما لم أشعر به، عندما كنت هناك. يزعجني أن ذلك لم يزعجني، وأنني بطريقة ما نظرت إلى الأشياء ولم أرها، أو بطريقة ما… شعرت بالرضا عنها. كيف لم أسأل عن التفاصيل الصغيرة؟ لماذا هم مغطون بالبطانيات؟ لماذا هم مجهولون؟ لماذا نحن مجهولون؟ كيف يمكن أن يتبوّلوا ويتغوّطوا في حفاضات تُستخدم لمرة واحدة؟ لماذا يُعطون شفاطة طعام ليأكلوا بها… لماذا؟

أعتقد أنه كان من الواضح لي بالفعل أن ما يحدث هناك ليس صحيحًا، ولكن ليس من الواضح إلى أي مدى. ربما هناك عملية اعتياد. أنت بين محترفين، تتحدث العبرية، وقد اعتدنا بالفعل على رؤية سجناء مكبلي الأيدي في المستشفيات. لذا بطريقة ما… تصبح العملية طبيعية هناك وفي مرحلة ما يتوقف الأمر ببساطة عن إزعاجك.

ت.، 37 عاما، جندي احتياط من الشمال
تم استدعاء كتيبتي بعد أيام قليلة من أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وقمنا بمهام الحراسة لمدة شهر في التجمعات السكانية القريبة من حدود غزة. وخلال فصل الشتاء تم استدعاؤنا مرة أخرى للخدمة الاحتياطية، ولكن فجأة قالوا إننا سنقوم أيضًا بمهام الحراسة في سديه تيمان. كانت تلك مفاجأة كبيرة. قضيت هناك 20 يومًا، وكان المكان مقسمًا آنذاك إلى أربعة حظائر رئيسية، في كل منها حظيرتان. وكان في أحد الحظائر أيضًا حظيرة صغيرة إضافية للقاصرين. وإجمالاً كان هناك تسع حظائر وفي كل واحدة ما بين 50 و100 معتقل، باستثناء الحظيرة التي كان بها قصّر حيث كان هناك ما بين 10 و20 معتقلاً.



في كل حظيرة، كان الجميع يرتدون نفس الملابس زرقاء اللون وعصابة أعين صفراء تميل للبرتقالي. كانوا ينتعلون الشباشب، وكان لكل منهم حصيرة يوغا، ولكنها أرفع من ذلك، ولم يكن يُسمح لهم بالتحرك من عليها. وخلال النهار لم يكن يُسمح لهم بالاستلقاء. وفي الليل لم يكن يُسمح لهم بالجلوس. ولم يكن يُسمح لهم بالوقوف على الإطلاق دون إذن، ولم يكن يُسمح لهم بالتحدث. كانوا في معظم الأوقات يجلسون وأذرعهم مقيدة وأعينهم معصوبة. وفي الواقع، لم يكن الأمر كذلك معظم الأوقات، بل هم على هذا النحو طوال الوقت، ليلًا نهارًا.

هل تم تقييدهم من الخلف أم من الأمام؟
بشكل عام من الأمام. يتم تقييدهم من الخلف عقابًا لهم وكان هناك البعض ممن كانت أرجلهم مقيدة أيضًا. كان هناك مقياس لمدى خطورتهم، من 1 إلى 4، وكان أولئك الذين يتم تصنيفهم برقم مرتفع مثل 4، يجلسون في المقدمة ليكونوا أقرب إلى الحراس. لقد اطلعت سريعًا على القوائم. في الغالب كان يتم تصنيف مقاتلي النخبة في المرتبة 4. لا أعرف إن كان من المفترض أن تكون القوائم مفتوحة للجميع، لكنها كانت موجودة في مكتب الشرطة العسكرية وقد رآها بعض الجنود. لقد فهمت أن المرتبة 3 هي مرتبة مقاتل من حماس ليس من النخبة، ولكنه مقاتل. والمرتبة 2 هو شخص ينتمي إلى حماس ولكنه ليس مقاتلًا. والشخص المصنف في المرتبة 1 هو شخص لا ينتمي إلى أي منظمة. وقد تم تصنيف حوالي 20 بالمائة في المرتبة 4، وكانوا جميعًا يجلسون في المقدمة وأرجلهم مقيدة أيضًا. ولا أعرف السبب.

يكون الاستيقاظ في حوالي الساعة 5 صباحًا، عندما يصل ضباط الشرطة العسكرية لمناوباتهم. يستخدمون مكبرات الصوت ويطلبون من الجميع الوقوف. بعد ذلك مباشرةً، يتم إحصاء عدد الأشخاص. يصل الضابط المناوب ويقرأ الأسماء. كل من يسمع اسمه يجيب بـ “نعم أيها النقيب” [بالعبرية] ثم يجلس. ثم يقيمون الصلاة، ويصلي كل شخص بمفرده، ثم يحضرون صندوقًا به طعام يوزعه الشاويش وعادةً ما يكون أربع أو خمس شرائح من الخبز وشيء ما يتم دهنه عليها. في الصباح يكون الجبن، وفي الغداء التونة، وفي المساء المربى أو شيء من هذا القبيل. وكذلك الفاكهة أو الخضروات.

من يقوم بطلي الخبز؟
يفعلون ذلك بأنفسهم.

معصوبي الأعين؟
نعم. يمكنهم القيام بذلك حتى وهم معصوبي الأعين. إنها ليست معصوبة بإحكام وقد يتمكنون من رؤية ما هو قريب منهم وتحتهم. كما أنهم يمشون إلى المرحاض بنفس الطريقة ولا يصطدمون بالجدران، لذا أفترض أنهم يرون شيئاً ما.

وهل لديهم أدوات طعام ذات استخدام واحد؟
لا أعتقد أنني رأيت شيئاً من هذا القبيل.

إذًا هل كانوا يطلون الخبر بالجبن أو التونة بأصابعهم؟
نعم.

وأين المرحاض؟
في الحظيرة. هناك مرحاضان أو ثلاثة مراحيض كيميائية هناك. لكن عليهم أن يستأذنوا للذهاب. إذا أرادوا شرب الماء، يرفعون أيديهم ويذهب الشاويش ليحضره لهم. أحياناً قد يمنحهم الشرطي دقيقتين ليقفوا ويتمددوا. لم أفهم تمامًا القواعد أو متى يحدث ذلك. أحيانًا كان ذلك يحدث مرة واحدة في اليوم، وأحيانًا ثلاث مرات في الأسبوع.

كل من يخالف التعليمات أو يهمس أو يحاول تحريك عصبة عينيه يُعاقب، وكانت أسهل عقوبة هي [إجباره على] الوقوف، وكانت المرحلة التالية هي الوقوف مع رفع الذراعين، والمرحلة التالية هي أن يتم إخراجهم من المنشأة وإعطاءهم ما يقارب أربع أو خمس ضربات بالهراوة في مكان ما في الجزء العلوي من الجسم، وليس في الوجه”.

أين يحدث ذلك؟
خارج منطقة الحجز. يتم أخذ الشخص إلى مكان خفي، أو إلى زاوية لا يرى الحاضرون هناك [ما يحدث].

ممن كان يجب على الأشخاص [الذين ينفذون العقوبة] أن يختبئوا؟
سؤال جيد… لا أعرف. ربما من غرفة التحكم [في مجمع مغلق في الموقع، محظور على الجنود] التي تراقبهم. قيل إن هناك شخصًا ما كان يراقبهم طوال الوقت، على الأقل من الناحية النظرية.

من كان يقوم بالضرب؟
عادةً ضباط الشرطة العسكرية.

لماذا تقول “عادة”؟
مثلًا، كانت هناك في الواقع حالات لجنود كانوا متحمسين حقًا للضرب، لذلك كانوا يطلبون ذلك… وكانت الشرطة العسكرية توافق أحيانًا على السماح لهم بذلك، ولكن عادةً ما كان الضباط أنفسهم هم من يقومون بذلك.

إذن لماذا وافقوا في بعض الأحيان على السماح للجنود بالقيام بذلك؟
لا أعرف، أعتقد أنه كان نوعًا من الانحراف، لكنني لست متأكدًا مما إذا كان ذلك مخالفًا للقواعد أو أنه كان مخالفًا للعرف فقط. كان هناك شعور بأنه لم يكن من الصواب السماح للجنود بالقيام بذلك.

كيف كان رد فعل المعتقلين؟
بشكل عام، كانوا هادئين جدًا في تلك المرحلة لأنهم في بعض الأحيان كانوا يصرخون أثناء الضرب، ولكن عندما يتم إعادتهم إلى الحبس بعد ذلك يكونون مستسلمين جدًا.

