الكتاب: الاقتصاد الصهيوني الغاصب والاقتصاد الفلسطيني الأسير
المؤلف: أحمد السيد النجار
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية
ينطلق الباحث الاقتصادي أحمد السيد النجار في كتابه هذا، من تأكيد الدور بالغ الأهمية الذي أداه الاقتصاد في تأسيس الكيان الصهيوني، سواء قبل
حرب العام 1948 أو بعدها، بأموال المهاجرين الصهاينة والوكالة اليهودية، والتبرعات
من يهود الولايات المتحدة في أثناء الانتداب البريطاني، والمساعدات الهائلة المالية والعينية، المدنية والعسكرية، التي تلقاها الكيان من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. يؤكد ذلك، بينما
يلفت في المقابل إلى أن الاقتصاد الفلسطيني ظل "أسيرا ومحاصرا" تحت
الوصاية الاستعمارية البريطانية ومن بعدها
الاحتلال الصهيوني، في ظل
"تجاهل" البلدان العربية التي أدارت أجزاء من فلسطين لسنوات لقضية تطوير
الاقتصاد، ما قيّد قدرة الفلسطينيين على بناء دولتهم.
من هنا، تناقش فصول الكتاب الحقائق الأساسية عن بداية نمو الاقتصاد
الصهيوني في فلسطين، ويفند النجار الادعاءات حول بيع الفلسطينيين لأرضهم، ثم يعرض
للدعم الأوروبي والأمريكي الذي تلقته الصناعة المدنية والعسكرية الصهيونية في
فلسطين تحت الانتداب البريطاني، ليفرد بعد ذلك فصلا لتناول المساعدات الخارجية
للكيان ودورها في بناء وتطوير وتحول اقتصاده إلى اقتصاد صناعي متقدم، مع مقارنته
بالأوضاع الاقتصادية في البلدان العربية. كما يناقش النجار الاستراتيجية
الاقتصادية وطموحات الهيمنة الصهيونية تجاه فلسطين والدول العربية في مجالات المياه
والطاقة والتجارة. ويخصص الفصل الأخير من الكتاب للبحث في وضع الاقتصاد الفلسطيني،
تاريخيا وحاليا، والمعيقات التي تمنعه من التطور، وسبل دعمه محليا وعربيا.
يشرح النجار كيف بدأت عملية بناء الاقتصاد الصهيوني في فلسطين قبل
العام 1948 بنحو خمسين عاما، فخلال الحقبة من 1904 -1914 هاجر إلى فلسطين نحو 40
ألف يهودي، استقر ربعهم في 47 مستعمرة أقيمت على مساحة 420 ألف دونم، مول شراء
معظمها البارون اليهودي أدموند دي روتشيلد. وقد مثلت تلك المساحة نواة الاقتصاد
الزراعي الصهيوني، وتوسعت مع قدوم موجات جديدة من المهاجرين، ومع منح سلطات
الانتداب البريطاني مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية العامة للصهاينة.
كما توسعت الملكيات الزراعية الصهيونية من عمليات شراء الصهاينة
للأراضي الزراعية من المالكين العرب غير الفلسطينيين، ومن الفلسطينيين غير
المقيمين، بإغراءات المال أو تحت التهديد أو بسبب المذابح ضد الفلسطينيين. إلا أن
كل ملكيات اليهود من الأراضي حتى العام 1948 لم تتجاوز 11.4 بالمئة من إجمالي
مساحة الأراضي الزراعية في فلسطين. لكن النقلة الكبرى لهذا الاقتصاد الزراعي، تمت
بالعدوان والاغتصاب بعد إعلان قيام دولة الكيان، ليرتفع نصيب إسرائيل من الأراضي
الزراعية إلى 58.2 بالمئة عند إعلان الهدنة عام 1949. كما أحكم الكيان سيطرته على
الموارد المائية وتحكم في توزيعها بصورة كاملة، واستغلها لتطوير اقتصاده الزراعي.
من جهة أخرى، فقد شهدت الصناعة الصهيونية تطورا كبيرا في النصف الأول
من ثلاثينيات القرن الماضي بعد عقد اتفاقية "هاعفارا" مع ألمانيا
النازية عام 1933، التي تمكن بموجبها اليهود الألمان المهاجرون إلى فلسطين، من نقل
رؤوس أموالهم في صورة بضائع ألمانية، كان أغلبها من السلع الاستثمارية؛ أي الآلات
والمعدات اللازمة للصناعة.
ولم يكن مصادفة أن تبدأ الصناعة العسكرية الصهيونية في العام 1934.
يقول النجار؛ إن سماح بريطانيا بلد الانتداب على فلسطين، بنشوء صناعة عسكرية
لمهاجرين صهاينة، ثم إنعاش تلك الصناعة بالطلب الهائل على منتجاتها خلال الحرب
العالمية الثانية، هو أحد العوامل الحاسمة في تطور هذه الصناعة، وفي اكتمال مؤامرة
اغتصاب فلسطين؛ لأن بريطانيا في المقابل لم تسمح لبلدان عربية كبيرة كانت تحت
سيطرتها مثل مصر بإنشاء مثل تلك الصناعات العسكرية.
