أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات في
العاصمة اللبنانية بيروت
دراسة مطولة عن
المواقف الأروروبية من معركة "طوفان
الأقصى" والحرب الإسرائيلية على قطاع
غزة، من إعداد الأستاذ حسام شاكر، الباحث والمؤلف والمستشار الإعلامي المتخصص في الشؤون الأوروبية والدولية.
وبالنظر إلى طبيعة
الحرب التي لاتزال تخوضها
قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة للشهر التاسع على التوالي، وكذلك بالنظر
إلى أهمية الموقف الأوروبي ، تنشر
"عربي21" ملخصا لأهم ما جاء في هذه
الورقة.
مقدمة:
ليس بعيداً عن السلوك النمطي للعواصم
الأوروبية في جولات العدوان السابقة على قطاع غزة؛ سارعت هذه العواصم، كما هو
متوقّع، إلى إدانة هجوم المقاومة
الفلسطينية على أهداف للاحتلال الإسرائيلي يوم
7/10/2023 بصيغ مغلّظة، وجرى تصوير الحدث بصفة منحازة بوضوح لرواية الاحتلال
الإسرائيلي، مع استبعاد خلفيّاته وسياقاته، وإغفال وجهته العسكرية التي استهدفت
قواعد الاحتلال وثكناته أساساً. واحتاج عدد منها الكثير من الوقت ليعيد النظر في
مواقفه، ليجعلها أكثر اتزاناً.
مواقف أولية مُتسرِّعة:
انجرفت الخطابات السياسية والإعلامية في
معظم الدول الأوروبية في الأسابيع الأولى من الحرب نحو مزايدات في تقديم الاحتلال
في هيئة الضحية، وتصوير هجوم المقاومة في هيئة اعتداء إرهابي نمطي على منوال أحداث
صادمة شهدتها دول غربية، وتقديم دعم دعائي يُسهم في تبرير الهجوم الوحشي على قطاع
غزة تبعاً لذلك. جرى توفير غطاء تبريري للعدوان، وتحديداً عبر التركيز على استدعاء
مقولة "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وتبنِّي ادِّعاءات قيادة
الاحتلال عن أنّ المقاومة "تتّخذ المدنيين دروعاً بشرية"، وإغفال
التذكير بالقانون الدولي أو ضمان سلامة المدنيين الفلسطينيين.
أبدت بعض الدول الأوروبية ردود أفعال جامحة
خلال حرب الإبادة، مثلاً عندما لجأت إلى تعليق المساعدات الممنوحة للسلطة
الفلسطينية لبعض الوقت، ثمّ معاقبة وكالة الأمم المتحدة إغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين
في الشرق الأدنى (الأونروا) بحجب التمويل عنها، بعد ادِّعاءات قيادة الاحتلال
التحريضية ضدّ الوكالة، ثمّ العدول عن هذه الخطوة.
اتجاهات المواقف الأوروبية:
وعموماً يُلاحظ أنّ المواقف الأوروبية خلال
حرب الإبادة افترقت على اتجاهات ثلاثة على الأقل، مع تبايُن نسبي في المواقف ضمن
كلّ اتجاه أيضاً:
ـ اتجاه تبنّى مواقف انحياز جارفة إلى الجانب الإسرائيلي،
وظلّ متمسكاً بهذا الموقف تقريباً، وقد تجلّى هذا بوضوح لدى ألمانيا والنمسا
والمجر وتشيكيا ودول أخرى.
ـ اتجاه أظهر نقداً متزايداً لحرب الإبادة، واتخذ مواقف في
الاتجاه الإيجابي. وقد تجلّى ذلك في إيرلندا وإسبانيا وبلجيكا ومالطا والنرويج وسلوفينيا.
ـ اتجاه ثالث تجنّب النقد الواضح دون أن يتصدّر مشهد الانحياز،
أو غلب عليه التأرجح في بعض المواقف، كما في حالة فرنسا التي عدّلت موقفها نسبياً
في الشهر الثاني من الحرب.
اتّضحت هذه الاتجاهات في الموقف من وقف
إطلاق النار خلال شهور الحرب الأولى، وفي السلوك التصويتي في الهيئات الدولية، وفي
اتخاذ إجراءات عقابية ضدّ السلطة الفلسطينية ووكالة الأونروا، وفي الموقف من فرض
عقوبات على المستوطنين أيضاً.