خلال نوبة عمل متوسطة، كم كان عدد حالات العقاب؟
يمكنني أن أقول… كانت هناك حالة ضرب مرة كل ساعتين. كان هناك الكثير من عقوبات الإجبار على الوقوف، في معظم الأوقات كان أحدهم واقفًا.

هل كانت هناك حوادث أخرى تنطوي على عنف؟
نعم، تضمنت العقوبات عنفًا بسيطًا نسبيًا. كان العنف الأكثر تطرفًا في عمليات التفتيش الجسدي لجميع النزلاء في السجن. كان التفتيش في الحقيقة شيئًا عنيفًا جدًا جدًا، وفي الغالب، كان يتم بواسطة القوة 100. في البداية لم يكن واضحًا بالنسبة لنا ما إذا كان ذلك شيئًا رسميًا أم أن هؤلاء كانوا مجرد أشخاص يطلقون على أنفسهم اسم “القوة 100” [وحدة من جنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي تخضع لقيادة الشرطة العسكرية] ولديهم هذا النوع من العلامات التي تُلصق على زيهم.

بعد ذلك أصبح الأمر أكثر مؤسسية. إنهم جنود احتياط ولكن لديهم شيء من الغرور [تغطرس الجنود]، الأمر الذي أصبح منتشرًا في الجيش الآن، الواجهة بأكملها. إنهم يرتدون زيًا تكتيكيًا ويتجولون مرتدين أقنعة تزلج مع معدات خاصة، وهناك أيضًا هالة من السرية حولهم.

قال الجنود إنهم رجال من وحدات العمليات الخاصة، وكان من المفترض أن يتعاملوا مع اضطرابات خطيرة. لذا فإنهم يقومون بعمليات التفتيش هذه مرة أو مرتين في الأسبوع في كل حظيرة، وعندما يأتون للتفتيش، ترافقهم مجموعة كبيرة من الأشخاص والضباط. لا أعرف بالضبط ما هو دورهم، لكنهم كانوا يقفون هناك، ويراقبون إلى حد كبير.

عادةً ما كان فريق من القوة 100 يتألف من حوالي 10 مقاتلين يقوم بالتفتيش، وكانوا يُجبرون المعتقلين على الاستلقاء على بطونهم وأيديهم خلف رؤوسهم. خلال التفتيش الأول الذي رأيته، كان يتم إخراج خمسة سجناء في كل مرة ثم جعلهم يستلقون على بطونهم، وفقًا لنوع من الأوامر، وكانوا يخرجونهم بعنف، ويوقفونهم بالخارج ووجوههم إلى السياج ويقومون بتفتيشهم. وعادة ما كانوا يسحبون أحدهم – لا أعرف ما إذا كان ذلك عشوائيًا أم لا – ويلقونه على الأرض، وكانوا يفتشونه ويضربونه أيضًا. بدا الأمر وكأنه ذريعة لبث الرعب، لم يكن تفتيشًا عاديًا، كان الأمر عنيفًا للغاية، وخاصة بالنسبة للرجال الذين ألقوهم على الأرض الذين تعرضوا للضرب المبرح. استمروا في التفتيش، وكانوا يأخذون خمسة رجال في كل مرة، حتى فتشوهم جميعًا وأعادوهم إلى الداخل.

وكان هناك شيء آخر. كانت القوة 100 تأخذ نحو عشرة أشخاص من كل سجن. كانوا يأتون بقوائم وهم يعرفون من هم أولئك الأشخاص. كانوا يأخذون هؤلاء الرجال جانباً ويهاجمونهم بشدة. وأنا أعلم أن هذه القائمة أعدتها الشرطة العسكرية وليس الاستخبارات العسكرية أو جهاز الأمن الداخلي (الشاباك). بعبارة أخرى، لم يكن ذلك بهدف استخلاص معلومات استخباراتية منهم. كانوا يأتون بقائمة أسماء ويضربونهم بوحشية. وكانت الضربات تصل إلى مستوى… أعتقد أنه في كل مرة كانت هناك أسنان وعظام تُكسر لأن الضربات كانت قوية حقاً.

أين كان يتم ذلك؟
بالنسبة للضرب نفسه، كان يتم أخذهم جانبًا، إلى مكان أكثر خفاءً. أما بقية الجنود والمعتقلين فقد ظلوا واقفين… لقد رأيت تلك الضربات: ستة أو سبعة رجال من القوة 100 يقفون حول رجل واحد ويركلونه، ضربات، وصفعات، ولكمات، وكل شيء، وكان اثنان أو ثلاثة منهم يقفون جانبًا وهم يحملون أسلحة للحراسة، وكان هناك أيضاً كلب.

كم من الوقت استمر هذا الأمر؟
إلى أن سئموا من ذلك. في بعض الأوقات أيضًا كانوا يقومون بدعوة جنود نظاميين للمشاركة في الضرب، من وحدات الحراسة أو من الشرطة العسكرية. لا أعرف ما إذا كان الأمر منسقًا مسبقًا معهم أم أنهم كانوا يستدعونهم بشكل عفوي، لكنها كانت مثل إيماءة لبعض الجنود الذين كانوا على دراية بالأمر.

كانت هناك حالات لم أر فيها الضرب، لكنني سمعت اللكمات أو الصراخ. كانت الصرخات شديدة للغاية. كانت أكثر حدة مما كنت أسمعه أحيانًا في الاستجوابات الأخرى. وكانت الكلاب تأتي وتنبح وتقفز عليهم طوال هذا الوقت، مع الكمامة نعم، ولكن كانت تخدشهم وتخيفهم حقًا. في البداية كانت هناك أيضًا قنبلة صوتية. أجل، في كل مرة كان يبدأ التفتيش هكذا، كانت القوة 100 ترمي قنبلة صوتية في الحظيرة.

كم من الوقت استغرق [الإجراء]؟
استغرق وقتاً طويلاً. هناك الكثير من الناس. قد يستغرق الأمر ساعة أو ساعة ونصف. وقتا طويلًا. كانت عملية التفتيش الثانية التي رأيتها مماثلة تقريبًا للأولى، إلا أنها جرت في الداخل – لم يتم إخراج المعتقلين. بعد أن ألقوا القنبلة الصوتية وانبطح الجميع أرضًا، دخلت القوة 100 وأخذوا خمسة أشخاص في كل مرة وحشروهم في زاوية ما من الحظيرة وفعلوا الشيء نفسه: تفتيش عنيف جدًا. وبعد ذلك، عندما أعادوا المحتجزين، ألقوا بهم ببساطة إلى أماكنهم.

ماذا تقصد بـ “ألقوا بهم”؟
ألقوا بهم. بمعنى أنهم ألقوا الرجل فسقط على أشخاص آخرين. كان معصوب العينين ومقيدًا بالأغلال ولم يستطع حتى أن يحمي نفسه من السقوط.

ولم يقل أحد من الأشخاص الحاضرين أي شيء؟
لا أحد. كان هناك الكثير من الأشخاص، بما في ذلك الضباط، ولم يكن شيئا يحدث في الظلام. كان هذا النوع من الأمور يحدث في السجن، لذلك رأى الجميع ما كان يحدث. كان هناك اثنان أو ثلاثة من المقدمين من الشرطة العسكرية، ولم يكن الأمر يتم دون علم قائد المعسكر. لا أعرف ما إذا كان هذا إجراءً متبعًا، لكن يبدو أن الجنود كانوا يعرفون بالضبط ما كانوا يفعلونه.

والضباط؟
نعم، كانوا يقفون هناك، كانوا هم قادة القوة 100. لم يكن الأمر يبدو وكأن القوة قررت من تلقاء نفسها القيام بذلك.

هل تعلم لماذا تعرض هؤلاء المعتقلون بالتحديد للضرب؟
لم أر ولا أعرف. ربما تصرفوا بشكل سيئ؟ كان هناك أيضًا أشخاص رأيتهم يحملون قوائم الشرطة العسكرية [بالأسماء]. على سبيل المثال، كان هناك شخص متورط في أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لذلك كانوا يخرجونه في كل مرة ويضربونه.

في مناسبات مختلفة؟
نعم.