المعجزة الزائفة
يقول النجار؛ إن الكيان الصهيوني يصنف منذ تسعينيات القرن الماضي، ضمن
الدول الصناعية المتقدمة ذات الدخل المرتفع، لكنه مع ذلك يعد أكبر متلق للمنح في
العالم حتى الآن، وقد تضافرت الكثير من العوامل والمبررات العسكرية والاقتصادية
والديمغرافية، لتفرض حاجة هذا الكيان إلى الحصول على "تيار متدفق وضخم"
من المساعدات الخارجية، سيما في خضم عمليته الكبرى لاحتلال فلسطين. فمثلا قدمت بعض
الدول الغربية، وبخاصة فرنسا، في خمسينيات القرن الماضي مساعدات تقنية حاسمة إلى
البرنامج النووي الإسرائيلي، وكانت تقوم بالدور الأول في تسليح الكيان.
الكيان يحصل على منح وقروض واستثمارات مباشرة وغير مباشرة من مؤسسات مالية دولية، على رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والشركات الدولية العملاقة، لذلك فإن كل حديث عن "المعجزة" الاقتصادية الصهيونية أو التفوق اليهودي، هو حديث زائف يفتقر إلى الموضوعية.
وبالرغم من أن رعاية المشروع الصهيوني بدأت بريطانية، إلا أنها
انتقلت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعاظمت قوتها بعد الحرب العالمية
الثانية.وفي الوقت الراهن تبلغ المنح التي يتلقاها الكيان من الحكومة الأمريكية
وحدها 3.8 مليار دولار سنويا بداية من عام 2018، فضلا عن المنح الطارئة. وفي كثير
من الأحوال، لا تخضع هذه المعونات للقوانين الأمريكية الناظمة بهذا الخصوص. ويلفت
النجار إلى أن الولايات المتحدة لم تقدم لإسرائيل بعد حرب 1948 سوى قروض وهبات
اقتصادية فقط، وبدأت تقدم لها قروضا، غير منتظمة، عسكرية صغيرة جدا ابتداء من
العام 1959، لتنتظم بعد ذلك اعتبارا من العام 1965 حتى اليوم مع تحولها إلى منح.
ويشير النجار إلى أن قيمة التعويضات والمعونات الألمانية للكيان الصهيوني، بلغت نحو
75.4 مليار دولار منذ بداية تقديمها في خمسينيات القرن الماضي وحتى العام 2022،
وفي بداية السبعينيات كانت التعويضات الألمانية هي أكبر مصادر المساعدات الخارجية
لإسرائيل. هذا فضلا عن تبرعات اليهود من جميع أنحاء العالم، التي كانت تنهال على
الكيان في الحقبة التي تلت تأسيسه للحفاظ على وجوده بأي ثمن.
كما أن الكيان يحصل على منح وقروض واستثمارات مباشرة وغير مباشرة من مؤسسات مالية دولية، على رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والشركات
الدولية العملاقة، لذلك فإن كل حديث عن "المعجزة" الاقتصادية الصهيونية
أو التفوق اليهودي، هو حديث زائف يفتقر إلى الموضوعية، بحسب النجار.
يشرح النجار بالتفصيل مراحل تطور اقتصاد الكيان الصهيوني منذ العام
1948، ومساعيه الحثيثة للهيمنة على مصادر المياه التي لم تقتصر على فلسطين، بل
وامتدت إلى الدول المحيطة مثل الأردن وسوريا، مشيرا إلى أن هذا الاقتصاد كان في
بداياته اقتصادا متخلفا، باستثناء صناعاته العسكرية، بالرغم من كل المساعدات الخارجية
التي كان يتلقاها الكيان. ويقول؛ إن نموذج التخطيط المركزي كان هو السائد في
البدايات، حيث تهيمن الدولة على الصناعة والخدمات والاقتصاد في مجمله، وظلت
السياسات الاقتصادية حتى منتصف الخمسينيات متحيزة بشكل واضح لقطاع الزراعة،
والصناعات العسكرية بطبيعة الحال. وبعد أن حقق قطاع الزراعة الهدف منه في استيعاب
جزء كبير من المهاجرين و"ربطهم بالأرض المغتصبة"، تراجعت حصة هذا القطاع
من الناتج المحلي الإجمالي للكيان، في ظل النمو السريع لقطاعي الصناعة والخدمات.
ويفند النجار"أسطورة" التفوق الزراعي الصهيوني، مشيرا إلى
أن القطاع الزراعي لديه تماثله الكثير من القطاعات الزراعية في العديد من الدول
النامية والمتقدمة، وتعود الفعالية التصديرية لهذا القطاع، إلى أن الحجم المحدود
للسكان في الكيان يساهم في ارتفاع القدرة على التصدير. كما أن الكيان يركز على
زراعة وتصدير منتجات غالية الثمن، مثل الزهور والخضر والفواكه، بينما يستورد معظم
حاجاته من الحبوب والزيوت والأخشاب والأسماك. ويذكر النجار أن كميات المياه التي
يسطو عليها الكيان من الضفة الغربية ومعها نهر الأردن والجولان وجنوب لبنان على
الترتيب، نحو 700، 200، 400 مليون متر مكعب على أقل تقدير، في حين تبلغ تكلفة
الحصول على تلك الكميات عبر تحلية مياه البحر ما يزيد على مليار دولار سنويا لمياه
ذات نوعية أدنى.
