على الرغم من أن تركيب "التطبيع العالمي" غير شائع إلا أنه يشكل
دلالة قوية، وبما يمثله هذا
الخطاب الأخير لنتنياهو الذي ألقاه في حجر أحد رموز
الديمقراطية الغربية (
الكونغرس)؛ وقد كشف وفضح هذا المستوى الأعلى من
التطبيع تحت عناوين كثيرة، تتوافق مع فعل الصفقات بالمعنى الاقتصادي الرأسمالي وهو
له جوانب كثيرة يجب الكشف عنها:
أولا: التبني الغربي الكامل والداعم اللامحدود للكيان الصهيوني، مهما كانت
ممارساته ومهما كانت عنصريته وأهدافه الاحتلالية والاستيطانية، وهذا الدعم لا يقتصر
على الإمدادات العسكرية ولا الدعم البشري والمشاركة في القتال مع الجيش الصهيوني،
ولكن يمتد ذلك إلى مستويات عديدة تتمثل في الدعم المالي غير المحدود، والدعم
الإعلامي بلا حدود، والترويج للمجازر العسكرية تحت دعاوى زائفة بالدفاع عن النفس، والدعم
القانوني والتشريعي بشكل غير مسبوق، سواء بقرارات لتجريم أي دعم للمقاومة أو
فلسطين، بل الأمر امتد لعقوبات لأفراد أو هيئات ومؤسسات، وأكثر من ذلك تجريم ما
يقع في قلب حرية التعبير بتجريم التظاهر والاحتجاج، أو بتجريم رفع العلم
الفلسطيني، وأشكال أخرى يمكن رصدها ولكن الأمر يطول.
التبني الغربي الكامل والداعم اللامحدود للكيان الصهيوني، مهما كانت ممارساته ومهما كانت عنصريته وأهدافه الاحتلالية والاستيطانية، وهذا الدعم لا يقتصر على الإمدادات العسكرية ولا الدعم البشري والمشاركة في القتال مع الجيش الصهيوني، ولكن يمتد ذلك إلى مستويات عديدة
ثانيا: الدعم الحضاري من الحضارة الغالبة للكيان الذي اصطنعته على أعينها (الحضارة
الغربية)، وقد غلفت ذلك تحت دعاوى زائفة عدة ضمن عمليات متتابعة أسهمت في إنشاء
الكيان الصهيوني ابتداء، ورعايته وحمايته لضمان استمراره وبقائه وحماية اغتصابه
وبلطجته واستيطانه؛ فهو يشكل رأس حربة للحضارة الغربية كدولة وظيفية لإدارة صفقاته
المشبوهة ضمن محاولاته المتعددة لفك وتركيب منطقة الشرق الأوسط.
ثالثا: الدعم لمشاريع تقع أهداف الكيان في القلب منها، من مثل مشروع الشرق
الأوسط الكبير، والشرق الأوسط الجديد، وصفقة القرن، وكلها تهدف إلى ترسيخ وجود
الكيان الصهيوني والتطبيع معه، وفي ذات الوقت تصفية القضية الفلسطينية.
رابعا: دعم المشروعات التطبيعية الجزئية ضمن عملية استهداف كبرى في هذا
المقام تقبل شروط السلام الأمريكي- الإسرائيلي، وتهدف في هذا إلى القبول الرسمي،
تمهيدا لفرض هذا المناخ التطبيعي على المستوى الشعبي، ولكن لا تزال الشعوب رقما
صعبا ومهما في عمليات مقاومة التطبيع وعدم القبول به؛ إلا من فئة متصهينة تقوم به
ضمن احتضان رسمي مباشر ومتخف.
خامسا: فرض حالة كونية من التطبيع العالمي والكوني في سياق حالة من هندسة
القبول والخضوع للرؤية المتعلقة بالصراع الصهيوني مع الأمة في استراتيجياته
وسياساته، وهو أمر بعيد المنال خاصة بعد أن تعاظمت الدعوات بالاعتراف بدولة
فلسطينية، وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، خاصة ما تبنته المتابعة الأخيرة
لمحكمة العدل الدولية.