ما الفرص التي كانت متاحة لضربه؟
بسبب عمليات التفتيش، أعتقد أن ساقيه كانتا مكسورتين، لذلك كان عليه في كل مرة أن يقف لأجل إحصاء عدد الأشخاص، وعندما لم يكن يستطيع الوقوف كان هذا ذريعة لإخراجه وضربه مرة أخرى.
لكن هل تعرض للضرب في كل عملية عد للمسجونين؟ 

ليس في كل عملية عد للمسجونين، ولكن حدث ذلك كثيرًا جدًا، كثيراً جداً.

هل قال أي شيء؟
لا، كان يبدو منهكًا. وأحيانًا كان يتوسل إليهم أن يتوقفوا.

وبينكم أنتم، بين الجنود، هل كان لدى أي شخص أسئلة حول ما كان يحدث هناك؟
كان هناك جنود، معظمهم من الإناث، أصيبوا بنوع من الذعر عندما رأوا عملية التفتيش، لكن كان هناك الكثير ممن كانوا متحمسين للقيام بتلك المناوبات، وكانوا يرغبون في التواجد هناك، حتى الضباط من سريتي كانوا يبحثون عن عذر للظهور. إنها تملؤك بالأدرينالين… مثلما حدث عندما كنتُ في هذا الموقف أيضًا… إنه ليس موقفًا عاديًا. إنه يسبب التوتر. وبقية الوقت يكون الأمر مملاً في خيمة الاستراحة، ولا يوجد الكثير من التفاعل بين الجنود. فهناك بعض الطاولات، تجلسون وتمررون الوقت وفجأة يحدث ما يحدث؛ حيث تكون هناك حركة.

وكان معظم الرجال راضين بما كان يحدث، وكان هناك البعض ممن انزعجوا قليلًا من الأمر، وكان هناك آخرون انزعجوا منه في البداية ثم انصاعوا للنظام. وكانت الأعذار هي “إنه وقت الحرب” و”إنهم فظيعون” و”لا توجد طريقة أخرى لفرض الانضباط عليهم”.

من أصعب الأمور بالنسبة لي لم يكن الضرب بالضرورة، بل أنهم كانوا مكبلين بالأغلال طوال الوقت، دون أن يتمكنوا من الرؤية أو الحركة؛ إن هذا هو أقسى أنواع التعذيب. فعندما كنا نتحدث بين الشباب في بعض الأحيان، كان هناك أشخاص يذكرون فجأة في أحاديثهم كلمة “تعذيب”، ثم قلنا: إنه تعذيب، لكنك لا تخوض في الأمر، بل تغير الموضوع على الفور.

كما أنني كنت أقل اهتمامًا مع مرور الوقت، فقد كانت المناوبات الأولى صعبة للغاية. لكن بعد ذلك لم يعد الأمر يخلق نفس المستوى من التوتر، فلا يوجد شيء يمكنك فعله، وهناك نفس المحفزات طوال الوقت، ويعتاد الدماغ على ذلك.

هل كانت هناك لحظات حدثت فيها لفتات إنسانية هناك؟
حدث ذلك، لكنها كانت لحظات نادرة. ففي بعض الأحيان كانت الشرطة العسكرية تعطي القاصرين الحلوى، في المساء مثلًا، قبل النوم. وفي إحدى المرات بدأ أحد المعتقلين بالبكاء، وكان أكبر سنًا؛ حيث يبلغ 60 سنة، فحاول الضابط المناوب التحدث معه وإسعاده قليلاً. ومن خلال المنشور، حاول أن يعرف من هو؟ ولماذا هو هنا؟ فقال المحتجز إنه كان مدرسًا عاديًا، إلى أن تم اقتياده، وطلب أن يعامل كإنسان. وحدث شيء مماثل مع نفس الضابط مع أحد القاصرين، الذي بدأ بالبكاء أيضًا، فسأله عما يود أن يكونه عندما يكبر، وفي النهاية أخبره أن الأمور ستكون على ما يرام.

كان ذلك نادرًا، نادرًا جدًا. أعتقد أن الضابط كان في مزاج متحرر نوعًا ما في ذلك اليوم، لأنها كانت آخر نوبة عمل له.

أ. طالب وجندي احتياط في الشرطة العسكرية
خدمتُ في الوحدة التي استقبلت المعتقلين في سديه تيمان خلال الأشهر الأولى من الحرب، وكانوا يصلون كل يوم تقريبًا، وفي الليل أيضًا. وعادةً ما كانوا يأتون مباشرةً من الميدان، يرافقهم مقاتلون أو عناصر من الشرطة العسكرية. وكانوا يأتون إلينا وأيديهم مقيدة، وأحيانًا يرتدون ملابس وأحيانًا بملابس داخلية فقط، أو شيء يخفي أعضائهم التناسلية.

وما هو “الشيء”؟
قطعة قماش أو شيء وجدوه هناك. في منطقة الاستلام، كانوا يُنزلون من “تيوليت” [شاحنة مفتوحة بها مقاعد لنقل الأشخاص] ويتم ترتيبهم في صفوف، وكانوا ينتظرون هناك حتى نأخذهم إلى المكتب، واحدًا تلو الآخر. وهناك كنا نسألهم عن أشياء أساسية، مثل مكان احتجازهم ومكان إقامتهم، وكنا ندخل المعلومات إلى الكمبيوتر. وكانوا يخضعون لاستجواب أولي في الميدان، لكننا لم نحصل على تفاصيل مسبقة عن هويتهم أو ما فعلوه، ولقد أزلنا عصابات أعينهم لبضع دقائق، فقط من أجل التقاط الصورة.

لقد التحقت بالجيش مؤمنًا وما زلت مؤمنًا بأن الجيش يعرف كيف يحقق أهدافه، حتى لو لم يفهم الجندي العادي ذلك دائمًا، وحتى لو بدا الأمر سيئًا من الخارج. لقد التقيت بالعديد من الأشخاص أصحاب المبادئ في الاحتياط، ولكن كان هناك أيضًا بعض الأشخاص الذين لم يكونوا كذلك؛ كان هناك بعض من كل منهم”.


في البداية، وبسبب عدم حضور عدد كافٍ من جنود الاحتياط، أحضروا فتيات من وحدة “غيهليت” التابعة للشرطة العسكرية لاستقبال المعتقلين، كانت معظمهن في الجيش النظامي ويعملن مع السجناء [في إعادة التأهيل]، لكنهن لم يكن مستعدات للتعامل مع جنود النخبة. في البداية وصل الناس إلى هنا، وكان بعضهم جرحى من القتال، ولم يكن المنظر جميلاً، خاصة أولئك الذين تم القبض عليهم في إسرائيل ووصلوا بعد أن خضعوا لاستجواب قاسٍ في الميدان. وكان من الواضح أنه كان من الصعب على جنديات “غيليت” التأقلم نفسيًا مع الوضع، لذلك أحضروا ضابط صحة نفسية تحدث معهن وبعد ذلك عدن إلى مهماتهن، ولقد كان بعضهن ينهرن أحيانًا.

عليك أن تتذكر أيضًا تلك الفترة؛ كانت هذه القاعدة انعكاسًا للأجواء السائدة في البلاد. ففي الأشهر الأولى؛ يقف أحدهم في مواجهتك وأنت لا تعرف ماذا فعل، وما إن كان من نخبة “المقاتلين”، أم إن كان قد اغتصَب، أم إن كان قد قتَل، أم إن كان يستحق الحياة؛ وأنت غاضب بشدة، كما أن الجميع غاضبون بشدة، فهناك رغبة في الانتقام. بالطبع، لا أحد يعتقد أنه يجب تدليلهم أو ما شابه، لكن مع ذلك، لم تعتقد الأغلبية أيضًا أننا الذين يجب أن نكون القائمين على تنفيذ العقاب.

لكن أن نقول إنه لم يكن هناك أناس حاولوا استخدام القوة بأنفسهم؟ بالتأكيد كان هناك. لكن ما رأيته، على الأقل بعينيّ، كان على نطاق ضيق جدًا. وفي الغالب عندما لم يكن المعتقلون هادئين، أو شيء من هذا القبيل، وأحيانًا بدون سبب، لا أعرف، يمكنني أن أسميه أشخاصًا غير آمنين يحاولون التنفيس عن عدوانيتهم، لكنها ليست أشياء مبالغًا فيها في الواقع، وليست أشياء يمكنني أن أقول إنها أثرت عليّ.