انعكاسات المواقف على الاتحاد الأوروبي:
شكّل هذا الافتراق في المواقف عبئاً على
مفوّض السياسة الخارجية الأوروبي جوزيب بوريل في كيفية الإعراب عن موقف متماسك
يمثِّل الاتحاد في محطّات هذه الحرب، مع الإشارة إلى مواقف دول ليست عضواً في
الاتحاد مثل بريطانيا التي تبنّت مواقف رديفة للجانب الأمريكي، والنرويج التي
عبّرت عن مواقف ناقدة لحرب الإبادة.
أدّى طول أمد حرب الإبادة وافتضاح وحشيتها
وتعاظُم الاعتراضات الجماهيرية والنخبوية عليها إلى إضعاف مُتزايد للمواقف الداعمة
لهذه الحرب في الواقع الأوروبي، وتشجيع الجبهة المقابلة لها.
وممّا أظهر مفعول الافتراق في المواقف أنّ
الاتحاد الأوروبي لم يتمكّن من التوصّل إلى قرار مشترك يدعم وقف إطلاق النار في
قطاع غزة إلا في آذار / مارس 2024، وجاء ذلك بمشقّة بالغة بسبب تعنّت العواصم
المنحازة بشكل جارف للاحتلال، وعرقلتها هذه الخطوة على مدار نصف سنة من الحرب
تقريباً.
وممّا أضعف المواقف الأوروبية أيضاً ونزع
المصداقية عنها هو تعارضها، إلى حدّ التناقض أحياناً، مع نظيرتها المتخذة بشأن حرب
أوكرانيا. وقد جرّت المواقف المنحازة إلى حرب إبادةٍ وحشيةٍ حرجاً بالغاً على صورة
الدول الأوروبية المعنيّة، وبلغ الأمر حدّ مثول ألمانيا أمام محكمة العدل الدولية
بعد الدعوى التي تقدّمت بها نيكاراجوا ضدّها بتهمة "تسهيل الإبادة
الجماعية"، على خلفية إمدادات السلاح الألمانية لدولة الاحتلال. ومن الواضح
أنّ مواقف العديد من الدول الأوروبية تكبِّدها خسائر جسيمة على صعيد الصورة،
والقوّة الناعمة، وامتياز الوصاية الأخلاقية الذي كانت تحظى به في العالم بصفتها
مدافعة تقليدياً عن "حقوق الإنسان" و"القيم الكونية". كما
حفّزت هذه المواقف اعتراضات عارمة على المستوى الجماهيري في البلدان الأوروبية
ذاتها، وإن لم تلقَ استجابات ذات شأن من المستوى السياسي.
"إسرائيل" تتحوّل بشكل متزايد إلى عبء على الكاهل الأوروبي، بينما يسير الاتجاه العام، وإن ببطء وتردد نحو مزيد من الإقرار بعدم إمكانية بقاء دولة الاحتلال فوق القانون، وعدم إمكانية الاستمرار في تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني وضرورة تلبية ولو بعضها، مع تراجع الرهانات على كسر شوكة المقاومة، والتفاف الحالة الشعبية الفلسطينية حول خيار المقاومة، وفشل مسار أوسلو والتسوية السلمية.
ومن مظاهر الضعف في المواقف الأوروبية غياب
المبادرة الديبلوماسية من الاتحاد أو من بعض دوله على الأقلّ، على الرغم من تحركات
الأطراف الأوروبية النشطة عبر المنطقة، بل غابت دعوات الحلّ الديبلوماسي أو
المناداة بإنهاء الحرب، أو حتى إصدار بلاغات "ضبط النفس" عن المواقف
الأوروبية الأساسية إن تعلّق الأمر بالمواجهة في قطاع غزة. يعود ذلك إلى واقع
الاصطفاف خلف الإدارة الأمريكية في هذه المرحلة، ومفعول الاتجاه الداعم لسردية
الحرب الإسرائيلية في القارة الأوروبية.