سادسا: محاولات جر الشعوب إلى تطبيع اقتصادي بكل الطرائق، وهو ما يفرض
استمرارية عمليات المقاطعة لا باعتبارها حالة مؤثرة، ولكن بكونها موقفا استراتيجيا
متقدما، في مقاطعة كل ما يمثله الكيان الصهيوني من مصالح أو منافع، والإضرار
المباشر وغير المباشر بالكيان الصهيوني؛ ومن مثل ذلك إدانة أي شكل من أشكال
التطبيع الثقافي، أو الاجتماعي، أو الفني، أو الرياضي، وهي كلها مواقف مهمة في
صناعة الوعي بهذا الصراع الحضاري الممتد مع الكيان الصهيوني.
من التطبيع العالمي الذي اشتمل على أركان كشف عنها خطاب
نتنياهو بين
ديمقراطية جوفاء يمثلها الكونغرس الأمريكي الذي التأم حتى يلقي مجرم الحرب نتنياهو
خطابه المزعوم والمرجوم، وأما النازية النكراء فيمثلها ويتمثلها نتنياهو الذي دعي
لإلقاء خطاب أمام أعلى المؤسسات التي تتشدق بالديمقراطية؛ وهو مجرم الحرب الموسوم
والموصوم بذلك من المحكمة الجنائية الدولية في ترقب لإصدار قرار من تلك المحكمة
بترقبه وتعقبه، وتلازم ذلك مع قرار محكمة العدل الدولية الذي أصاب حكومة نتنياهو
وتابعيه من متطرفين في مقتل ليضع كل القضية الفلسطينية برمتها في موقعها الحقيقي
والسليم. ولائحة الاتهام في حرب غزة تطول لو عددنا جرائم النازية النكراء بتواطؤ
مع أشكال ودول عدة ممن تطلق صيحات الديمقراطية الجوفاء.
أما التصفيق على الأشلاء فهو المشهد الجامع الفاضح الفاجع لأعضاء الكونغرس
المصفقين لهذا النازي الذي أوغل في الدماء والتخريب والدماء، واستهدف كل رموز
الحياة في غزة، فقتل وجرح عشرات الآلاف، وهدم أكثر من ثلثي المباني والعمران في
أرض غزة العزة؛ لم يكن ذلك إلا انتقاما من أهل غزة الكرامة والشرف والمقاومة،
والذين انتدبوا عن الأمة دفاعا عن حياضها ومقدساتها.
التصفيق على الأشلاء من أي ممن يقع في دائرة الإنسانية، هو في حقيقة الأمر ليس من الإنسانية في شيء، بل هو خارج عنها، وتحت خط الإنسانية، وليس من حقه أن يتشدق بإنسانية مزعومة أو حقوق مدعومة زورا، أو حقوق مزعومة زيفا وتزييفا أو حقوق منكرة رغم عدالتها وحقيقتها مغفلة عمدا وقهرا
إن التصفيق على الأشلاء من أي ممن يقع في دائرة الإنسانية، هو في حقيقة
الأمر ليس من الإنسانية في شيء، بل هو خارج عنها، وتحت خط الإنسانية، وليس من حقه
أن يتشدق بإنسانية مزعومة أو حقوق مدعومة زورا، أو حقوق مزعومة زيفا وتزييفا أو
حقوق منكرة رغم عدالتها وحقيقتها مغفلة عمدا وقهرا.
في هذا المقال نحن معنيون بتحليل خطاب نتنياهو الكاشف الفاضح ضمن أصول
التحليل الحضاري للخطاب، وضمن مجموعة من المسالك المتنوعة الدالة على نازية هذا
الخطاب وكذبه البيّن وافتراءاته الفاضحة والواضحة:
أولها: التحليل الحضاري العام، الذي تحدث فيه عن تكييف حرب الكيان الصهيوني
على غزة بأنها حرب الحضارة في مواجهة الوحشية، فيفتتح نتنياهو
خطابه بقوله: "هذا ليس صراع الحضارات، هذا صراع بين البربرية والتحضر". كما
تمكن ملاحظة أمر عجيب وشديد الغرابة؛ فمن المثير للاهتمام أنّ الجزء الأكثر حرارة
من التصفيق أتى كتعبير عن مباركة وموافقة بالإجماع على مقولة رئيس الوزراء
الإسرائيلي التي تستحضر سياسات التوحّش والوحشية المرتكبة من الكيان الصهيوني،
ليجد كل هؤلاء المرسل والمتلقي على حد سواء مزهوا مسكونا بالتبرير والتزوير
والافتراء.