هل يمكنك إعطاء مثال؟
إذًا، في بعض الأحيان في منطقة الاستقبال، كان هناك أشخاص يدفعون فجأة شخصًا لم يفعل أي شيء، أو يضربون شخصًا ما لعدم التزامه الهدوء، وعادة ما كان الجنود الذين أحضروهم من الميدان هم من يفعلون ذلك. لقد رأيت أشياء مثل الصفع، وإهانة الأشخاص، ودفع شخص ما على الأرض ثم يأمرونه بالجلوس، رغم أنه كان جالسًا من قبل. ولكن لم يكن هناك أوامر عليا بالتصرف على هذا النحو، بل كان هناك أشخاص محددون يشعرون بالراحة عند القيام بذلك.

هل كانت هناك أحداث استثنائية؟
“بما أنك ذكرت الأمر، أتذكر قصة مع تيوليت. كان هناك جنود قاموا برمي الفلسطينيين من فوقها.

رموهم؟
بدلًا من إنزالهم من على الدرج، قاموا ببساطة بدفعهم من على ارتفاع أرضية المركبة إلى الأسفل على الأرض.

هل كانوا مقيدين ومعصوبي الأعين؟
“نعم، مكبلي الأيدي، ربما أيضًا من أرجلهم. لقد سقطوا فقط مثل الحجر.

هل أصيب أحد منهم؟
في رأيي؛ نعم. أصيب شخص منهم.

هل تمت معاقبة أي شخص على ذلك؟
ليس على حد علمي. في الأيام التي تلت ذلك، قيل لنا إن الأمر لم يكن مقبولًا. وقال القادة في المنشأة إننا بحاجة إلى التأكد من عدم حدوث ذلك مرة أخرى.

هل واجهتك معضلات أثناء خدمتك هناك؟
أعتقد أن بعضها ظهر، لا أتذكر بالضبط، ولكن كما قلتُ، جئت للقيام بالعمل دون التفكير كثيرًا في الأمر. لقد اعتمدتُ على فكرة أن النظام الأكبر يعرف ما يحتاج مني القيام به ولماذا يحتاجني هناك. وأنا أثق بالجيش. وكل ما رأيته في سديه تيمان بدا لي، بشكل عام، منطقيًا جدًا في ظل هذه الظروف.

ر.، طالب وجندي احتياط، من تل أبيب
تم استدعائي مع كتيبتي في 11 تشرين الأول/ أكتوبر، وقمنا بحراسة التجمعات السكانية لمدة شهرين تقريبًا، ثم عدنا إلى الخدمة الاحتياطية في نيسان/ أبريل، وفجأة تم إبلاغنا بأنه تم إرسالنا إلى سديه تيمان، وكان ذلك غريبًا حقًا في مثل هذه المهلة القصيرة. وقد قال صديق من السرية كان يعمل في مقر الكتيبة إنهم أبلغونا بذلك في آخر لحظة حتى لا يكون لدينا الوقت الكافي لاستيعاب الأمر. أعتقد أنهم أرادوا منع الاعتراضات.

عندما وصلنا، تحدث إلينا على الفور قائد المنشأة، وهو ضابط برتبة مقدم، وقال لنا إن هذه كانت “مهمة بالغة الأهمية، وهي مهمة صعبة ومليئة بالتحديات”. وقال إنهم كانوا يستوفون جميع الشروط [القانونية]، وأنهم “يقدمون جميع الخدمات الطبية والطعام بالكمية الكافية من السعرات الحرارية”، وأن “كل شيء يتم وفقًا للقانون”. وقال إنه يخضع للمراجعة ويخضع لإشراف دقيق. وأخبرنا أن جنوده منضبطون للغاية وأنه لم يكن من المفترض أن يكون لدينا أي تفاعل مع المحتجزين. وفي النهاية، تحدث مرة أخرى عن أن كل شيء هناك كان سليمًا وقانونيًا.

عندما تأتي إلى المعسكر، أول ما يلفت انتباهك هو الرائحة؛ حيث كان المكان كريه الرائحة حقًا، بشكل كبير جدًا. وعندما يكون هناك القليل من الرياح، ربما يمكنك تغيير مكانك قليلًا حتى تتمكن من تجنب [الرائحة]، لكن في مكان قريب كان الأمر لا يطاق.

كيف كانت الرائحة؟
مثل رائحة عشرات الأشخاص الذين جلسوا في أماكن متقاربة لأكثر من شهر بالملابس نفسها وفي حرارة جنونية. لقد كانوا يسمحون لهم بالاستحمام لبضع دقائق حوالي مرتين في الأسبوع، لكنني لا أتذكر أنهم كانوا يغيّرون ملابسهم، وعلى أي حال لم يكن ذلك في نوبات عملي.

لقد جئت إلى هناك بعقلية الجندي. ودعونا نقضي فترة خدمتنا، دون أن نطلب أي شيء، ثم نعود إلى المنزل. لكن وقعت حادثتان لم أستطع على إثرهما الاستمرار هناك أكثر من ذلك.

الأولى كانت في أحد الأقفاص؛ فقد جاء رجال من قوة الحراسة، الذين كانوا في رأيي من الشرطة العسكرية الاحتياطية. دخلوا وهم يرتدون أقنعة تزلج، واقتادوا ثلاثة أو أربعة معتقلين إلى الخارج. أجبروهم على السير منحنين وأيديهم مكبلة بالأصفاد وعلى وجوههم قماش “فلنلت”. وأمسك كل واحد منهم بقميص الشخص الذي أمامه، ثم فجأة رأيت أحد رجال الشرطة، عند مدخل القفص مباشرة، يمسك برأس المعتقل الأول و”بوووم”، ويهشمه بقوة في جزء حديدي من الباب، ثم هشمه مرة أخرى وقال “هيا”. في اللحظة التي رأيت فيها ذلك أصابتني صدمة كبيرة، لقد كان ببساطة أمامي مباشرة… ففجأة رأيت شخصًا تدور في رأسه فكرة: “حسنًا، هذا ليس إنسانًا. يمكنني ببساطة أن أضرب رأسه بالباب، فقط لأنني أشعر برغبة في ذلك”. أذهلتني الطريقة اللامبالية التي فعل بها ذلك. ولم يكن يبدو غاضبًا أو ممتلئًا بالكراهية، بل كان يضحك على ذلك.

هل قال أحد هناك أي شيء؟
لا.

هل وقعت هناك حوادث عنف أخرى أثناء وجودك في المنشأة؟
نعم، ولكن لم يكن الأمر “هيا، دعونا نضربهم”. وفكِّر أيضًا: هذا إجراء [يتطلب جهدًا]، فعليك أن تأخذ الرجل، وتحصل على مرافق، وتفتح قفلين، وتخرجه وتجلبه إلى مكان جانبي… لنقل بدون كاميرات، ومن الصعب القيام بذلك. لذلك لا تفعل ذلك بشكل عرضي.

تأتي الحالات الأكثر تطرفًا في أعقاب ذلك… فعلى سبيل المثال، قالت مجندة من السرية إن أحد المعتقلين اختلس النظر إليها ولمس أعضائه الجنسية، فأحضروا القوة 100 التي ضربته بوحشية.

وكانت هناك أيضًا حالة أخرى عندما جاءت القوة 100 للتعامل مع معتقل أشار بإصبعه إلى جندي. لم أرَ ذلك، لكن الرجال كانوا متحمسين جدًا. وعندما عادوا من المناوبة، تحدثوا بحماس عن الضرب الذي تلقاه. بشكل عام، الجميع يعرف مكان وجود الكاميرات، وكل الأشياء المتطرفة نسبيًا التي حدثت هناك كانت في مناطق لا تغطيها الكاميرات.

الحادثة الثانية التي أذهلتني كانت أثناء مناوبة ليلية في المستشفى؛ حيث كنت جالسًا، وأنا أشعر بالملل، مع ضابط شرطة عسكرية في الخارج، عندما طلب أحد المعتقلين في الداخل شيئًا ما، أو بكى، وكان الضابط درزيًا، فسألته إن كان يعرف ما هي قصة هذا المعتقل، قال إنه لا يعرف وسألني إن كنت مهتمًا. قلت له إنني مهتم، فدخل إلى الخيمة.

هل هذا مسموح؟
مستحيل! غير مسموح لك بالتحدث معهم على الإطلاق، ليس تحت أي ظرف من الظروف وليس عن أي شيء. لقد قيل لنا طوال الوقت: “انتبهوا لما تقولونه بجانبهم. ولا تتحدثوا عن أي شيء له علاقة بالأخبار، وعن الأشخاص الذين قُتلوا، أو عن رفح… إنهم يستمعون ويجمعون المعلومات الاستخبارية. ولا يمكنك حتى ذكر الأسماء بجانبهم، حيث ينادي أحدكم الآخر بالحرف الأول من اسمه.