ودون شك، تحظى الصناعات العسكرية في إسرائيل باهتمام استثنائي، وقد
شهدت تطورا هائلا سيما في ظل التعاون التقني مع الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة
وفرنسا، وبالسطو على التقنيات التي يتعذر الحصول عليها بصورة رسمية، حتى أصبحت
إسرائيل مصدرا رئيسيا للأسلحة في العالم. ومنذ عام 2007 حتى عام 2017 احتل الكيان
المرتبة العاشرة بين أكبر مصدري السلاح في العالم. وفي العام 2016 بلغت قيمة
صادراته من السلاح نحو 1260 مليون دولار. وفي قطاع الخدمات، بلغت صادرات الكيان في
العام 2020 نحو 52 مليار دولار. أما في قطاع البحث والتطوير العلمي، فتشير بيانات
البنك الدولي إلى أن محصلات الكيان من تراخيص الإنتاج وحقوق الملكية الفكرية، بلغت
849 مليون دولار في العام 2010.
طريق الخلاص
في مقابل ذلك كله، فإن الإدارة المصرية لقطاع غزة والإدارة الأردنية
للضفة الغربية بعد حرب العام 1948، اقتصرت على تسيير شؤون تلك المناطق، والتعاون مع
الأمم المتحدة لمواجهة أزمة اللاجئين الفلسطينيين. وبحسب النجار، لم تبذل أي من
البلدين جهدا منظما لبناء اقتصاد قوي كأساس لتمويل بناء القوة الشاملة، والقدرة
الذاتية للشعب الفلسطيني على الصمود ومواجهة الكيان الصهيوني. وبعد احتلال باقي
فلسطين في حرب العام 1967، أصبح الاقتصاد الفلسطيني أسيرا بالكامل لهذا الكيان
الاستعماري العنصري.
يمكن للقطاع الصناعي الفلسطيني أن ينهض بالتركيز على بناء مشروعات متوسطة وصغيرة، والابتعاد قدر الإمكان عن المشروعات الكبيرة التي يسهل تدميرها، وجعلها موضوعا لخسائر اقتصادية فادحة للمستثمرين.
فقد عملت إسرائيل على تعطيل تطور الاقتصاد الفلسطيني في جميع
المجالات، واشترطت لقيام أي مشروع صناعي فلسطيني، الحصول على موافقة السلطات
الصهيونية، وفرضت عليها رسوما أعلى من تلك المفروضة على مثيلاتها الإسرائيلية ما
أضعف قدرتها التنافسية، فضلا عن الضرائب الباهظة، وإهمال توفير البنى التحتية. عدا
عن أنها لم تسمح إلا بقيام صناعات غير أساسية، مثل صناعة الحلوى والملابس والجلود.
وبعد أن تمت مصادرة أراض تبلغ مساحتها أكثر من نصف مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة، والاستيلاء على مصادر المياه، لم تعد الضفة الغربية تزرع سوى 4% من أراضيها بالري،
في حين تزرع المساحة المتبقية بالاعتماد على المطر.
يقول النجار؛ إنه من البديهي أن يكون تخلص الاقتصاد الفلسطيني من
روابطه مع الاقتصاد الصهيوني ضروريا وحاسما لتحقيق الاستقلال الوطني الفلسطيني على
كل الصعد. ويرى أن فتح أسواق خارجية لتسويق المنتجات الفلسطينية، يعد حافزا شديد
الأهمية لنمو هذا الاقتصاد، كما يجب أن تفتح الدول العربية أسواقها لاستيعاب
الصادرات الفلسطينية دون قيود جمركية. بالإضافة إلى ضرورة تمويل بناء مشروعات
صناعية وخدمية في الأراضي الفلسطينية، تحدُّ من البطالة المستشرية وتستوعب الأيدي
العاملة، التي يتوجه جزء كبير منها للعمل في الكيان الصهيوني، وضخ الاستثمارات من
جانب الحكومات العربية التي تملك صناديق سيادية توظف المليارات في الدول الغربية.
من جهة أخرى، يلفت النجار إلى أنه يمكن للقطاع الصناعي الفلسطيني أن
ينهض بالتركيز على بناء مشروعات متوسطة وصغيرة، والابتعاد قدر الإمكان عن المشروعات
الكبيرة التي يسهل تدميرها، وجعلها موضوعا لخسائر اقتصادية فادحة للمستثمرين، على
أن تكون قابلة للاستدامة تحت أي ظروف، إلا لو كانت المشروعات الكبيرة تنفذ
بالمشاركة مع استثمارات أجنبية لدول وازنة لديها القدرة على حماية استثماراتها.
وينبغي أن تركز المشروعات الفلسطينية، بحسب النجار، على الصناعات عالية التقنية في
مجال البرمجة، وعلى الصناعات الغذائية، وبالأساس التصنيع الزراعي.