ثانيها: التحليل للسياقات النفسية الجماعية للخطاب الموجه من نتنياهو إلى
الحضارة الغربية. وبحسب هذا الخطاب فإنه وفق علم النفس المعرفي، "فإن
ما يقوله المرء في البداية يُحدد جوهر الرسالة ومُبتغاها، يُعرَف هذا بانحياز
إلقاء المرساة (Anchor Bias)، وهو انحياز إدراكي لا واعٍ يصف مَيل الناس
التلقائي إلى التمسك بأول معلومة يتلقّونها، والارتكاز عليها لتفسير باقي الحديث
وفهم كل التفاصيل اللاحقة من خلال الرسالة الأولى التي أُلقيت إليهم. بهذه الكلمات المفتاحية وبهذا المُفتتح البسيط والمباشر حول حقيقة الصراع ستتأطر
الأذهان لاحقا، وستعجز عن استشكال أي أزمة أخلاقية قد تُمليها عليهم ضمائرهم".
ثالثها: تحليل للسياقات السياسية للخطاب، والتي تتمثل في حالة مواتية
للتطبيع العالمي والتي سبق تشريحها في علاقات العم الأمريكي والغربي للكيان
الصهيوني. "المهم التقاطه هُنا أن خطاب نتنياهو في مطلعه كان
يتحدث عما هو قادم، عن الحاضر والمستقبل، وليس عن الماضي والسابق، وهذا التأطير
لتوجيه تطلعات الجماهير ومسامعهم وأبصارهم نحو القادم فيه توكيد غير واعٍ على
المُضي قُدما في حرب الإبادة على غزة أكثر مما فيه التفات ومراجعات للماضي وتجاوزاته،
الأمر المهم أن نؤكد على حجم ما كشف عنه ذلك الخطاب من حضارة غربية اتسمت بالعنصرية والوحشية، وانتقائية المعايير، وبين كيان صهيوني غاصب صنيعة الغرب كأداة وظيفية أكدت على أن الحضارة الغربية في تدهور مهما حاولت إطالة عمرها بأساليب التكيف، وأن الاحتلال الصهيوني إلى زوال بما يحمله من خطاب الأساطير، وخطاب الأكاذيب والافتراءات
وجرائم الحرب التي زخرت بها الأشهر التسعة الماضية منذ بداية الحرب في السابع من تشرين
الأول/ أكتوبر".. هذا ما يؤكد عليه محمود أبو عادي في مقاله الضافي "حفلة
التصفيق.. الدلالات النفسية لخطاب نتنياهو في الكونغرس".
رابعها: التحليل الثقافي والمعرفي للخطاب: في رحلة السقوط الطويلة في
الحضارة الغربية ومرحلة الزوال القادمة والمحتملة للكيان الصهيوني.
خامسها: خطاب نتنياهو والأمة بين حال الخذلان والهوان وحال النهوض المقاوم
والحامي: حال الغثائية، وحال الخيرية والوسطية، والمقاومة والجهاد والشهود، فليأت
نتنياهو في سلسلة البطش والطغيان والقتل والعنصرية من هولاكو وحتى هتلر النازي،
ولتأت سلسلة الجهاد والمقاومة والمدافعة والمرابطة حتى تنال الأمة الحرية والتحرير
على طريق النهوض. بين كل ذلك الذي مثل بيئة ووسطا للخطاب كان خطاب نتنياهو النازي
على نهج "كفاحي" لهتلر.
حمل هذا الخطاب رسائل كثيرة ومتنوعة لجمهور متنوع، واقتصرنا على بعض
الجوانب التي تتعلق بهذا الخطاب ورسائله المتعددة، إلا أن الأمر المهم أن نؤكد على
حجم ما كشف عنه ذلك الخطاب من حضارة غربية اتسمت بالعنصرية والوحشية، وانتقائية
المعايير، وبين كيان صهيوني غاصب صنيعة الغرب كأداة وظيفية أكدت على أن الحضارة
الغربية في تدهور مهما حاولت إطالة عمرها بأساليب التكيف، وأن الاحتلال الصهيوني
إلى زوال بما يحمله من خطاب الأساطير، وخطاب الأكاذيب والافتراءات، بين هذا وذاك
يقع هذا الخطاب الفاضح لكليهما، والذي يشير إلى محاولة الطرفين إخضاع العالم بأسره
لهندسة الخضوع والقبول لهذا التطبيع العالمي.
x.com/Saif_abdelfatah