ولكن عندما لا يكون هناك ضباط في الجوار، يفعل الجميع ما يحلو لهم، فلا أحد حريص بشكل خاص على أي شيء، وهذا هو الجيش الإسرائيلي… فعلى سبيل المثال، لا يُسمح لك بحمل هاتف محمول في أي مكان يكون فيه تفاعل مع السجناء، وخلال النهار، لا أحد يجرؤ على ذلك. أما في الليل، عندما لا يكون هناك موظفون كبار، تجلس ضابطات الشرطة العسكرية النسائية ويشاهدن المسلسلات التركية طوال المناوبة. كيف وصلت هذه المسلسلات إلى هناك؟ الجنديات يصطحبن الهواتف.

على أي حال، تحدث الضابط [الدرزي] معه لبضع دقائق باللغة العربية، وفي النهاية بدأ الفلسطيني بالبكاء. لقد دخل في نوبة بكاء شديدة، ثم خرج الضابط، وهو يقهقه بشكل خافت ويحاول ألا يضحك. وقال إن الرجل تحدث عن حياته في غزة، وعن عمله وعائلته. وقال إنه ذهب لزيارة شقيقه الذي كان يرقد في مستشفى الشفاء، وإنه اعتُقل هناك. وعندما سألته: “إذن لماذا يبكي؟” قال الضابط: آه … إنه يفتقد زوجته وأطفاله وعائلته، وليس لديه أي فكرة عما يحدث معهم.


لا أعرف لماذا ضحك الضابط. ربما كان ذلك بسبب الإحراج، أو ربما كان يحتقر القصة، وكأنه لم يصدقها. لكن في نهاية المناوبة، عندما كنت على وشك الخلود إلى النوم… بوووم! بدأت الأفكار تتسابق، حيث جلست على سريري ولساعات وأنا أبحث في غوغل عن القوانين المتعلقة بسجن المقاتلين غير الشرعيين. وأجريت جلسة على موقع شات جي بي تي وسألت عن الجرائم وقوانين الحرب، وفي اليوم التالي أدركت أنه لم يعد بإمكاني الاستمرار في ذلك.

ما الذي كان مثيرًا في تلك اللحظة؟
قصة المعتقل، وحقيقة أنه بدأ بالبكاء في النهاية. لقد كان عرضًا إنسانيًا ومدهشًا للغاية بعد كل التحضيرات والأشياء التي يخبرونك بها هناك. إنهم يستمرون في ضخها في دماغك بأنك يجب أن تنفصل عنهم فهم ليسوا أناسًا، وليسوا بشرًا.

من قال أشياء كهذه؟
الرجال، قائد السرية، والضباط، والجميع. كما تعلم؛ كانت هناك ضابطة قدمت لنا إحاطة في اليوم الذي وصلنا فيه، حيث قالت: “سيكون الأمر صعبًا عليكم. سترغبون في الشفقة عليهم، لكن هذا ممنوع؛ تذكروا أنهم ليسوا بشرًا… من وجهة نظركم، هم ليسوا بشرًا. إن أفضل شيء هو أن تتذكر من هم وما فعلوه في تشرين الأول/ أكتوبر.

حتى ذلك الحين كنت أشاهد تقارير [تلفزيونية]، وأشياء قالوها في الأخبار عن المكان. وشاهدت أيضًا مقاطع فيديو لسكان غزة المفرج عنهم الذين يتحدثون عما يحدث هناك. لكن فجأة، عندما تكون في المكان، يصبحون أشخاصًا حقيقيين، وتلاحظ كم من السهل أن تفقد إنسانيتك في ثانية واحدة، وكم من السهل أن تبتكر مبررات لمعاملة الناس وكأنهم ليسوا بشرًا. فالأمر يشبه ما حدث في فيلم “الموجة” [فيلم من إنتاج 1981 عن مدرس في مدرسة ثانوية يقوم بتجربة محاكاة مع طلابه كيف يمكن بسهولة أن يفقدوا إنسانيتهم]، ولكنه فقط أمامك وعلى الهواء مباشرة ولقد كان من الجنون رؤية كيف يحدث ذلك.

هـ.، 27 عاما، طالبة ومجندة احتياط
كنتُ قائدة فرقة للمجندين الجدد في الجيش النظامي، وتم تسريحي من الخدمة منذ حوالي ست سنوات. ولم يسبق أن تم استدعائي للخدمة الاحتياطية، حتى شهر أيار/ مايو عندما تلقيت رسالة نصية قصيرة تتضمن أمر استدعاء طارئ، “لمهمة ذات مغزى في سلاح الشرطة العسكرية”، دون أي تفاصيل. وفهمت من الأصدقاء أنه تم تعبئتنا لحراسة المعتقلين الأمنيين.

وصلت إلى هناك وأعطوني رقمًا، وجلستُ في مجمع الانتظار، تحت مظلة بها طاولات عليها فشار وقهوة مطحونة وحلوى غزل البنات، وكانت هناك موسيقى في الخلفية، كما في المهرجانات. وكان هناك الكثير من الناس وكان الجو حارًا للغاية. في هذه الأثناء، سمعت أحاديث من حولي، حيث قال بعض الناس إنهم كانوا ينوون ضرب المحتجزين أو البصق في طعامهم. وتحدث أناس طيبون أعرفهم عن القسوة والإساءة للناس، وكأنهم كانوا يتحدثون عن شيء روتيني، ولم يحتج أحد من الموجودين أو يعترض بشكل غير مريح، كما لم يتحدث أحد عن القانون أو عن دور السلطات.

لقد أخافني التجريد من الإنسانية، ولم أستطع أن أفهم كيف خضعت مجموعة من الشباب الذين كانوا حولي كل يوم لمثل هذه العملية الخطيرة في مثل هذا الوقت القصير. بالطبع أتفهم بالطبع الألم والخوف اللذين رافقاني أيضًا منذ شهر تشرين الأول/ أكتوبر، لكنني لم أصدق إلى أي مدى نجحوا في تشويه مفهوم الواقع لدى الأشخاص الذين يعيشون حولي. لقد شعرت بواجب توثيق ما سمعته، فأخرجت هاتفي وبدأت في تدوين كل ما سمعته [فيما يلي مقتطفات من نصها الذي عنونته بـ: “شهادة 2 حزيران/ يونيو 2024: استدعاء قائدات الفرق الاحتياطية للشرطة العسكرية”. وتدور المحادثات حول: “سنضربهم بالهراوات”، “سأبصق عليهم فقط”، “كيف تخططون لضرب الإرهابيين؟”، “أعتقد أن هذه هي المهمة، وهذا هو المطلوب.”، “لماذا يستحقون حتى ظروفاً كهذه؟”، “الحقيقة هي أنني بين وظيفتين ويناسبني في الواقع عشرة جنيهات”، “هل تريد حقاً أن تفعل هذا؟” – “نعم، أريد المال”، مع غمزة.

لذا، جلسنا للإحاطة، ودخل ضابط شرطة عسكرية لطيف وبدأ في الحديث: “ربما تسألون ما الذي تفعلونه هنا. نحن الشرطة العسكرية، ومهمتنا في [هذه] الحالة الطارئة هي معتقلو العدو”. وأوضح عدد الذين تم احتجازهم والمنشآت التي تم نقلهم إليها، ثم أكد: “من المهم بالنسبة لك أن تفهم، من أجل عودة الرهائن نحتاج إلى إعادة الأسرى، لذلك نحن نحتجزهم من أجل الصفقات. وفي الوقت الحالي، هم رصيد استراتيجي للجيش الإسرائيلي”.

عندما بدأت الأسئلة والاعتراضات، أصبح صارمًا، وقال: “أنتم جميعًا هنا بموجب أمر طوارئ. عليكم أن تخدموا في الوظيفة. وأنا هنا لأتوسط [الواقع] من أجلكم. حتى شهر مضى، لم يكن هناك حلوى أو فشار هنا. تم استدعاء الناس بالطبع، وقيل لهم: سلام، أنت ستخدم كحارس سجن لفترة غير محددة.
سأل أحدهم: “كيف يمكنكم استدعاء الفتيات لمهمة كهذه؟ فأجاب الضابط بأنهم مقيدو اليدين ومغطاة أعينهم بقطعة قماش، ويجلسون في قفص بقضبان. بمعنى آخر، ليس لديك أي اتصال مباشر معهم. قال أحد المشاركين: “ما يزعجني هو أنني من الناحية الأخلاقية، لا أتخيل نفسي وأنا أحضر لهم الطعام. ولا يمكنني أن أتخيل نفسي وأنا أقوم بتلبية احتياجاتهم”.