الموقف من حلّ الدولتين:
مثّل الاكتفاء بإظهار التمسّك بـ"حلّ
الدولتين" والالتزام بتقديم المساعدات وادِّعاء الحرص على الأوضاع الإنسانية
للشعب الفلسطيني في قطاع غزة تغليفاً نمطياً للمواقف المنحازة بشكل جارف للاحتلال وحرب
الإبادة، بالإضافة إلى توجيه انتقادات إلى "عُنف المستوطنين"
الإسرائيليين في الضفة الغربية والتلويح باتخاذ إجراءات عقابية بحقّ بعضهم، لكن مع
إعفاء جيش الاحتلال من أيّ مسؤولية وإبقاء الانتقادات بعيداً عن مسرح حرب الإبادة
في قطاع غزة. أمّا الاتجاه الناقد للاحتلال فعبّر عن ذاته بالسلوك التصويتي
المبكِّر لصالح وقف إطلاق النار في الهيئات الدولية، وتقديم مبادرات في هيئات
الاتحاد الأوروبي تدعم هذا التوجّه، ثمّ في الاعترافات بدولة فلسطين التي جاءت
بشكل متزامن تقريباً من مدريد ودبلن وأوسلو وليوبليانا، وضغطت على مواقف الدول
الأوروبية الأخرى التي تُحجِم عن اتخاذ خطوة مماثلة على الرغم من إعلانها النمطي
بالالتزام بـ"حلّ الدولتين". وما زالت عواصم النفوذ الأوروبي الأبرز،
برلين وباريس ولندن وروما، تتحاشى اتخاذ مواقف واضحة في الضغط على الاحتلال أو
الاعتراف بدولة فلسطين.
السعي لمنع اتّساع نطاق الحرب:
حرصت عواصم القرار الأوروبي منذ بدء الحرب
على منع اتِّساع نطاق المواجهة خارج قطاع غزة، ويمثِّل طول أمد الحرب عاملاً
ضاغطاً عليها في هذا الاتجاه، خصوصاً مع احتمالات اشتعال الجبهة اللبنانية
الملتهبة إلى حرب مفتوحة، واستمرار التوتّر والهجمات قرب السواحل اليمنية وفي
منطقة البحر الأحمر. ويُشار في هذا الصدد إلى التحركات التي قامت بها دول أوروبية
في هذا الشأن، لا سيّما الجولات الفرنسية في لبنان والمنطقة. وفي المقابل أحجمت
دول أوروبية عن إظهار انخراطها في التحركات العسكرية في البحر الأحمر إلى جانب
القوات الأمريكية والبريطانية، ولهذا دلالاته في تحاشي الانخراط المباشر في
توتّرات المنطقة.
الاستقطاب الاستراتيجي الغربي:
جدير بالملاحظة أنّ مواقف عواصم القرار
الأوروبي جاءت متأثِّرة نسبياً بمظاهر الاستقطاب الاستراتيجي الغربي بعد نشوب حرب
أوكرانيا، بما في ذلك الاصطفاف الأوروبي الواضح خلف الإدارة الأمريكية. ويبدو أنّ
القوى الغربية تدرك أنّ خسارة الحرب الدائرة في قطاع غزة أو اتساع رقعتها إقليمياً
سيجرّان تداعيات جيوسياسية على التوازنات العالمية، علاوة على أنّ الحرب الجارية
تنطوي على اختبار جادّ لفعالية منظومات السلاح والأمن والحماية الغربية أيضاً التي
تلقّت ضربة مباغتة في حدث 7/10/2023. كما أنّ حرص أطراف أوروبية على متانة التحالف
الغربي والأواصر الأطلسية يدفعها إلى تحاشي إضعاف موقف إدارة الرئيس جو بايدن الذي
يواجه اختباراً انتخابياً شاقّاً لتجديد ولايته الرئاسية في مواجهة دونالد ترامب
الذي تثير احتمالات عودته إلى البيت الأبيض هواجس لدى الأوروبيين.
خلاصة:
وحتى مع تراكم مواقف أوروبية ناقدة للاحتلال
الإسرائيلي وحرب الإبادة الوحشية؛ فإنّ الاتجاه الأوروبي المتنفِّذ ما زال يتجنّب
توجيه لوْم جادّ إلى الجانب الإسرائيلي بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات عقابية ضدّه،
علاوة على أنّه يراعي مواقف الحليف الأمريكي في هذا الشأن ويحاول الانسجام معها
بوضوح. غير أن "إسرائيل" تتحوّل بشكل متزايد إلى عبء على الكاهل
الأوروبي، بينما يسير الاتجاه العام، وإن ببطء وتردد نحو مزيد من الإقرار بعدم
إمكانية بقاء دولة الاحتلال فوق القانون، وعدم إمكانية الاستمرار في تجاهل حقوق
الشعب الفلسطيني وضرورة تلبية ولو بعضها، مع تراجع الرهانات على كسر شوكة
المقاومة، والتفاف الحالة الشعبية الفلسطينية حول خيار المقاومة، وفشل مسار أوسلو
والتسوية السلمية.
*باحث ومؤلف، مستشار إعلامي متخصص في الشؤون
الأوروبية والدولية.