فأجاب الضابط: “بموجب القانون الدولي نحن ملزمون بإحضار كمية معينة من الطعام لهم. ففي النهاية، يمكن للجيش أن يقتلهم ببساطة، لكن الجيش يحتاجهم. ولا تقلق، فالأمر ليس كما لو كانوا مدللين هناك”.

ومضى “يطمئننا” بأننا لن نكون في أي حالة من حالات الخطر، فقال: “إذا أراد السجناء، على سبيل المثال، أن يتشاجروا فيما بينهم، فبالنسبة لنا يمكنهم ضرب بعضهم البعض وقتل بعضهم البعض. ولن نتدخل ولن نعرض أيًا من أفرادنا للخطر”.

وفي النهاية قال: “تذكروا أن هذه مهمة أخلاقية ومهمة ضرورية والجيش بحاجة إليكم. وأيضًا، ولأنه أمر طارئ، ستحصلون على أجوركم وأي شخص يريد الاستمرار بعد هذا الشهر لن يحصل على منح ومزايا قليلة. إنها حقًا مدفوعة الأجر”.

عدت إلى المنزل خائفة، فقد كان هذا الكلام الذي سمعته في المحادثات غير الرسمية قد سمعته على منصة عسكرية رسمية. لقد أخافني أن الضابط لم يرد بوضوح على هذا الحديث المجرد من الإنسانية، وكان اللقاء مع هذه المفاهيم الخطيرة، التي أصبحت عادية في مجتمعنا، صادمًا بالنسبة لي. فقد كان من الواضح بالنسبة لي أنني لن أتمكن من المشاركة فيها، وخرجت من الخدمة الاحتياطية بمساعدة طبيب نفسي.

أ.، طالب وجندي احتياط، من بئر السبع
تم استدعائي للخدمة الاحتياطية في تشرين الأول/ أكتوبر، وقاتلت في غزة، وتم تسريحي في كانون الثاني/ يناير. وفي شهر أيار/مايو تطوعت لفترة أخرى من الخدمة الاحتياطية، في سديه تيمان. لقد رأيت إعلانًا على الفيسبوك عن الحاجة لجنود في الاحتياط، وجاء في الإعلان أن هذه نوبات نهارية وأن العمل يمكن أن يكون مناسبًا للطلاب أيضًا. فذهبت، بشكل أساسي من أجل الحصول على الأجر. وأردت أيضاً أن أكون هناك بالقدر القليل، حيث مات أصدقاء لي في نوفا، وكنت أشعر بالفضول لرؤية الأشخاص الذين قاموا بذلك عن قرب.

وصادف أنني خدمت هناك مع بعض كتائب الاحتياط، ويمكنك القول إن معظم الجنود لم يحبوا العمل هناك. وبسبب ذلك كان هناك نقص كبير في القوى العاملة، وكانوا بحاجة إلى أشخاص مثلي – أشخاص يأتون لتقريب المناوبات.

وصلت إلى هناك بالكثير من التخوف. وكنت قد قرأت أشياء في الصحف، وكان هناك أيضًا خوف من المكان نفسه. ففي نهاية المطاف، أنت تحرس إرهابيين وقتلة من على بعد أمتار، وهم أيضًا يعرفون كيف يقاتلون، ولكن كان ذلك خلال المناوبات الأولى فقط. فمع مرور الوقت تعتاد على الأمر، وبشكل عام لم أشعر بالخوف الحقيقي على أرض الواقع.

قمت بمهام الحراسة في الزنازين وفي المستشفيات، ولا أشكو من الفريق الطبي، فهم ملائكة. هل تعرف ما معنى تغيير حفاضات إرهابي ومسح مؤخرته؟ إنهم يفعلون ذلك بكرامة نسبية وبدون إذلال. وفي بعض الأحيان كانت هناك بعض الضحكات على المرضى، أو كانوا يطلقون عليهم أسماء، ربما مهينة. لكن بشكل عام كانوا يقومون بعمل مقدس.

عندما كنت هناك، نقلوهم إلى منشأة جديدة، تتكون من ست خيام كبيرة، مع أرضيات ومكيف هواء. وأحضروا الكثير من المعدات الجديدة. لقد فهمت ذلك لأنه كان هناك بعض الانتقادات في ذلك الوقت، وكلما مرّ الوقت كلما أصبح الأمر أكثر اعتدالًا هناك. وكان هناك حديث، على سبيل المثال في جلسات الإحاطة قبل البعثات، أنه “كان يتم معاقبتهم بجعلهم يقفون رافعين أذرعهم”، لكن هذا ليس قانونيًا أو ما شابه.

بسبب الضغط من الخارج كان هناك خوف دائم من التسريبات، خلال وسائل الإعلام. طوال الوقت كانوا يطلبون منا أن نتحدث بأقل قدر ممكن. مثل، ما يحدث في سديه تيمان يبقى في سديه تيمان. وهذا هو الجو السائد. فقد كان التصوير من المحرمات. وقالوا إن هذا أمر خطير للغاية وإنه إذا تسربت الصور، فإنهم سيحضرون شعبة التحقيقات الجنائية التابعة للشرطة العسكرية.

إنهم [المعتقلون] يجلسون فقط داخل منطقة الفراش وطوال الوقت مقيدين ومعصوبي الأعين، وأنت تدرك ماذا يفعل هذا بهم. وترى بالتأكيد الفرق بين الوافدين الجدد وأولئك الذين كانوا هناك منذ أسابيع. وقد يفقد الناس صوابهم في مثل هذه الظروف. لقد أجريت تجربة في المنزل، مع مكيف الهواء، على السجادة، حيث أردت أن أتأكد مما يشعرون به. فجلست مع منديل على رأسي، بدون أصفاد وبدون جوع، فقط معصوب العينين وساعة ترن بعد ساعة. وبعد 10 دقائق شعرت أنني أريد أن أموت. وبعد 10 دقائق أخرى انهرت.

تخيلوا ذلك، يوم بعد يوم، أسبوع، شهر. لقد أصبح لدي شعور بأنه بسبب خوف الدولة من عودتهم إلى غزة في يوم من الأيام، قرروا تحويلهم إلى زومبي. لقد أخذوا هؤلاء الناس وقرروا العبث بهم لدرجة أنه بعد 50 سنة أخرى، عندما يمشون في الشارع في غزة، سيشير الناس إليهم ويقولون: “هل ترونه، ذلك المسكين… قبل سنوات عديدة، قرر مهاجمة إسرائيل.

أعتقد أن معظم الناس الذين كانوا هناك ليسوا أناسًا صالحين. ولن يأتي الجيش ويأخذهم من دون سبب. ولكن هنا أيضًا كان يوجد أيضًا أمين مخازن حماس، أو بعض الموظفين. وكان هناك أيضًا أشخاص أبرياء، خاصة في البداية، عندما كان التصنيف في الميدان أقل دقة. ولا أفهم منطق إبقاء الناس في ظروف كهذه. إنه ليس عقابًا، فالحياة هناك… تعذيب يومي.

في جلسات الإحاطة يتم شرح أن كل شيء له سبب. فعلى سبيل المثال، الكلام ممنوع حتى لا ينقلوا المعلومات ولا ينسقوا فيما بينهم. والفراش رقيق حتى لا يخفوا الأسلحة، والعقاب – للردع، والأصفاد – لأنهم خطيرين للغاية. لقد شرح لي أحد ضباط الشرطة العسكرية، الذي بدا لي أنه من قدامى المحاربين، ذات مرة، أن “الجيش لم يكن مستعدًا لاستقبال الآلاف. حسنًا، ولكن مرت ستة، أو سبعة، أو تسعة أشهر، ولم تجد حلاً أفضل حقًا الآن.

هل شهدت أي مخالفات؟
يتوقف الأمر على كيفية تعريفك للمخالفات. في حياتي اليومية، لا أواجه مثل هذا المستوى من العنف، ومن اللعنات والإذلال. لذا نعم، كل دقيقة هناك مخالفات. على المستوى الشخصي، مررت بحدث واحد هناك غيّر موقفي بالكامل تجاه المكان.

كان ذلك في إحدى المناوبات الأولى. كنت جالسًا في شرفة معسكر السجن، في استراحة بين المناوبات، عندما جاء ضابط شرطة عسكرية يحمل هراوة مطاطية وقال “تعال معي، علينا التعامل مع شخص يثير المشاكل”. ذهبت معه ومع جندي آخر وأخرجنا معتقلًا، كان يبلغ من العمر حوالي 40 سنة. كانت ساقه ملفوفة بالضمادات وكان يعرج قليلاً. أخذناه إلى جانب السجن، إلى منطقة معزولة، وضربه ضابط الشرطة العسكرية أربع مرات على ظهره بالهراوة وبينما كان يفعل ذلك، صاح فيه “اصمت، ومن الآن فصاعداً – اسكت” (باللغة العربية).

رفع الفلسطيني يديه وحاول حماية مؤخرة رقبته، رغم أن الهراوة لم تضربه هناك. وبعد ذلك، أثناء الضرب، حرك العصابة عن طريق الخطأ وسقطت على رقبته. فأثار ذلك سخط الضابط وبدأ يضربه بقوة أكبر. سقط الفلسطيني على الأرض، وبدا وكأنه يستسلم، وأنه لم يعد لديه المزيد من القوة للوقوف وكان ينهار ببساطة. ثم بدأ يصرخ باللغة العربية، “ليش؟ ليش؟”. ومن على الأرض، بينما كان ربما يحاول حماية نفسه بيديه، نظر إلي فجأة.

نظر في عيني وتوسل قائلا “ليش؟ ليش؟” كانت عيناه بنيتين كبيرتين، ومنتفختين من محجريهما من شدة الألم. كانت عروقه منتفخة، وكان أحمر اللون ومن الواضح أنه يعاني. وقفت هناك مصدوما. لم أر في حياتي قط مثل هذه النظرة. تسببت الصيحات في توتر ضابط الشرطة العسكرية قليلاً، لذلك شتمه وبصق عليه. ثم أعيد إلى الحظيرة. لقد هزني الحدث حقاً. بقيت في سديه تيمان بعد ذلك، صحيح، ولكن أقل حماساً وأقل سعادة بكثير.

هل شاركت في عملية الضرب؟
أفضّل عدم الإجابة. وليس بالضرورة للسبب الذي قد يبدو واضحا. لقد كان موقفاً غير عادي بالنسبة لي وأريد أن أنساه بشدة. لكنه لم يكن استثنائيا بالنسبة للمكان. في بعض الأحيان يضرب جندي شخصاً ما دون سبب. وتحدث أمور أخرى كثيرة. ويسمح الناس لأنفسهم بفعل أشياء، وخاصة في الأماكن التي لا يوجد فيها رقابة. كانت هناك حالات جاء فيها أشخاص لضرب شخص ما من أجل الانتقام لأحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر أو ذلك، لا أدري هل أسميه ذلك… الناس ساديون.

ماذا تعني؟
إذا كان تعريف السادي هو الشخص الذي يستمتع بالتسبب في معاناة شخص آخر، فيمكنني تقديم أمثلة من جميع المقاييس. ذات مساء كنت أقوم بمناوبة حراسة في معسكر السجن. كانت هناك كتيبة احتياطية هناك، رجال مخضرمون قاموا بالكثير من حفلات الشواء واستمعوا إلى الموسيقى في مجمع البقية. كانت الخيمة بعيدة جدًا عن المعسكر، لكن الرائحة تنتشر هناك أحيانًا، وكذلك الموسيقى. شممت رائحة اللحم أثناء وجودي في موقع الحراسة الخاص بي كان بإمكاني أن أرى أن المعتقلين يشتمونها في الهواء أيضًا. أعتقد أنهم كانوا يتعذبون بشدة بسبب ذلك. عندما أنهيت مناوبتي، مررت بالخيمة وسألني أحد الرجال عما إذا كنت أريد خبزًا مع الكباب. أخبرته أنني لا أريد، فقد كان هناك أشخاص جوعى قريبون جدًا. فرمقني بنظرة، كما لو كنت أتظاهر بالصلاح الذاتي والأخلاقي. ثم ابتسم وقال، “لماذا؟ “بالنسبة لي، الأمر ألذ بكثير عندما يعانون”.

من الواضح لي أنهم لا يستحقون اللحوم. ولو كنت أعلم أنهم يحصلون على ما يكفي من الطعام، حتى لو كان طعامًا رديئًا ولكنهم ليسوا جائعين، لكان الأمر مختلفًا. كيف يمكن الاستمتاع بالطعام عندما تعلم أن شخصًا آخر جائع أمامك؟ حتى لو كان ألد أعدائك.

وفي الطرف الآخر، كان هناك أشخاص جاءوا هناك للتنفيس عن غضبهم. من يتطوع للخدمة هناك؟
فقط أولئك الذين يستمتعون حقًا بضرب العرب. لقد رأيتهم ينزِلون الناس من المركبات، دائمًا بالعنف والشتائم والبصق. يرتدون الزي العسكري التكتيكي والقفازات وأقنعة الوجه وكل ذلك – كل أنواع التباهي الذكوري من الأنواع المتحمسة. كان هناك أيضًا شيء من الخوف والتهديد في وجه المعتقلين. وفي الواقع، نحن نتحدث عن أشخاص محبطين. مع كل هذا التهويل، الأمر ليس أنهم يقاتلون في الأنفاق أو يفجرون المباني في رفح. إنهم يتعاملون مع أشخاص مقيدين وجائعين. ليس من الصعب أن تكون قويا في مواجهتهم. لذا فأنا لست خبيرًا في هذا المجال، ولم أدرس علم النفس، ولكن نعم، رأيت هناك أشخاصا ساديين. أشخاص يستمتعون بالتسبب في معاناة الآخرين.

كيف كان رد فعل الجنود الآخرين على هذا الموقف؟

أجابوا بإجابات مثل “أنت تعرف من هم وماذا يفعلون؟”، كما تعلمون، الأعذار المعتادة: “إنهم يستحقون ما فعلوه”، أو “إنه أمر ضروري، لأنها حرب”.

لقد شعرت أن هناك عمىً في المكان باختيارهم، وأن هذه هي الطريقة للتعايش مع التنافر الذي يخلقه المكان. وهذا يبرز حقًا في المعنى المزدوج للكلمات. فأنت تقول شيئًا ما، ويفهم الجميع المعنى الإضافي تمامًا. فعلى سبيل المثال، عندما يقولون خذ شخصًا “جانبًا”، فمن الواضح للجميع أن النية هي أخذه خارج نطاق الكاميرات. أو في إحدى عمليات التفتيش التي أجرتها القوة 100، أخذوا معتقلًا واقتادوه إلى زاوية. وعندما وصلوا إلى إنزاله على الأرض، قال أحدهم فجأة، “مهلاً، هل تقاومني؟” وعلى الفور بدأ الجميع من حولي في الركل واللكم والصراخ “إنه يقاوم”.

كنت واقفا هناك ورأيت بالضبط ما يجري. لم يقاوم بأي شكل من الأشكال. لقد ألقي على الأرض، وحاول حماية رأسه ووجهه بيديه. واستمروا في ضربه. كان من الواضح لكل من كان واقفا هناك أنه لم يقاوم حقا. لأن هذا هو ما كان موجودا في الواقع. ولكن بعد ذلك، عندما تحدثت مع جندي كان هناك وشاهد كل شيء، برر الضرب وقال: “هذا ما يجب فعله مع المعتقل الذي يقاوم”. التزمت الصمت. لقد فهمت أنه أعمى عن الحقيقة باختياره.

كانوا يحضرون لنا سجينا ويقولون: “إنه خطير”. وأنت تعلم أن بيان أنه خطير لا معنى له. وحتى لو كان كذلك. ماذا سيفعل؟ لقد تم ربط يديه ورجليه بالفعل، وحتى مع ذلك تم وضعه في الصف الأمامي في الحظيرة. لقد فهمت أن هذه الكلمة – “خطير” – كانت بمثابة تلميح. كما لو أنهم يخبروننا أنه سيكون من الممكن في وقت لاحق أن نضربه بوحشية. وهذا ما حدث أيضًا. بالمناسبة، لم يعد مسموحًا لك أن تقول “سجن” بعد الآن. في مرحلة ما قالوا إن هذا ليس صحيحًا سياسيًا وأنه من الآن فصاعدًا يجب أن نقول “مرفق احتجاز”. لكنه كان كذلك تقريبًا.

بعد فوات الأوان، كان من السذاجة بعض الشيء أن أعتقد أنه إذا ذهبت لأداء واجب الحراسة في سديه تيمان، سأكون قادرًا على فهم شيء ما عن النخبة وعن ما فعلوه في تشرين الأول/ أكتوبر. لم أتخيل حقًا أن لديهم قرونًا، لكنني اعتقدت أنني سأواجه كراهية شديدة وإيديولوجية. في النهاية، هم مجرد أشخاص حقيرون، لكنهم بشر.

يستغرق الأمر بعض الوقت لهضم الأشياء. وكلما ابتعدت عن المكان، انفتحت عيني أكثر. كان الأمر الأكثر إزعاجًا بالنسبة لي هو رؤية مدى سهولة وسرعة الناس العاديين في قطع الاتصال وعدم رؤية الواقع أمام أعينهم مباشرة، عندما يكونون في خضم موقف إنساني صادم.

ي.، عضوة في فريق طبي
لقد أكملت مؤخرًا فترة في مستشفى سديه تيمان. وصلت إلى هناك بعد أن اتصل الجيش بالمستشفيات قبل بضعة أشهر للعثور على أشخاص لإدارة الموقع. لقد جذبني هذا كمواطنة وكأم لجندي كان في غزة. لذا عندما جاءت المكالمة ووصفت بأنها “مهمة وطنية”، وافقت. دون أن أعرف أي شيء عن المكان أو المهمة. لم تكن الساعات الأربع والعشرين الأولى هناك سهلة. لكن لم أكن أعتقد أنني سأكون في حالة من الصدمة.

ما الذي فاجأك كثيرًا؟
كان المكان لا يوصف على الإطلاق، ولم أفكر قط في شيء مثله. كان أول ما خطر ببالي: ماذا فعلت؟ ولكن بعد ذلك بدأت العمل. وفي صباح اليوم التالي، تنفست بعمق وقلت لنفسي: حسنًا، أعرف كيف أعالج الناس، والهدف واضح – نحتاج إلى تقديم العلاج من أجل الحصول على المعلومات. المعتقلون لديهم معلومات قد تساعد في حماية ابني. لديهم معلومات يمكن أن تنقذ أبناء الآخرين. قررت أن أفعل أفضل ما بوسعي. كما أفعل في كل مكان.

تدير وزارة الصحة المنشأة إلى حد كبير، لأنه لا يوجد خيار آخر. وفي السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، تم نقل أفراد حماس الجرحى إلى مستشفيات مختلفة، ولكن بعد ذلك ظهرت لافاميليا [مجموعة قومية متطرفة من القدس] وأثارت ضجة، وكانت هناك تهديدات وكان من الصعب تقديم العلاج. لا يريد أي مدير مستشفى هذا النوع من المتاعب.

لا أعرف ماذا حدث في سديه تيمان في الأشهر الأولى قبل وصولي إلى هناك. ولكن على ما يبدو، بسبب كل الانتقادات، تم نقل المستشفى الميداني الأول إلى منشأة جديدة، أكبر بكثير ومجهزة بمكيفات الهواء. كل صباح كنا نصل للمساعدة في الإجراءات والعلاج والمتابعة. كانت الحالات العاجلة تصل أيضًا خلال فترة ما بعد الظهر وفي الليل. ولأن الاستجابة لم تكن كبيرة [من قبل الطاقم الطبي للخدمة في الموقع]، كان معظم الفريق يتألف من جنود احتياطيين كبار السن. بعضهم كان في السبعين والثمانين من العمر. إنهم أكثر كفاءة وأكثر مرونة عقليًا.

لا يتم القيام بأي شيء معقد هناك، فقط في مستشفيات أخرى. وهذا يعني أنه إذا خضع شخص [تم إحضاره من غزة] لعملية جراحية، فإنه بعد بضع ساعات من التعافي، إذا لم يكن ينزف أو يعاني من ارتفاع ضغط الدم، وما إلى ذلك، يتم إحضاره إلينا على الفور، حتى لو كان ذلك في منتصف الليل. وقد حاولوا جاهدين ألا تسمع وسائل الإعلام عن ذلك لذلك كان المصاب يدخل ويخرج بسرعة.


كانوا يحصلون كل يوم على خضروات وبروتين ومضافات غذائية مرتين أو ثلاث مرات في اليوم، في نوع من الزجاجات. وكان معظمهم يستطيعون أخذ الطعام باليد وشربه من الزجاجة باستخدام القشة، أو حمل الخضراوات. أما أولئك الذين لم يتمكنوا من ذلك، فقد ساعدهم أحد الموظفين.

وماذا عن الحفاضات؟
بالنسبة لأولئك الذين يحتاجون إليها. أولئك الذين يستطيعون استخدام وعاء فإنهم يستخدمونه وإذا لم يتمكنوا، فيستخدمون حفاضات. لا أعرف لماذا ذكرت وسائل الإعلام أنهم يحصلون على قسطرة. لكن ما لديهم ليس قسطرة، بل شيء خارجي، مثل الواقي الذكري بفتحة وأنبوب متصل بكيس. من حيث الراحة، هذا هو الأفضل. إذا كنت مستلقيًا مرتديا حفاضة مبللة، فهذا ليس ممتعًا. يتم استخدامه في موقف لا يستطيع فيه السجين الوصول إلى المرحاض. أما أولئك الذين يستطيعون، فيتبولون في زجاجة، كما هو الحال في المستشفى.

لقد وصفت الظروف هناك في المعسكر بأنها تعذيب. ربما. نعم، أوافق على ذلك في كثير من النواحي. ربما حتى تعذيب لا يوصف. ولكنني لا أملك الأدوات اللازمة للحكم. فأنا لست على دراية بالموضوع. ويمكنني أن أتحدث عن الرعاية الطبية، والعلاج هناك باعتباره جيدًا. عندما كانت هناك مقالات تقول إن أطرافهم كلها مقيدة بالأغلال حسناً، ما الجديد؟ حتى قبل تشرين الأول/ أكتوبر، كان الإرهابيون في كل مرة يحضرون إلينا للعلاج في مستشفى [عادي] مقيدين بالأصفاد. لذا فأنا لا أفهم ما الجديد.

هل هذا ضروري؟
لم أكن هناك لأحكم. هذا هو الواقع الذي واجهته. مرة واحدة في اليوم كان يأتي الشخص المسؤول إلى المستشفى للتأكد من أن أياً من الأصفاد ليست محكمة للغاية. وأنها لا تكشط اللحم. وكان هناك فحص كل يوم للتأكد من وجود مساحة، وأن إصبعين على الأقل يمكن أن يمرا تحت كل قيد. لم أكن أعرف شيئاً عن مرضاي، حتى أولئك الذين كانوا هناك لفترة طويلة. لقد أعطينا رقماً للسجناء. وعندما عدت إلى عملي كالمعتاد في قسمي، بعد فترة في سديه تيمان، كنت سعيدة. يا لها من فرحة أن أعرف أسماء مرضاي.

هل كانوا معصوبي الأعين طوال الوقت؟
“نعم. هذا قرار عسكري، وليس قراراً طبياً. وفي إحدى المرات سألت لماذا، وقيل لي إن هؤلاء الأشخاص خطرون وأن [السلطات العسكرية] لا تريد منهم أن يروا الأشخاص في الفريق.
كانت هناك شهادات عن أعمال عنف وحشي في مركز الاحتجاز.

هل استقبلتم أشخاصاً كُسِرت أطرافهم ولكن ليس في ساحة المعركة؟
لا، لم أر قط… ما هو أبعد من… لا. أبداً. كما أنني لا أعرف ما الذي أصيبوا به قبل وصولهم إلينا. هذه ليست وظيفتي.

أسنان مكسورة، كدمات خطيرة؟
لا. لا شيء. لا يمكن. لم أرَ فحسب، بل لم أسمع حتى. ولو حدثت مثل هذه الأشياء، لكنت قد صُدمت. ربما كانت الأمور مختلفة قبل وصولي. لا تنسوا السابع من تشرين الأول/ أكتوبر والشهرين أو الثلاثة التي تلته. هذا ليس الوضع اليوم. أعتقد أن الغضب كان شديداً. صدمة. ولكن عندما كنت هناك، لم أر شيئاً، ولو رأيت ذلك، لربما نقلت ذلك إلى من هم أعلى مني؛ لأنني لم أكن لأتحمل ذلك. ليس بسببهم: إنهم إرهابيون ولا أشفق عليهم. بل بسببنا، لأنه عندما نتصرف على هذا النحو، فإن ذلك يؤلمنا. يجب أن نفكر في أنفسنا، فقط في أنفسنا.